صفحات الشعر

آخر ما كتب من قصائد كلّ هواء الموتى حيّ، براحة إله أمريكا

null
هارولد بنتر
يعتنق كثير منا فلسفة أن العالم موجود في نظام، أما بالنسبة للمسرحيّ والشاعر الإنكليزيّ هارولد بنتر، فهو لا يرى مصداقية لتحقّق هذا النظام، جلّ ما يراه أن العالم موجود بادّعاء النظام، فالعالم فوضى، وكلّ من يريد شيئاً فعليه تحقيقه، بأيّ مسعى كان. في تحليله لقوى التعصّب والاستبداد والقسر، يعمل بنتر على تنوير مبدأ قوة الألم الفرديّ. ولأنه ابن ترزيّ، فقد قام بقصقصة اللغة، وسمح للحدث بأن يعود إلى أصله عبر أصوات وإيقاعات لكلّ شخصية خلّقها. وعلى هذا، فلا نرى حبكة واضحة أو ذات أهمية تُذكَر في معظم أعماله. لا نسأل أنفسنا في مسرحه ‘عما سيحدث تالياً’، بل ‘عما يحدث الآن وفقط’.
قام بنتر بتوظيف الدراما الواقعية في غموض لا يُفضّ أحياناً، فشخوصه بمظاهر متعدّدة، قد نراها وهي تعيش بين ظهرانينا، تكبر وتشيخ كما نكبر ونشيخ. شخوص صلبة متكاثفة معقّدة، لا نسبر أغوارها ضمن مسارها في الحياة العامة. وقد تتحلّل ضمن سياق أثيم حتى قبل تبيّن مصائرها وهي تمضي للنهاية. شخوص تبعث برسائل لا يتسلّمها أحد، أو لا تصل أصلاً، فنغادر المسرح ونحن أقلّ يقيناً مما كنا عليه قبل دخوله. إن تحوّل بنتر، عبر مساره الفنيّ، من نمط ‘الواقعية النفسيّة’ إلى النمط ‘الغنائيّ’؛ وأخيراً إلى النمط ‘السياسيّ’؛ لا يبدو أمراً مُخلاًّ، حيث تتّصل أعماله بسياق متقارب، حتى تلك التي نرى فيها شذوذاً عن مساره المعهود، فهي تطوّر مفهومه المبدئيّ عن تحليل الوعيد والظلم نحو قيمة أعلى إنسانية.
ولو قمنا بعملية استقصاء في الأدب، لرأينا أن الكلمات مجموعة أدوات للسيطرة، للهيمنة على النفوس عبر التاريخ، عبر الألم والمعاناة والقهر والظلم، من بدء الخليقة حتى عهدنا الحالي. لرأينا أن’الكلمات تتكرّر لربما تشبه الحقيقة يوماً. أما بعصرنا الذي يمتاز بفرضية وقوة وفورة المعلومات، فيعمل بنتر على تحرير هذه الكلمات من توصيف واقعها الرازح، فهو يُحيلها أن تكون أخيراً هي الواقع نفسه. وعبر اللغة، عبر صورتها في الكلام، تجلياتها بالصيغ التي يتخلّق فيها هذا الكلام، يمكننا محو مصائرنا وإعادة تخليقها.
كتب عنه الناقد ديفيد هار ‘لقد فعل بنتر بالمسرح ما فعله أودن بالشعر، الذي قام بعملية تنظيف لأحشاء اللغة الإنكليزية، فصارت من بعده متدفّقة سلسة. إنه يخفي ضمن شخوصه وأعماله روحاً مستأسدة وثّابة تقبع تحت نظام صارم. وجوهر جاذبيته هو أنكَ تجلس إلى ما كتب من مسرحيات ولديكَ توقّع ما لا يُتوقّع. مع هكذا مؤلّف، لا تعرف ما سيقذفه عليكَ من جحيمه’.
ونترجم هنا بعضاً من آخر قصائده التي جاءت في كتاب ‘أصوات منوّعة، في النثر والشعر والسياسة’، التي يمزج فيها بين حسه بالموت، فقد طحنه السرطان، وغضبته من تورّط إنكلترا وأمريكا بحرب العراق، ولو رأى ما دار في غزة لما ندم على ما قال:

موت

أين وجِدَ الميت؟
مَن وَجدَ الميت؟
هل كان الميت ميتاً حين وجدوه؟
كيف وجِدَ الميت؟
لمن كان الميت؟
من والد أو ابنة أو أخ أو عمّ أو
أخت أو ابن الميت المخذول؟
هل كان ميتاً حين خذلوه؟
هل خذلوا الميت؟
من خذلَ الميت؟
كان الميت عارياً أم كاسياً بالرحلة؟
ماذا جعلكَ تعلن أن الميتَ مات؟
هل أعلنتَ أن الميت مات؟
أنّى لكَ أن تعرف الميت؟
كيف عرفتَ بأن الميتَ مات؟
هل غسّلتَ الميت؟
هل أحكمتَ عينيه؟
طمرتَ الميت؟
هل خلّيته مخذولاً؟
وهل قبّلتَ الميت؟

لقاء

هم موتى الليل،
ينظر حذراً قدماءُ الموتى
للموتى الجدد، سائرين نحوهم.
هناك دقّةُ قلبٍ واهنة
حين يحتضنُ الموتى
قدماءَ الموتى
حين يسير الموتى الجدد
نحوهم، يقبّلون ويصرخون
في لقائِهم من جديدٍ
لأول وآخر مرة.

قد يكبر الموت
قد يكبرُ الموت
لكن لا يزالُ ذا سُلطان،
يُجرّدكَ الموتُ بنوره الشفّاف،
وهو بالغُ الحِذق
حتى لا تعرفه قطّ،
حيثُ يرتقبكَ ليغوي عزيمتك،
ينضو عنكَ ملبسك وأنت تلبس،
ليقتل…
لكن الموت يُجيز لك
أن تُرتّب ساعاتك،
ريثما يمتصّ الرحيق
من زهرك الشقيق.

إلى زوجتي

كنتُ ميْتاً، وأنا الآنَ حيٌّ
فترفّقتِ بيدَيّ.
متّ أعمى، فترفّقتِ بيدَيّ.
رأيتِني أموتُ، فرأيتُ
حياتي. كنتِ حياتي
حين مِتّ. أنتِ حياتي،
وهكذا أعيشُ.

شهوة

هناك صوتٌ أسود
على التلّ ممتدّ،
فتدورُ عن النورِ
الذي يُضيء جداراً أسود.
يجري ظلٌ أسود
عبر التلّ الورديّ،
مُكشّراً وهو يعرق
فيقرعُ جرساً أسود.
تمتصّ النورَ البليلَ
حين يغمر زنزانتكَ
وتشمُّ الشهوةَ من شهوانيّ ٍ
وهو ينقُر بذيله.
شهوةُ الشهوانيّ
ترمي بالجدارِ صوتاً أسود
شهوةُ الشهوانيّ
لا تزالُ تهدهد فيكَ؛
عزمهُ العذب أسود.

بعد الغداء

تهلّ بعد الظهر مخلوقاتٌ أنيقة
تشمشمُ بين الموتى
ثمّ تلتهم غداءها.
كثيرةٌ هي المخلوقاتُ الأنيقةُ،
تقتلعُ من الغبارِ الثمرَ الريّان،
فتثيرُ الحساءَ الكثيفَ بعَظمهِ
المتفتّت. وبعد الغداءِ
تسترخي فتتكاسلُ
لتُصفّي الدمَ بجماجمَ مستريحة.

باركِ اللهم أمريكا

ها هنا يمضون ثانيةً،
اليانكي باستعراضٍ مسلّح،
يردّدون أغانيهم السعيدة
راكضين عبر العالم الكبيرِ
يمتدحونَ إلهَ أمريكا.
البالوعات انسدّت بالموتى
من لم يلتحق بهم
ومن يأبى الغناءَ
من يفقدون صوتهم
ومن تناسوا اللحن.
الفرسانُ لديهم سياطٌ قاطعة.
رأسكَ يتدحرجُ في الرمل
رأسكَ بِركةٌ في الوسَخ
رأسكَ بقعةٌ في التراب
عيناك جاحظتان وأنفكَ
يشمشم في شوكةِ الموتى
وكلّ هواء الموتى حيٌّ
برائحة إله أمريكا.

الديمقراطية

لا مهربَ.
الثقوب الكبيرة قد خرجت«”
سيُجامعون كلّ شيءٍ علناً.
فراقب ظهركَ.

قدّاس لراحة الموتى
كما يقولون على الدوام،
العميان، الصُمّ، ومن بقي ليموت،
المؤمنون من زمنٍ بالليل،
الأجداد الحذرون من النور
لكنهم وجدوا فتحات حجرتهم
هشّمها البحر الذي زمجر عليهم
فأغرقهم وأمسك عنهم الهواء
عقاباً على رغباتهم.

لا تنظر
لا تنظر، يوشك العالم أن ينفجر
لا تنظر، يوشك العالم أن يقذف نوره
حيث نقتـَل أو نموتُ أو نرقصُ أو
نبكي أو نصرخُ أو نصيء كالفئرانِ،
كي نتفاوضَ حول قيمتنا المبدئية.

ناشط ثوريّ

هارولد بنتر (1930 ـ 2008)، ولد بلندن. ولدى نشوب الحرب العالمية الثانية، نزح عن لندن بعمر التاسعة، ثم عاد بعد بلوغه الثانية عشرة. قال إن قنابل الحرب لا تفارق مسمعه. وقام في المدرسة بتمثيل عدّة أدوار، ماكبث وروميو مثالاًَ، مما حفزه لتبنّي مهنة التمثيل. قُبل عام 1948 بالأكاديمية الملكية لفنون المسرح. وعام 1950 نشر أولى قصائده. درس عام 1951 في معهد الدراما، واشتُهر بأداء شخوص شكسبير. تزوّج مرتين، له ابن واحد، دنيال، من زوجته الأولى، كاتب وموسيقار.
بدأت شهرة بنتر عام 1957، حين قُدّمت مسرحيته ‘الغرفة’ بمسرح بريستول. أما ‘حفلة عيد الميلاد’ فاعتُبرت ظاهرة مسرحية. ثم تتالت مسرحياته عبر السنين، لتُحقّق له ما لم يُحقّقه غيره من مبدعي الدراما بالقرن العشرين. كما كتب عدداً من التمثيليات للإذاعة، وعشرات السيناريوهات للتلفزيون والسينما، أهمها ‘الخادم’ و’الحادثة’. وله مساهمات رائدة في عالم الإخراج.
بعد اغتيال ثائر شيلي سلفادور الليندي عام 1973، أصبح بنتر ناشطاً في مجال حقوق الإنسان. وقد أدان تدخّل حلف الناتو في أزمة كوسوفو، حيث تسبّب في مذابح وقتل جماعيّ وتطهير عرقيّ. ثم ندّد عام 2001 بالتدخّل الأمريكيّ في قصف أفغانستان، حيث رأى أنه لن يزيد العالم حرية. كما انضمّ إلى إحدى اللجان الناشطة عبر العالم لمقاومة الحرب على العراق، وقال في خطاب له بجامعة أمريكية ‘صرّح بوش بأنه لن يسمح لأسوأ أسلحة العالم أن تبقى في أيدي أسوأ زعماء العالم. وهذا صحيح. لكن عليه أن ينظر إلى المرآة’!
وفي عام 2005، نال الجائزة الأسمى في عالم الأدب، جائزة نوبل. وعلى الرغم من أنها جاءته متأخّرة، في عيد ميلاده الخامس والسبعين، وكان يعاني من سرطان المريء، إلا أن عزاءه كان أن تُمثّل مسرحياته أكثر في أنحاء العالم بعد الجائزة. وكان بنتر قد أعلن قبل الجائزة بأشهر، أنه سيكفّّ عن كتابة المسرح، ليضع ما بقي من طاقته في النشاط السياسيّ. قال ‘كتبتُ تسعاً وعشرين مسرحية، ألا تكفي؟’. وقد كتب قصيدة رثاء لمحمود درويش، إلا أنه توفّي بعده بشهرين.
من مسرحياته: ‘الغرفة’ (1957)، ‘حفلة عيد الميلاد’ (1957)، ‘النادل الأبكم’ (1957)، ‘ألم طفيف’ (1958)، ‘الناظر’ (1959)، ‘ليلة في الخارج’ (1959)، ‘مدرسة ليلية’ (1960)، ‘الأقزام’ (1960)، ‘العاشق’ (1962)، ‘حفلة شاي (1964)، ‘العودة للوطن’ (1964)، ‘البدروم’ (1966)، ‘مشهد طبيعيّ’ (1967)، ‘صمت’ (1968)، ‘أوقات قديمة’ (1970)، ‘أرض ليست لأحد’ (1974)، ‘خيانة’ (1978)، ‘أصوات عائلية’ (1980)، ‘شبه ألاسكا’ (1982)، ‘شخص على الطريق’ (1984)، ‘لغة جبلية’ (1988)، ‘النظام العالمي الجديد’ (1991)، ‘رماد من رماد’ (1996)، ‘احتفال’ (1999)، ‘ذكرى أيام خلت’ (2000).
من دواوينه: ‘قصائد’ (1971)، ‘أعرف المكان’ (1977)، ‘القصائد الكاملة’ (1995)، ‘الخفيّون، وقصائد أخرى’ (2002)، ‘حرب’ (2003).

من (محاضرة نوبل)

‘لا تستبين الحدود بوضوح بين ما هو حقيقيّ وما هو غير حقيقيّ، ولا بين حقيقيّ وزائف. ليس بالضرورة أن يكون الشيء حقيقياً أو زائفاً. فقد يكون حقيقياً وزائفاً في آن واحد. أعتقد أن هناك تمايزات فارقة، قد تتوافق في مسعى اكتشاف الواقع بطريق الفن. بصفتي كاتباً، أساند مثل هذا الموقف، لكني كإنسان لا أستطيع. كإنسان، أسأل نفسي عما هو حقيقيّ وما هو زائف. والحقيقة في الفن مراوغة دائماً. لن تعثر لها على أثر أبداً، لكن عملية البحث عنها ملزمة. لأن هذا البحث، بوضوح، هو مبحث الساعي. والبحث مهمته. وغالباً ما تزلّ خطواتكَ في البحث عن الحقيقة بالظلام، قد تتصادم معها أو تلمح صورة فحسب أو شبحاً يبدو أنه يتراسل مع الحقيقة، دون أن تعي ذلك في النهاية. لكن الحقيقة الواقعية التي هناك، ليست على الإطلاق ما تبدو عليه الحقيقة في فن الدراما. هناك عدد وعديد. تتحدّى هذه الحقائق بعضها الآخر، ترتدّ عن بعضها الآخر، يعكس بعضها الآخر، يتجاهل بعضها الآخر، يهتك بعضها الآخر، لأنها كلّها عمياء عن بعضها الآخر. وقد تحسّ أحياناً بأنكَ قابض على الحقيقة في لحظة بيديكَ، وفجأة تنسلّ من بين أصابعكَ وتضيع. ويسألني الناس على الدوام، كيف أُركّب مسرحياتي. فأَحير جواباً. حتى لا أستطيع ذكر عدد هذه المسرحيات. ليس لي أن أقول إلا أن هذا ما صار. هذا ما قالوه. هذا ما فعلوه. لحظة غريبة، هي لحظة تخليق شخوص كان وجودها عدماً حتى اللحظة.’وتالياً ينشأ تشنّج، زعزعة، أو هلوسات؛ وقد يكون الأمر كجلمود صخر لا يقف. وظيفة المؤلّف أمر عجب. فهو لا تُرحّب به شخوصه. شخوصه عنيدة، ليس سهلاً أن يُعاشرها، ويستحيل تحدّي إرادتها. ليس لكَ أن تُملي عليها ما تريد. وإلى حدّ ما، تلاعبها لعبة لا تنتهي، قطّ وفأر، عصا رجل كفيف، لعبة استغماء. لكن تجدها في النهاية ناساً من لحم ودم على يديكَ، ناساً بعزائم وحساسية مفرطة من جانبها، تقوم بتجميع أجزائها فيُعجزكَ أن تُغيّر أو تعالج أو تُصحّف أحوالها. وهكذا تظلّ اللغة في الفنّ صفقة ملتبسة إلى درجة بالغة، رمال متحرّكة، منصّة بهلوان، بِركة مُجمّدة قد تسلُك بمؤلّفها درباً من تحتها، في أيّ وقت. ولكني أُكرّر، إن البحث عن الحقيقة لا يتوقّف أبداً. لا ينفَضّ، ولا يُؤجَّل. علينا بمقارعتها، هناك، مباشرة، على الساحة. حين نتطلّع في مرآة، نظنّ الصورة التي تواجهنا دقيقة. لكن لو تحرّكنا مليمتراً واحداً، تتحوّل. فنحن نتطلّع فعلياً في تنويعة لا نهائية من الانعكاسات. وعلى الكاتب أحياناً أن يهشّم المرآة؛ حيث نرى على الجانب الآخر من هذه المرآة تلك الحقيقة، وهي تُحدّق فينا بأعيُنها’.
ترجمة: محمد عيد إبراهيم
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى