صفحات ثقافية

قيود اللوحة السورية، وسراب الحرية التشكيلية

null
عامر مطر
كان جزاراً، مترهل الملامح، يحمل سكيناً كبيرا، يقف بزيّه الرسمي المعاصر أسفل حبل المشنقة، وتتدلى خلفه قدما الضحية، داخل لوحة يسيطر عليها السواد. حملت اللوحة اسم “موطني… موطني” للفنان يوسف عبدلكي. أراد عرضها في دمشق ضمن معرض جماعي عام 1977، لكنها مُنعت، وإثرها في حمص وحلب أيضاً، مما دفع بصاحبها الى نشر اعتراض في صحيفة “الثورة” السورية، قال فيه إن لوحته تتناول مجازر جمال باشا في أوائل القرن العشرين، ليُمرّ احتجاجه على المنع، ولتُعرَض لوحته. منذ “موطني… موطني” إلى الآن لم تتغير طرق اللجم. لا يزال في إمكان أي مدير مركز ثقافي في سوريا حجب أي لوحة عن العرض إذا شك في ملامستها خطاً أحمر ما.
منع مدير المركز الثقافي في الحسكة (شمال شرق سوريا) لوحتين للفنان عبد الكريم مجدل بيك، منذ سنوات. عن ذلك يوضح مجدل بيك بحزن: “صوّرت في الأولى فتاة تحمل زهرة عباد شمس، وفي الأخرى ثلاث فتيات واقفات، اعتقد مدير المركز أنهما تحملان رسائل سياسية فرفض عرضهما”!
على رغم حالات الحجب المتكررة لم يُعتقل أي تشكيلي في سوريا لرسمه لوحة تدين النظام السياسي. حتى يوسف عبدلكي الذي اعتقل سنتين، وغادر إثرهما إلى باريس، لأكثر من ربع قرن، يؤكد: “اعتقلت لنشاطي السياسي، لا الفني”، لكنه يضيف: “نجوت من محاولة اعتقال بالصدفة عام 1977 لعرضي لوحة “تحية إلى معتقلي يوم الأرض” الموجهة الى أربعة معتقلي رأي سوريين”.
لا يمكن القول إن العمل التشكيلي يتعرض للرقابة نفسها التي تتعرض لها النصوص الأدبية أو الفكرية في سوريا، وذلك لطبيعته غير المباشرة. كما لا يمكن القول إن سلطة الثالوث المحرّم تقيّد اللوحة السورية، إذ سقط الجنس منه، فتقلّص الثالوث إلى خط يجمع ما هو مباشر بين السياسة والدين.
يعتقد الناقد أسعد عرابي أن التشكيل في سوريا حُرّ سياسياً لجهل القائمين على الجهات الرقابية بالفن التشكيلي، مما جعله غير قابل للرقابة، وبعيداً عن السلطة، إلا الدعائي والتعبوي منه.
يتفق النقيب السابق للفنانين التشكيليين في سوريا أيمن الدقر مع عرابي، لكنه يرى أن من النادر وجود تشكيلييّن معنيين بالشأن السياسي، ويترجمون مواقفهم السياسية عملا فنيا، ووجود لوحات من هذا النوع سيكون عصيّاً على القراءة من الرقابة.
لا تقيّد الجهات الرقابية وحدها اللوحة السورية، بقدر ما قيّد الفنانون أنفسهم بخطوط رسمها كلٌّ لنفسه، يقول مجدل بيك: “إذا لم يسمِّ الفنان الأشياء بمسمياتها فلن يضايقه أحد”، ليضيف ساخراً: “إن رسم امرأة عارية في سوريا مباح… الأهم هو الابتعاد عن السياسة”.
أما عبدلكي فيعتقد أن داخل كل فنان سوري شرطياً صغيراً يُبعده عن المحظورات التي أصبحت مألوفة، ومنها كل ما يتعلق بالنص الديني والجنس، ونقد السلطة السياسية القائمة.
لكن غياب المعرفة التشكيلية عند الفنانين، هي أكثر القيود وضوحاً داخل الفنان السوري، بحسب تعبير سارة شمّة التي تعتقد أن “عدم المعرفة بالتكنيك أدى إلى تقييد فناني سوريا وحصرهم في خيارات ضيقة، كما أدى الى الحد من قدرتهم على الخروج عن الأسماء الكبيرة، وعن كل ما هو مشترك واعتيادي”.
الفنان محمد عمران يؤيد سارة شمّة، لكنه يُرجع قيود الجهل الى غياب حركة النقد التشكيلي في الحياة السورية. لا يتعلق هذا الغياب بأسباب تمسّ الحرية، كما يعتقد عرابي، “لأن النقد لا يشكل كياناً معرفياً موازياً للسلطة، أو معادياً لها. هو غير مهم، ولا يُنظر إليه بشكل جدّي. فقط يوجد حالات نقدية فرديّة، وهي أصغر من الحراك التشكيلي”.
في هذا السياق يمكن التطرّق الى كلية الفنون الجميلة الدمشقية التي تعد أهم مكان يُخرّج التشكيلين والنقاد في سوريا، لكن عميد هذه الكلية الفنان عبد الكريم فرج رفض الحديث ضمن هذا التحقيق، لأنه يناقش حرية التشكيل، وبذلك عكس حال الكلية، ومدى الحرية فيها، من دون أن يتفوّه بكلمة.
يصف عرابي الحال كالآتي: “لتصبح أستاذاً فيها لا يمكن أن تكون معارضاً، فالموالاة والتبعيّة هما أساس التدريس فيها”.
غياب حركة نقديّة حقيقية، ومكان صحّي لتدريس التشكيل، أديا الى ظهور عدد كبير من الفنانين النجوم، الذين استسهلوا الوصفات الجاهزة لإغراء الجمهور، فسقطوا بما يسمّى “الفن التزييني”. حولوا اللوحة من كائن فكري إلى كائن تزييني لبيوت طبقة من مُحدثي النعمة، مما خلق طبقة من الفنانين المرتاحين اقتصادياً، سوّقت لهم صالات العرض الجديدة، فرفعت أسعار لوحاتهم، وطبعت كتباً عنهم.
جذبت هذه الصالات نجوم التشكيل السوري بكل أنواعهم، لفرط إغراء المال فيها، لكن بشروطها؛ شروط السوق والاستمرار. يرى الدقر أن هذه الصالات خلقت حراكاً تشكيلياً في سوريا، وأنها لم تمس حرية التشكيل، بقدر ما أثرت اقتصادياً في سعيها الى الربح، على بعض الفنانين، معتبراً الربح مشروعا لها.
يتهم أحد التشكيليين هذه الصالات “بالامتناع عن عرض كل ما يدين النظام السياسي القائم، وكل ما يقترب من النص الديني”. ويضيف: “فرضت على الكثير من فنانيها أحجاماً محددة ومواضيع وألوانا تناسب السوق”.
لكن عبدلكي، وعرابي، ومجدل بيك، وشمّة، ينفون بصفتهم من فناني هذه الصالات، وجود أي قيود تفرضها عليهم. ترد شمّة: “الفنان الحقيقي أقوى من الصالة، ومن السوق. هو من يصنع الموضة”.
الواقع أن هذه الصالات تمتنع عن عرض كل ما لا يتناسب معها فنياً، وكل ما قد يتسبب بغلقها. يقول صاحب “أيام غاليري” خالد السماوي: “لن أعرض على جدران “أيام” أي لوحة تدين النظام السياسي أو تمدحه”. يضيف: “أفضّل الابتعاد عن كل ما يمت الى السياسة والدين بصلة”.
يعتقد السماوي أن “أيام” حرّة، كما التشكيل السوري، إذ لم يسبق أن جاءته أي جهة تطلب منه منع لوحة، أو عرض أخرى، بحسب قوله.
بعيداً عن كل القيود، والمعوقات السابقة، يمكن القول إن أول عائق يصدم الفنان السوري هو خيار الفن في ذاته. أن تكون فناناً في مجتمع لم يعرف التشكيل إلا منذ عقود، يعدّ سعياً حقيقياً من أجل الحرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى