فكرة صديق غاب!
ميشيل كيلو
عندما رأيته أول مرة على شاشة التلفاز، قلت لنفسي: إنه يسهب في الكلام، ويطيل في الشرح، وربما كان يستعرض معارفه ومعلوماته. كان يتحدث بطلاقة وثقة بالنفس، مقدما فيضا من المعطيات حول موضوع بدا قريبا إلى عقله ونفسه هو فلسطين وعلاقتها بمصر. في نهاية حديثه، وكان على قناة الجزيرة، راودني سؤال: ولماذا لا يستعرض معارفه وشروحه ويستفيض في عرضها، إذا كانت على هذا القدر من الجدية والجدة؟. يومها، نمت وأنا أفكر في فصاحته وقوة حجته وسلاسة كلماته وترابط منطقه. ولأنه كان من الجيل الذي لم أعرفه، حين كنت طالبا في جامعة القاهرة أوائل الستينيات، فقد أثار فضولي، وجعلني كثير السؤال عنه، عند لقاء زملاء وأصدقاء الدراسة.
في المرة الثانية، وكان كثير الظهور في التلفاز بفضل ألمعيته ووسامته وشهرته، تعزز إعجابي به، فقد كان ألمع بكثير من شريكيه في الحوار الدائر حول الواقع العربي، وكان يتحدث هذه المرة أيضا بطلاقة وسلاسة، ويقدم أفكارا مترابطة، واضحة ومتناسقة، ومقنعة. وكانت معلوماته واسعة تنم عن معرفة بتفاصيل الأحداث والوقائع وبخفاياها وكواليسها، فبدت مساهماته كإضافة حقيقية إلى ما يقال، تتضمن كلها ضوءا جديدا ينير جانبا من المسألة المطروحة. في هذه الأثناء، كنت قد حصلت على بعض مقالاته ودراساته، التي نشرت في الأهرام، أفدت كثيرا من قراءتها، أنا العائد إلى وطني بعد غياب دام أربع سنوات في فرنسا، غابت عني خلاله أشياء كثيرة، وخاصة ملموسية الواقع وتطوراته التفصيلية.
عندما سافر محمد السيد سعيد إلى أميركا، استغربت الأمر، فهو كاتب ناجح وجامعي ذائع الصيت، ورجل موقف شاع بين مثقفي العرب نبأ حواره الصاخب مع الرئيس حسني مبارك، خلال أحد لقاءاته مع أساتذة وطلبة الجامعات، وفيه شعر الرئيس بحرج بالغ، لصراحة الكلام وفصاحة المتكلم ووضوح حججه ومعرفته الوثيقة بتفاصيل ما كان يتحدث عنه، وعادية اللغة التي خاطب مبارك بها، وخلت من عبارات التفخيم والتعظيم والدونية، بل عامله كمسؤول وساءله وحاسبه أمام مشاهدي التلفاز، ومنحه حق الدفاع عن سياساته ونفسه. يومها، خاف أصدقاء الدكتور رد فعل السلطة، بعد أن شاع خبر حواره مع الرئيس وتناقلته الألسن، وتحول إلى بطل شعبي ينطق بصوت من لا صوت لهم، ويغامر بأمنه الشخصي دفاعا عن بشر لا يعرفهم، الدفاع عنهم هو معنى حياته. وللعلم، فإن محمد السيد سعيد لم يكن يساريا متطرفا، أو قوميا طائشا، بل كان ليبراليا يضع الإنسان الفرد في مركز السياسة، ويعتبر قضاياه جوهرها، الذي بدونه ينتفي الشأن العام، وتذوي وتموت كل نزعة إنسانية.
ذهب إلى أميركا، لكنه لم يغب عن القول. وحين عاد إلى مصر بعد غياب غير طويل، وجه دعوة إلى مجموعة من مثقفي سوريا لزيارة مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام وللمشاركة في ندوة موضوعها أحوال سوريا، تولى الإشراف عليها الصديق جمال باروت، قادتنا إلى مصر، حيث وجدناه بانتظارنا وقد اهتم شخصيا بكل ما له علاقة بإقامتنا وندوتنا، ما مكننا من قضاء يومين من النقاش الحي والمثمر، كان هو مفاجأته الحقيقية، ففي كل مرة كان يطلب فيها الكلام كان يقدم رؤى عميقة ودقيقة تنم عن معرفة حقيقية بالشؤون السورية، مع أنها كثيرا ما طالت موضوعات داخلية متنوعة كالإصلاح الاقتصادي والإداري والسياسي، وأوضاع القوى السياسية والاجتماعية السورية، وحراك المثقفين والمجتمع المدني، بل وكان عارفا بمواقع الأنترنت المختلفة، وأذكر أنه أشاد بصورة خاصة بما أسماه “مجلة كلنا شركاء”، التي يصدرها الصديق أيمن عبد النور.
بعد ظهر يوم الندوة الثاني، عقدت خلوة معه تباحثنا خلالها في ما يجب على المثقفين العرب فعله لمساعدة أوطانهم ومواطنيهم، بعد أن خذلتهم النخب السياسية العربية. كان الدكتور معجبا بصورة خاصة بحراك “لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا”، وقد تحدث مطولا عن جوانب مفيدة في تجربتها، فتوافقنا على مناقشة فكرة إقامة “مركز تنسيق للمثقفين العرب “في القاهرة، ليست السياسة هدفه المباشر، يسعى إلى تلمس وبلورة رؤى فكرية ومعرفية تمهد الأرض ثقافيا وفكريا لإخراج العرب من احتجازهم وأزماتهم. لبلوغ هذه الغاية، يتولى المركز التنسيق بين المثقفين في البلدان العربية، ويقوم بتعريف قطاعاتهم المتنوعة بما يتبلور لديهم من أفكار ومبادرات، وينضج من رؤى، ويطور من خطط وممارسات، ويشجعهم على لعب دورهم المهم لوقف السقوط العربي الراهن. كانت الفكرة لب تصوره عن دور المثقفين العرب، وكان يعتبر تحقيقها ضروريا لاستنهاض العرب، فاقترح أن نبقى على اتصال، وأن ننسق خلال مرحلة تشاور قادمة مع مثقفي البلدان العربية الأخرى، وكانت صلاته وثيقة بهم، بحكم دوره وموقعه المميزين.
واليوم، وقد غاب محمد السيد سعيد تاركا مكانه فارغا. هل ما زال المثقفون العرب قادرين على تنسيق مواقفهم كمثقفين، أم أنهم غابوا بعد أن خفت صوتهم كثيرا في الآونة الأخيرة؟.، وهل يبادرون إلى تحقيق هذه الفكرة، فيبدأون نقاشا واسعا حولها، ويقيمون الصلات اللازمة لتحقيقها، وإلا تحول صوتهم الخافت إلى صمت كصمت القبور، يدفن فكرة تمس حاجة الأمة إليها اليوم أيضا، فيبقى الراحل بينهم ومعهم، بلا تفجع أو بكاء؟.
المستقبل