اليوم العالمي للغذاء: ليس خبز الجائع كفاف يومه
صبحي حديدي
منذ سنوات و’منظمة الأغذية والزراعة’، الـ FAO، التابعة للأمم المتحدة تخصص يوم 16/10، الذي يصادف تاريخ تأسيسها سنة 1945، يوم عالمياً للغذاء، تُصدر فيه عدداً من التقارير والإحصائيات، حول أوضاع الغذاء في العالم عموماً، وبصدد سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي في البلدان النامية والفقيرة خصوصاً. ويحدث، غالباً، أن تنطوي التقارير على أرقام كابوسية مفزعة، تصف انحدار المزيد من ملايين البشر أسفل خطّ الفقر، والفاقة، والجوع في مستواه المطلق. أرقام هذه السنة تقول إنّ أكثر من مليار آدمي، أو ثلث البشرية، سوف يكونون قد عانوا من سوء التغذية عند نهاية 2009؛ وأنّ صفوف الجياع سوف تكون قد ضمّت 100 مليون آدمي، خلال سنة واحدة؛ وأسعار المحاصيل الغذائية الرئيسية، كالقمح والرزّ والذرة، ستبقى على نسبة ارتفاع لا تقلّ عن 17 بالمئة، قياساً على اسعار سنة 2005؛ وانخفاض المساعدات المقدّمة إلى ‘برنامج الغذاء العالمي’، المنظمة الشقيقة للـ FAO، سوف يبقيها في نسبة 58 بالمئة فقط، من ميزانيتها السنوية المعتادة.
هذا في بلدان الفقر المعتادة، على امتداد آسيا، وصحراء أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، والكاريبي، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، التي شاءت تقارير المنظمتين التركيز على مشكلاتها المتفاقمة، أو المستعصية تماماً.
أمّا في البلدان الغنية، وعلى نقيض الحكمة الشائعة الخاطئة، فإنّ معدّلات سوء التغذية ليست ضئيلة أو محدودة: التقرير يقول إنّ قرابة 15 مليون آدمي سوف يكونون قد عانوا سوء التغذية في البلدان ذات الاقتصادات المتقدمة، عند نهاية العام إياه، 2009؛ وفي الولايات المتحدة وحدها، سوف يُصنّف 36.2 مليون آدمي في عداد الذين يعانون واحداً أو أكثر من أنماط سوء التغذية، بينهم 12 مليون طفل؛ ونسبة العاطلين عن العمل تستقرّ، في هذه البلدان، عند 8.6، وتتزايد معدّلات ارتفاعها بنسبة 2.3 بالمئة.
وبالطبع، تبقى الأرقام التي تخصّ فلسفة النظام الرأسمالي العالمي، أو بالأحرى النظام الاقتصادي كما تديره مجموعة الدول السبع الأغنى، عبر مؤسستيها، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في سياسات المساعدة والإقراض وخدمة الديون، حيث يقدّر الصندوق مثلاً أنّ 71 بلداً فقيراً سوف تشهد انخفاضاً بنسبة 25 بالمئة في قيمة المساعدات المقدّمة إليها. من جانب آخر، وبسبب سلسلة الأزمات المالية والمصرفية التي عصفت باقتصادات الدول الغنية، شهدت تحويلات المغتربين إلى بلدانهم الأمّ هبوطاً حاداً غير مسبوق، في مصادر دخل تُعدّ رئيسية تغطّي نسبة 6 في المئة من عموم الناتج القومي الإجمالي في البلدان الفقيرة (هي في طاجكستان 46 بالمئة، وفي هندوراس 25، وخمس الدخول العائلية في ألبانيا والفليبين والسلفادور وهاييتي).
كذلك تبقى الأرقام التي تقول مثلاً، حسب إحصائيات مجلة ‘فوربز’ الأمريكية، إنّ 224 عائلة تمتلك كلّ منها ثروة منفردة لا تقلّ عن 2,9 مليار دولار، أو أكثر؛ في حين أنّ برنامج الغذاء العالمي تلقى هذه السنة إعانات مالية (لإطعام جياع المعمورة، بأسرها!) لا تتجاوز نسبة 2 في المئة من الإعانات التي تلقتها حفنة من المصارف الأمريكية للخروج من مآزقها، فضلاً عن الترليونات التي كانت حصة المصارف في البلدان الغنية الأخرى. وليست أولى الدلالات في هذه الأرقام سوى تلك الأمثولة العتيقة، المتكررة، المعروفة: أنّ ثروات الأثرياء لا تتكدّس إلا على حساب بؤس الفقراء، سواء جرت هذه السيرورة في سوق البورصة، أو في المصرف، أو في حقل القمح…
واليوم العالمي للغذاء يمهد، كما تطمح ‘منظمة الأغذية والزراعة’، إلى وضع زعماء العالم المشاركين في قمّة الغذاء العالمية القادمة (روما، الشهر القادم)، أمام مسؤولياتهم الجسيمة، أو هكذا يأمل الدكتور جاك ضيوف، المدير العام للمنظمة، والذي يعتبر أنّ حلّ مشكلة الغذاء ممكن تماماً، ولا يحتاج إلا إلى ‘إرادة سياسية’. وقبل سبع سنوات كانت القمّة العالمية الثانية للغذاء قد التأمت في المكان ذاته، ولاح أنّ إحصائية قمّة 1996 ما تزال سارية المفعول، وأنّ الـ 800 مليون جائع ما يزالون جائعين بالشروط ذاتها، وأسوأ ربما. كذلك كان واضحاً تماماً أنّ اهتمام الغرب انصبّ آنذاك على حرب أمريكا ضدّ الإرهاب، وعلى تفكيك الخلايا النائمة التابعة لمنظمة ‘القاعدة’، إلى جانب مكافحة الهجرة وإحكام الحدود وتشديد إجراءات الأمن في المطارات… أكثر بكثير من مشاهد الجوع والجياع والمجاعات.
من جانبه كان ضيوف بين القلائل الذين أبهجتهم قمة 1996، رغم الدموع المدرارة التي سكبها في مديح بؤس الأرض، ورغم القتامة التامة التي عكسها تقريره عن وضع الغذاء الكوني. إنه، في نهاية الأمر، كان وما يزال بين أبرز ممثّلي الجيل الشاب من النيو ـ بيروقراطيين العالمثالثيين، ممّن تولّوا مناصب رفيعة في الهيئات الدولية بفضيلتين متكاملتين لا ثالثة لهما: أنهم ينحدرون من أصول عالمثالثية، وأنهم يكرهون خلط السياسة بالوظيفة، ويُبْدون بسالة خرافية في الدفاع عن ‘الطهارة’ البيروقراطية ضدّ ‘التلوّث’ الناجم عن التسييس. وفي قمّة روما 1996 قرع ضيوف نواقيس الخطر، في كلّ فقرة من فقرات خطاب طويل يحسده عليه توماس مالتوس، القسّ والمنظّر الأشدّ تشاؤماً حول مآلات أغذية العباد، وجمهرة المالتوسيين الجدد الذين كانوا ـ ليس بالمصادفة أبداً، كما تجب الإشارة ـ خيرة حلفاء المحافظين الجدد في الولايات المتحدة.
ولقد تحدّث ضيوف عن سباق ضدّ عقارب الساعة لتدارك الإيقاع المتسارع للمجاعة الشاملة القادمة، وحسد قطط وكلاب العالم المتقدّم على ما تنعم به من تسامح حكومي وشعبي إزاء ميزانيات أغذيتها، وناح واشتكى وتباكى. ولكنه تأتأ طويلاً (إذْ لم يكن في وسعه أن يفعل غير ذلك، في واقع الأمر) بصدد الاتهامات الصارخة المشروعة التي أشار إليها وسردها تقرير المؤتمر الموازي للمنظمات غير الحكومية، الذي انعقد على هيئة مؤتمر مضادّ، وطرح حزمة أسئلة، كانت وحدها الجديرة بالدراسة والتحليل والحلّ: هل تريد الدول المتقدمة تقديم حلول عملية واضحة لمشكلة الأمن الغذائي الدولي؟ هل تستطيع تأمين هذا الأمن، حتى إذا أرادت؟ وبلغة أكثر فصاحة: هل يتحمّل النظام الرأسمالي الدولي الراهن إمكانية المؤاخاة بين تخمة موضوعية يفرضها منطق السوق، وبين جوع موضوعي… يفرضه منطق السوق ذاته؟
في المؤتمر الثاني تابع ضيوف قرع المزيد من نواقيس الخطر، وأعرب عن المزيد من الإحباط والخيبة والشكوى لأنّ الجوع المزمن لا يلقى سوى اللامبالاة ، ولأنّ قمّة 96 كانت قد تعهدت بخفض أعداد الجياع من 840 مليونا إلي النصف في العام 2015 كموعد أقصى، فلم ينخفض الرقم بعد ستّ سنوات إلا إلى 815؛ ولأنّ مساعدات الدول المتقدّمة والمؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وشقيقه صندوق النقد الدولي، دائماً) انخفضت بمعدّل النصف بين أعوام 1990 و2000 في القطاع الزراعي تحديداً، وذلك رغم أنّ الزراعة تشكّل مصدر عيش 70 بالمئة من فقراء العالم. ماذا سيقول في قمّة 2009، إذا كان أحد أكثر الارقام كابوسية هو ذاك الذي يخصّ منظمته بالذات: ميزانيتها أقلّ ممّا تنفقه تسعة من البلدان المتقدّمة على غذاء القطط والكلاب لمدة ستة أيام فقط (وليس سنة، أو شهراً!)؛ وأقلّ من 5 بالمئة مما ينفقه بلد متقدّم واحد على منتجات إنقاص الوزن، الناجمة إجمالاً عن التخمة والإفراط في تناول الطعام!
وكيف يمكن له أن يواجه أياً من ‘التحديات الأساسية’ العملاقة، التي يعلنها رسمياً، وبينها ‘اجتثاث الجوع على وجه الأرض’؛ و’ضمان إنتاج غذائي كاف لإطعام سكان العالم’، سوف يزيد عددهم بنسبة 50 في المائة، ليصل إلى قرابة 9 مليارات نسمة عام 2050؛ و’ضمان تمتع البلدان النامية بفرص عادلة للمنافسة في أسواق السلع العالمية’، و’الحيلولة دون أن تسفر سياسات الدعم الزراعي عن تشويه التجارة الدولية بشكل جائر’؛ و’الاتفاق على آليات فعالة للاستجابة السريعة للأزمات الغذائية’، بالنظر إلى أنّ 30 بلداً أو أكثر تعاني حالياً من حالات طوارئ غذائية؟ وكيف سيفلح في إقناع السادة الأغنياء بأنّ اجتثاث الجوع يقتضي، أيضاً، ‘اكتشاف الوسائل الكفيلة بأن يتمتع البشر كافة بفرص الحصول على ما يحتاجونه من غذاء، كي يعيشوا حياة موفورة النشاط والصحة’؟
لعلّ من الخير له، ولممثلي البؤس في قمّة روما القادمة، أن يعودوا إلى قراءة تقرير ‘برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية’، للعام 2004، والذي ذهب آنذاك أبعد، وبالتالي أعمق، من مجرّد سرد الأرقام القاتمة عن انقسام العالم إلى صفّ التخمة عند القلّة القليلة، وأغلبية الجوع عند السواد الأعظم. التقرير ذاك حمل عنواناً لافتاً، هو ‘الحرّية الثقافية في عالم اليوم المتنوّع’، وبالتالي سعى إلى نقض نظريات صراع الحضارات، بل وسمّى النظرية الشهيرة ذاتها دون حرج أو تأتأة، وتساءل عن دور التنوّع الثقافي في التنمية.
وفي السطور الأولى من التقرير ثمة هذه الفقرة المدهشة: ‘في زمن تتردّد فيه بقوّة، وعلى نحو يثير القلق، أصداء فكرة صراع الثقافات على نطاق كوني، فإنّ العثور على إجابات للأسئلة القديمة، بصدد أفضل وسائل الإدارة وتخفيف حدّة الصراعات حول اللغة والدين والثقافة والأصل العرقي، يكتسب أهمية متجددة. وهذه ليست قضية مجرّدة في نظر المشتغلين بالتنمية’. وبالفعل، خطا التقرير خطوة فكرية غير مألوفة حين استعرض خمس أساطير حول ‘التنافر’ الذي يعيق التنمية الإنسانية والسياسية، والثقافية، ثمّ سعى إلى تقويضها واحدة تلو الأخرى:
ـ الأسطورة الأولى هي أنّ هويّات البشر الإثنية تتنافس مع ارتباطهم بالدولة، ولهذا يوجد نوع من التنافر بين الإقرار بالتنوّع وتوحيد الدولة؛ الثانية تقول إنّ المجموعات الإثنية ميّالة إلى النزاع العنيف مع بعضها البعض بسبب صراع القِيَم، ولهذا يوجد نوع من التنافر بين احترام التنوّع وتوطيد السلم؛ الثالثة تساجل بأنّ الحرية الثقافية تتطلّب الدفاع عن الممارسات التقليدية، ولهذا يمكن أن يوجد نوع من التنافر بين الإقرار بالتعددية الثقافية وقبول أولويات إنسانية تنموية أخرى مثل التقدّم والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ والرابعة تجزم أنّ البلدان المتعددة إثنياً أقلّ من سواها قدرة على التنمية، ولذلك يوجد تنافر بين احترام التنوّع وتوطيد التنمية؛ والأسطورة الخامسة تخلص إلى أنّ بعض الثقافات أكثر ملاءمة من سواها لتحقيق التقدّم التنموي، وبعض الثقافات عندها موروث من القِيَم الديمقراطية لا يتوفّر عند سواها، ولهذا يوجد تنافر بين الحفاظ على بعض الثقافات وإشاعة التنمية والديمقراطية.
تلك مسائل لا يلوح للوهلة الأولى أنها تقارب قضية الجوع مباشرة، لكنها مستقرة في صلب أسباب انقسام العالم إلى 85 بالمئة من الفقراء، و15 بالمئة من الأغنياء، وأنّ بلداً مثل البرازيل (بمساحة 2.3 مليون ميل مربع، وعدد سكان يبلغ 168 مليون نسمة، وصادرات بقيمة 15.1 مليار دولار) يصدّر بضائع أقلّ مما تصدّر هولندا (بمساحة 21.978 ميل مربع، وعدد سكان لا يتجاوز 15.7مليون نسمة، وصادرات بقيمة 198.7 مليار دولار).
ذلك لأنّ الجوع ليس أن تتضوّر المعدة، فحسب؛ كما أنه ليس خبز الجائع، كفاف يومه فقط!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –