فتنة لا تنام!
عزت القمحاوي
لم يعد بوسعنا لعن من يوقظ فتنة التطبيع؛ فالفتنة لم تعد تنام، والوقائع تتلاحق واحدة وراء الأخرى، والحساسية منها تتآكل يوماً بعد يوم. حتى منتصف السبعينيات كانت قبلة في فيلم سينمائي على خد ممثلة غربية مؤيدة لإسرائيل كفيلة بمقاطعة عمر الشريف.
وبعد النوم مع الأعداء باتفاقية رسمية، استمر الأدباء في موقفهم الرافض لأي تعامل مع المنتسبين لمستوطنة إسرائيل الكبرى. ولم تحظ المستوطنة بالاعتراف إلا من قلة من سقط المتاع الأدبي، لسنوات طويلة أعقبت كامب ديفيد، كانوا خلالها يترجمون الأدب العربي قرصنة، وكنا نترجمهم قرصنة، لأن العداء لا ينفي حق المعرفة، بل يحتم واجب المعرفة. وليس صحيحاً أن القرصنة نوع من التواطؤ؛ فهي تحرم المستوطنة اليهودية من الإعتراف من خلال امتناع الكاتب عن التعامل والتعاقد مع سكانها ومؤسساتها.
ثم بدأ التحلل يدب بالبدن الثقافي، وقلت الحساسية تجاه الكيان الغاصب، وترتبت مصالح الكثير من كتابنا مع الغرب، وأصبحت هناك خشية على هذه المصالح، تحتم، إن لم يكن الاعتراف والتعامل مع الإسرائيليين تحت ذرائع مختلفة؛ فعلى الأقل نسيان هذه القضية، ونسيان إسرائيل كلية كما لو كانت غير موجودة.
كان للساحة المصرية تميزها في هذا المجال، وكانت الأهمية تكمن في أن المجتمع الثقافي المصري هو الأكبر كماً والأكثر عراقة في التقاليد، لكن هذه الجبهة بدأت بالانهيار شيئاً فشيئاً تحت دعاوى متعددة. ومع كل واقعة يتجدد النقاش حول جدوى المقاطعة.
أحدث الوقائع التي ألهبت النقــــاش هــــذه الأيام ترجـــــمة ديوان الشاعرة إيمــــان مرسال في تل أبيب، وقد تباينت الردود على الحدث بشكل يمكن إجماله في أربعة اتجاهات رئيسية:
أولها، محاولة صم الآذان حول لغط التطبــــيع، يأساً من نتائج المقاطعة، أو تعــــالياً على الحالة نفسها، أو إشارة إلى كون الشاعرة تحمل جنسية أو جنسيتين غربــيتين إلى جانب المصرية، أو خجلاً من التهمة المقابلة للتطبيع (تهمة حمل صكوك الوطنية) أو حفاظاً على صداقة شخصية، أو حفاظاً على حالة الحياد الإيجابي، ونسيان وجود إسرائيل!
والاتجاه الثاني، عدم الإدانة، مع التأكيد على عدم القيام بالشيء نفسه إذا ما تعرض له ذاك الذي يدينها. وهذا الموقف يجمع فريقاً من أصدقاء الشاعرة التي تتمتع بعلاقات حسنة مع الكثير من الكاتبات والكتاب بين جيلها وخارجه.
والاتجاه الثالث هو الإدانة التامة، وكثيرها ـ للأسف ـ يأتي ممن لا أهلية لهم، لرداءة مستواهم الثقافي والأدبي، أو رداءة أدائهم، وانحيازهم وممارستهم لمساوىء تفوق مساوىء التطبيع. وعلى النقيض من الإدانة الكاملة، نجد الموافقة الكاملة، إما بمبرر يبدو ثقافياً (المعرفة) أو بمبررات أخرى كان أكثرها غرابة الاحتجاج بأن قصيدة النثر مظلومة في القاهرة؛ فراحت تبحث عن العدالة في تل أبيب، أو لأن الشاعرة نفسها مظلومة، بدليل أنه لم يصدر لها ديوان في مشروعات النشر المتعددة بوزارة الثقافة، وخصوصاً مكتبة الأسرة!
وليست إيمان مرسال أول ولن تكون آخر من يترجم في تل أبيب، لا بالقرصنة كما كانوا يفعلون وكما كنا نفعل في السابق، بل بالاتصال بالإسرائيليين. لكننا مرة بعد مرة نفقد التوافق العام حول مفهوم التطبيع الثقافي وحول جدوى المقاطعة، أقول مجرد التوافق، ولا أتحدث هنا عن إجماع أو ثوابت، فكلتا الكلمتين آتت أكلها السيئة استبداداً وتخلفاً سياسياً وثقافياً.
من هنا فإن ما يستدعي الانتباه ليس حالة إيمان بالذات؛ بل مجمل ما أثارته، ويكشف عن صدوع مخيفة في الوعي، وفي الهمة، وفي الضمير.
وإذا تركنا جانباً أخطاء الوعي في الربط الغريب بين الظلم في القاهرة والترجمة للعبرية، فإن اليأس من جدوى المقاطعة يعني افتقاد المثقفين للوعي بقيمة ثقافتهم وأثر المثقف كضمير لأمته وشعبه، مهما بدت مكانة الثقافة متدهورة.
ونحن نعلم اختراق الإسرائيليين لكثير من نواحي الحياة في مصر وفي عدد آخر من الدول العربية، لكن وجودهم في مصر خبراء وسياحاً وتجاراً ومخربين، ظل ينتظر شارة الثقافة، ونحن نعلم أن الممانعة الثقافية مؤلمة بالنسبة لهم، ونعلم أيضاً أن لنا حقوقاً وعلى أيدي الإسرائيليين دماء لم تجف، وأن من العيب أن نتنازل عن مقاطعتهم في الوقت الذي تتزايد فيه مقاطعات أدباء وفناني العالم، الذين لم تحتل إسرائيل لهم أرضاً ولم تقتل لهم طفلاً، وإنما يقاطعونها بحس العدالة الإنساني.
افتقاد الهمة واليأس من القدرة أثمر تسامحاً في غير محله، يلتقي مع افتقاد الوعي وافتقاد الضمير.
افتقاد الهمة ليس أفضل ولا أسوأ من افتقاد الوعي، فالتسليم لمجرد أن الحصون تتهاوى أمر غير حسن، أما عن افتقاد الضمير، فحدث ولا حرج، لأن بعض من سكتوا عن إيمان مرسال قذفوا غيرها بالنابالم، وبعض من قذفوها سكتوا عن غيرها، لأن العامل الشخصي يتدخل في أحكامنا بلا رحمة أو حياء.
القدس العربي