صناعة النجوم

حنان عاد
الكتّاب النجوم مصطلح مستحدث نسبياً لا أدري من هو الريادي الذي أدخله الى القاموس النقدي الأدبي. ونرى تداول هذا المصطلح الى تصاعد. فلنحاول معاً اكتناه المعنى والبعد الخاصين بعبارة الكاتب النجم.
لا بدّ من الرجوع أولا بهذه التسمية الى شيوعها الكثيف منذ زمن طويل في الأوساط الفنيّة في مختلف الميادين: الممثل النجم ، المطرب النجم، المغني النجم، الراقص النجم، وتلك جميعها في المؤنث أيضاً وطبعاً، العارضة النجمة…
وحتماً لا يختلف اثنان، عاقلان أكيداً، على أنّ عالمنا الفني الشامل، وخاصة في لبنان والعالم العربي (أوليس لبنان من يصنع النجوم ويروّج لهم ويصدّرهم حتى بات يصحّ فيه نعت منجم النجوم؟) مكتظّ بالنجوم الطالعة من كلّ حدب وصوب، في ميادين الفنّ جميعها. ودعوني قليلاً أطلق بعض العنان لنزعة ساخرة تساورني كلّما طالعتني، بل اقتحمت نظري في الطريق لوحة اعلانية ضخمة مرفوعة على راحات الأبنية الضخمة الفخمة هنا وهناك لمطرب، بل لمغنّ، أو مغنية طبعاً، وربما خاصة مغنية، ليس الا لاعلان نجوميته على رؤوس الأشهاد وتحقيقه الفتوحات الفنية الواحد تلو الآخر، ولو أنّ الصوت لا يسعفه أو لا يسعفها الا شحيحاً! وما همّ؟ الصورة الضخمة الفخمة، وكلّ ما يحتشد فيها من همم المزينين والمصوّرين كي تكون الاطلالة في الحلّة الأبهى، والأشهى، والأكثر جذباً، وصعقاً، وطواشاً، وحتماً… أكثر اغراءً. ولم لا؟ لا تستقيم أيّ صورة، أي أمر، من غير التصاقه بالسكسي. السكسي لازمة حتمية في أي توليفة اعلانية، وهذه اللازمة تستشري بوتيرة فظيعة حتى صارت غالبية البورتريات والكليبات الفنية ضرباً من الدعوة الى حميمية ما، فيما البشر في عزّ انصرافهم الى أعمالهم لتحصيل لقمة عيشهم.
خطط ترويجية
عود على بدء. اذاً، صفة النجومية وافدة من عالم الفن وخاصة الغناء والتمثيل، وكم ظلم ويظلم النجوم الحقيقيون، خاصة عندنا، حين تشحذ الهمم بكلّ ما أوتيت من قوة وسلطة ومال وغيرها لتسليط الضوء على الأقلّ موهبة بألف وسيلة ووسيلة، وهل أمضى من سلاح الاعلام؟ لا سيما حين معظم المتلقين أو نسبة كبيرة منهم تنطلي عليهم ما أحبّ أن أسمّيه المؤثرات الخاصة، وأعني به كلّ ما هو سوى الموهبة البحتة والخام والجوهرية. والمؤثرات الخاصة أكثر من أن تحصى وتحدّد في عالمنا التكنولوجي الانترنتي حتى الجنون حيث التوليف والتركيب والتجهيز والفوتوشوب والفبركات المنظورة وغير المنظورة ووسائل التجميل والتحسين اللامتناهية في الأشكال والمضامين… وبذا تبدو النجومية سهلة المنال إذا ما تاق اليها أحدهم أو احداهن، والمهم في هذا السياق اتّصافه بما يسمى جنون العظمة والشهرة (ولسنا هنا في وارد الدخول في المعاني والمعايير الحقيقية للعظمة والشهرة). هذا كان حتى الماضي القريب ينطبق على عالم الفن والغناء وحده، امّا اليوم فعدواه امتدّت الى عالم الأدب حيث الكاتب النجم خلطة تتضافر فيها الألاعيب الخاصة التي تسلّط الضوء على الشكل والحياة الخاصة بما تشمل الملبس والمأكل ووسائل الاهتمام بالوجه والجسد، وكل ذلك على خلفية من البروباغندا المبرمجة تماما كالاعلان التجاري كنوع من الترويج المثابر والمدروس والمنظم، حتى ان القارئ النجيب سرعان ما يفهم أن ثمة نوعا من الأمبريزاريو، بل هو الأمبريزاريو الفني نفسه تمدّد الى الوسط الثقافي وان بطريقة خفيّة، وينبغي أن تبقى كذلك، كي لا يبهت حضور بعض الكتاب المسمين نجوما، كي لا ينكشفوا وتنكشف خططهم الترويجية فيذوب الثلج وينكشف المرج وتبهت الصورة التي طالما جهدوا الى فرضها ولو تضخيماً ولو على المقاس التائقين اليه أكثر منه المقاس الواقعي لتلك الصورة.
وهنا لا بدّ من الالتفات الى الخطورة الفظيعة التي يرتبها على عالم الأدب دخول مفهوم الامبريزاريو اليه، أي ذاك الظل الخفي (ليس على الكلّ طبعاً!) للكاتب يخطط له ويروّج للمذهل الذي سيحققه هذا الأخير، ويولّف له نصوصه ويشذّب ويحذف الغث ويضيف الصاعق ويسكب كلّ عصارة تجربته الخاصة وروحها في نتاجات الكاتب الذي ارتضى أن يكون امبريزاريوه مبتهجاً. وكم هذا مدعاة للمرارة والسخرية في آن لدى الضنينين بالأدب ولا بدّ هم يسألون بقلق عارم هنا: أين اذاً العنصر الأساس في مسيرة الكتابة وأعني عنصر المجازفة والقلق المرهق الذي يفترض بالكاتب أن يكابده إزاء كلّ نصّ وكلّ كتاب ينتجه؟ أين جحيمية الابداع إذا كانت طرقه معبّدة دوماً بالنجاح المضمون سلفاً؟ المدروس سلفاً؟ المبرمج سلفاً؟ وهل الكاتب الحقيقي من يكون موقناً بلا انقطاع أنّ كل ما يطلع من تحت يده انما هو الابداع بعينه، بروحه، بأمه وابيه مفيداً من جميع وجبات التسويق الدسمة المتاحة ومن ثغرات ونقاط ضعف اجتماعية مستحكمة وكفيلة خلطاً عشوائياً ومحو الحدود بصورة مريعة بين جرأة مجــرّدة، وما قــد يخــيّل لنا أنه جرأة وأنه يكسر السائد ويحــطّم الأصنام ويتمرّد على التقاليد ويســمّي الأشــياء بأسمائها!
اذاً، ثمة كتّاب نجوم انما يستمدّون نجوميتهم من كثافة طرح ذواتهم ونتاجاتهم في الواجهة وتحت الأضواء الكاشفة التي تجسّدها الانترنت بامتياز في الدرجة الأولى، وخاصة حين شبكة العلاقات العامة والخاصة لا تقلّ أهمية عن شبكة الانترنت نفسها، وخاصة حين الشعار المتذاكي هو السيد: لا يهم ما عندك وما تعرف بل من تعرف. والأرض الانترنتية شديدة الخصوبة ها هنا والمواقع الثقافية والأدبية الالكترونية يا مين يشيل وسوق عكاظ أيام زمان بعثت شعراً وأدباً وتجارة ولكن على الطريقة الأكثر حداثة وسرعة. بقدر ما تطمح الى النجومية وتتقن أسرار صنعها مع الامبريزاريو بقدر ما تتألّق ويعظم شأنك وتطير بسرعة صاروخية الى حيث فعلت خططك فعلها بغض النظر عن كمية الايهام المنطوية عليها. وثمة سؤال يطرح ذاته بذاته في هذا السياق: من أين يأتي الكاتب بالوقت لهذه الهمروجات الاعلامية الدعائية؟ إما أنّه لا يؤدي أي عمل آخر سوى مهمة الترويج لنفسه هنا وهناك، أو أنّ الأمبريزاريو الخفي هو من يقوم بالمهمة موظفاً كلّ سخائه اللغوي في خدمة الهالة التي يواظب على إسدالها على كاتبه النجم. وهذا بات مكشوفاً للمتابع الذكي الذي لا تروّضه شطحات اللغة وتذاكي صاحبها ومحاولة أخذنا بالعافية وفق التعبير المصري. لكن المشكلة الكبرى ـ وهنا الطامة الكبرى وقمة المأزق والأسف ـ أنّ نسبة عالية من القراء لا تمتلك من الحصانة الثقافية والمعرفية ما يكفي لحماية أنفسهم من الانذهال أمام ما خطط له وكتب ليذهل ويطيّر العقول، وهذا ما يسهل تحديداً صيرورة البعض نجوماً بين ليلة وضحاها. والطامة الكبرى أن عالمنا العربي يلبث أسير كل ما هو مؤسطر وسجين سحر العنتريات والمبارزات الاستعراضية للقوة وان فاحت من رائحة البطولات روائح الوهم والايهام والتفخيم والتضخيم والمبالغات القاتلة! وهنا يكمن تحديداً سرّ الكتاب النجوم. نجوميتهم وليدة مجتمع ما زال يعيش على أطلاله ويتوق دوما الى أبطال وعناترة !
أحسن هندام
ثمّة صورة طالعتني وأنا أكتب هذه المقالة. تصوّرت شيئاً ما، وخفت كثيراً. تصوّرت شاعرا مثل شوقي أبي شقرا أو أنسي الحاج أو روائية مثل حنان الشيخ وقد اعتلت لوحات صورهم الضخمة والعملاقة الأبنية واحتلّت واجهات الملصقات الاعلانية والفنية! خلتهم في أحسن هندام وابتسامات مفتعلة وعيون توحي بأنها ملأى رفاهية وسعادة. تلك من أدوات العدّة المفترضة للنجومية! بلى خفت كثيراً وارتعدت وانحزت لنجومية نتاجهم وتواريهم الجميل خلفه، وانحزت أيضاً وتلقائياً لصور عدة لأنسي الحاج رأيتها ورآها كثر سواي، يكاد يغطي فيها وجهه بيديه أو يخفض عينيه قليلاً أو يبدو وقد أصابه شيء من الارتباك لأن صورة تلتقط له، وانحزت أيضاً وخاصةً لكلام في غاية الجمال كان قاله لي الشاعر شوقي ابي شقرا. ذات يوم دخلت مكتبه في النهار لأسلّمّه مقالة لي ودار بيننا حديث عن الشعر والكتابة وجدواهما وعن انتظارات الكتاب والشعراء من فعل الكتابة ومما قال لي انه شخصياً يكفيه، شاعرا، أن يعرف أن ثلاثة أو أربعة أشخاص تواصلوا جيداً مع نصهّ وقدّروه وأحبّوه!
ثمّ دعوني أفتح مزدوجين لكلام تفوّه به في هذا السياق الشاعر والمفكر الالماني المرموق هانس ماغنوس انتسينسيبرغر في حوار مطوّل لي معه في ألمانيا أخيراً (نشر في كل من جريدتي لوريان لوجور والسفير اللبنانيتين): ثمّة التشوّه الذي هو النرسيسية، والذي يعاني منه كتّاب وشعراء كثيرون. هؤلاء مرضى بجنون العظمة. يتهيأ لهم انهم جميعهم عظماء وعباقرة وحائزو نوبل… لهذا أجدني حذراً هنا. انها النزعة المتصاعدة اليوم نحو صورة الكاتب النجم على طريقة مشاهير السينما والغناء لكن هذا سيرك! انه سيرك كبير للمشاهير! ويتوجب الحذر منه قليلا. أنا لم أشارك قط في «توك شو». لا أريد الذهاب! ببساطة كلية، يجب عدم الذهاب الى «توك شو». ولماذا؟ للدعاية؟ كلا، لا أحتاجها. لا! يجب الابتعاد بعض الشيء. بعض الروائيين يبدون أحياناً كأنهم في مباراة كرة القدم. كتبهم متوافرة في أي مطار …! لديهم مشاكل، لأن كاتباً يسلّفه الناشر مثلاً ثلاثة ملايين دولار، هو عملياً مجبر على تحقيق نجاح واسع لأن عليه ان يغطي السلفة. نعود هنا إذاً الى مسألة الحرية لنقول ربما ان هؤلاء الروائيين لا يسعهم ان يكونوا أحرارا كفاية .انتهى كلام انتسينسبرغر.
نجمة الأدب
ان قراءة متأنية لكل ما سبق أعلاه يدفع الى التفكير في أركان ثلاثة أساسية لا فكاك منها كي يكون المرء كاتباً، بل الأصحّ كاتباً حقيقياً:1ـ ملكة الموهبة السليقية الأصيلة، غير المستوردة من أي عوامل خارجة عن منجم الذات، 2ـ العصامية بكل ما تعنيه من نضالات فردية وذاتية تماماً، أي بمعزل عن أي موجّه أو مسيّر أو مخطط منظور أو غير منظور والا بطل معنى عبارة عصامية بطلاناً فادحاً، 3ـ الحرية وهي عماد جوهري في مسألة الكتابة، وهي مسألة في غاية الدقة والالتباس في آن واحد بحيث لا يدركها أو يدرك ضعفها أو انعدامها سوى الكاتب نفسه مهما بدا متمتعاً بها ومالكاً اياها.
أما الكاتب النجم ولو امتلك (وربما لا أيضاً) الموهبة السليقية الا أنه يلبث عاجزاً عن مجاراة العصامية والحرية، بل هو أبعد ما يكون عن العصامية والحرية مهما استوجبت لعبة النجومية الايحاء بالتصاق فضيلتي العصامية والحرية بشخص الكاتب النجم. مبدأ نجوميته قائم أصلاً على غيابهما. العصامية والحرية لعبتان مضنيتان غريبتان عمّن يطمحون الى النجومية ويسعون اليها، اذ النجومية تحتاج الى الآخرين، الى اكبر عدد ممكن من الآخرين، أي الى جمهور، ومجرّد احتياجــها الى الآخــرين يستتبع حتماً انتفاء مفهومي العصامية والحرية معاً!!
أنقذونا وأنقذوا أنفسكم يا «سامعين الصوت» من الكتّاب النجوم ومن مرض النجومية المتفشي في جسد الأدب. حيّدوا الادب وفعل الكتابة النبيل الجميل في حدّ ذاته، عن الانحراف نحو ألاعيب النجومية وحبكات الشهرة ووصفاتها. وعطفاً على استخدام انتسينسبرغر عبارة السيرك، اردعوا التهريج والمهرّجين عن التحكم بعنق الأدب. دعوا للفن الغنائي والسينمائي نجومه وأقماره وسعفــاته الذهبية والفضية والبرونزية، دعوا للسماء نجومها وقمرها. عودوا الى رشدكم ولنهــتدِ بنجــمة واحدة وحيدة ليست ســوى نجمة الأدب ننبهر بها، وبها وحدها نُبهِر!

، النمسا
ملحق السفير