صفحات الحوار

نعوم شومسكي : مرتكبو هذه الهجمات يلقون تأييدا يغرف من خزّان المرارة والغضب إزاء السّياسة الأمريكيّة

null
1/2

ترجمة محمد الشيباني
لم ينجم عن سقوط جدار برلين ضحايا، إلاّ أنّ هذا الحدث غيّر أيّما تغيير المشهد الجيوسياسي. ألا ترون أنّ هجمات 11 سبتمبر/ أيلول قد تكون لها أثار من هذا القبيل؟
مثّل سقوط جدار برلين حدثا ذا أهمّية بالغة غيّر فعليا المشهد الجيوسياسيّ، إلاّ أنّه- حسب ظنّي-  لم يكن هذا بالمعنى المُسَلَّم به غالبا. وسبق لي أن تحدّثت في غير هذا المقام عن هذا الموضوع وليس من الضروري العودة إليه هنا.
تعتبر الهجمات الرهيبة التي كانت يوم 11 سبتمبر/ أيلول شيئا جديدا تماما في تاريخ العالم وليس هذا بسبب حجمها أو طابعها وإنّما نظرا إلى الأهداف التي تمّ اختيارها. وبالنسبة إلى الولايات المتّحدة الأمريكية فهذه  المرّة الأولى منذ حرب سنة 1812 التي يتعرّض إليها التراب الوطنيّ إلى هجوم أو حتّى يتلقّى تهديدا. وثمّة العديد من المحلّلين الذين قارنوا هذه الهجمات بـ “برل هاربور” (Pearl Harbor) وهي عندي مقارنة فيها مغالطة. ففي 7 ديسمبر/ كانون الأوّل1941 تمّ الهجوم على قواعد عسكريّة ولكنّ هذه القواعد كانت مقامة في مستعمرتين أمريكيتين لم تكونا موجودتين داخل التراب الوطنيّ الذي لم يتلقّ تهديدا. أمّا الأمريكيون، فيفضّلون تسمية “هاواي” (Hawaï) بـ “الولاية” ولكنّ الأمر يتعلّق بمستعمرة. وفي الماضي وخلال عدد كثير من القرون أبادت  أمريكيا شعوبا أصليّة (الملايين من الأفراد)، كما غزت نصف المكسيك (وبالفعل غزت أراضيَ كان يمتلكها تاريخيّا سكّان أصليون، ولكن هذه حكاية أخرى). كما كانت لها تدخّلات عنيفة في جميع مناطق الجوار، إذ غزت “هاواي” و”الفلبّين” (قتلت مئات الآلاف من الفلبنيين) وعلى وجه الخصوص طوال القرن الماضي. كما عمّمت اللّجوء إلى القوّة في أغلب مناطق العالم، وكان عدد الضحايا هائلا. ولأوّل مرّة تمّ تصويب فوّهات البنادق إلى الاتجاه الآخر. إنّ الأمر يتعلّق هنا بتغيير مدهش. وهذا يصحّ كذلك، بل وبطريقة أكثر إدهاشا، على أوروبا. فلقد شهدت أوروبا عمليات تدمير مروّعة، لكنّها كانت نتيجة حروب داخلية. وفي الآن نفسه كانت القوى الأوروبيّة تغزو جانبا كبيرا من العالم بشراسة قصوى. وباستثناء حالات نادرة جدّا فإنّ هذه القوى لم يُهاجمها في المقابل ضحاياها. فانجلترا لم تهاجمها الهند، وبلجيكيا لم تهاجمها الكونغو وكذا الأمر  بالنسبة  إلى إيطاليا مع إثيوبيا وفرنسا مع الجزائر (التي لم تكن فرنسا تعتبرها “مستعمرة”). وتبعا لذلك فليس مفاجئا أن نرى أوروبا قد أصابها هول المفاجأة بفعل الجرائم الإرهابية في 11 سبتمبر/ أيلول. ومرّة أخرى أقول إنّ هذه الجرائم كانت غير مسبوقة ولكن ليس مردّ هذا إلى حجمها.
وما خلّفته هذه الجرائم من تخمينات لا يجد أحدا يستطيع الإصداع بها. ولكن ما هو واضح جدّا يتمثّل في كون هذه الجرائم تُعدُّ شيئا جديدا تماما.
انطباعي أنّ هذه الهجمات لن تكون وراء ظهور مشهد سياسيّ جديد وإنّما ستؤكّد وجود مشكل داخل “الامبراطوريّة”. وهو مشكل له صلة بالسلطة السياسيّة والنفوذ. فما هو رأيكم؟
يمثّل مرتكبو هذه الهجمات في حدّ ذاتهم فئة متميّزة، ولكنّهم يلقون بلا شكّ تأييدا يغرف من خزّان المرارة والغضب إزاء السّياسة الأمريكيّة في هذه المناطق. ويشمل كذلك هذا الحقد الأوروبيين، الأسياد القدامى. وهنا تحديدا يكمن بلا شكّ سؤال له علاقة بـ ” السلطة السياسية والنفود”. فمباشرة إثر الهجمات، جمعت صحيفة “وال ستريت جورنال” (Wall Street Journal) مختلف آراء الأثرياء المسلمين” في المنطقة : أصحاب المصارف ورجال الأعمال وغيرهم ممّن لهم صلة بالولايات المتّحدة الأمريكيّة. ولقد عبّر جميعهم عن ذهولهم وغضبهم تجاه دعم الولايات المتّحدة للأنظمة المفرطة في الاستبداد، وإزاء الحواجز التي أقامتها واشنطن والتي تحول دون تنمية مستقلّة ودون الدَّمَقرطَة. وبعبارة أخرى فإنّهم تمرّدوا ضدّ السياسة الأمريكيّة القائمة على “دعم الأنظمة القمعيّة”. غير أنّ شاغلهم الرئيس كان أمرا مغايرا، فهو يتمثّل في سياسة واشنطن تجاه العراق والاستعمار العسكري الاسرائيليّ. وإنّك تجد فيما بين الجماهير الغفيرة من الفقراء والمعذّبين تزايدا لحدّة مشاعر النقمة من هذا القبيل. فالشعب يحسّ أكثر فأكثر بأنّ ثروات المنطقة توجّه إلى الغرب، إلى نخب صغيرة تَمكَّن منها التغريبُ، وإلى مسؤولين فاسدين وفظّين تدعمهم القوّة الغربيّة. وهنا كذلك نلمس مشاكل السّلطة والنفوذ. و كان ردّ الفعل المباشر من الولايات المتّحدة الأمريكيّة أن أعلنت أنّها ستهتمّ بهذه المشاكل… بأن كثّفت منها. وهذا أمر بطبيعة الحال لا فكاك منه. فلمعالجة هذه المشاكل معالجة سليمة يتعيّن الأخذ بعين الاعتبار استخلاصات جميع هذه الأفكار.
(…)
” قصف ذكيّ” في العراق، و”تدخّل إنساني” في كوسوفو. نرى أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة لا تستعمل أبدا كلمة “حرب” لتصف هذه الأعمال. وفي الوقت الحاضر تتحدّث عن حرب ضدّ عدوّ لا اسم له. لماذا؟
في البدء استعملت الولايات المتّحدة الأمريكية كلمة ” حملة” ولكن سريعا ما وُجّهت إليها ملاحظة مفادها، إن كانت تأمل في تجنيد الحلفاء في العالم الاسلامي، فسيكون هذا خطأ قاتلا لأسباب بديهيّة. فتغيّر الاصطلاح وجرى استعمال كلمة “حرب”. فحرب الخليج سنة 1991 سُمّيَت “حربا”. أمّا قصف صربيا فَسُمّيً بـ “التدخّل الإنساني” وهو استخدام غير مسبوق بلا ريب، لأنّ الأمر يتعلّق هنا على كلّ حال بمغامرات عاديّة تشبه ما عرفته الامبريالية الأوروبيّة خلال القرن التاسع عشر. وفيما يخصّ “التدخّلات الانسانيّة”، فإنّ البحوث الجامعيّة الأكثر قيمة توفّر لنا ثلاثة أمثلة حديثة جدّت مباشرة قبل الحرب العالمية الثانية : غزو اليابان لمنشوريا، وغزو موسيليني لأثيوبيا ووضع هتلر يده على “السّوديت” (Sudètes). ومؤلّفو هذه البحوث مبدئيا لا يزعمون أنّ هذه العبارات كانت مناسبة. بل بالعكس فلقد أرادوا إخفاء هذه الجرائم بتعلّة النزعة “الإنسانويّة”.
أمّا لمعرفة ما إذا كان التدخّل في كوسوفو “إنسانيا” بالفعل- وهو ما يجعله أوّل حالة من هذا النوع في التاريخ- فإنّ المسألة تتعلّق باعتبار واقع الأمر، فالتصريحات الحماسيّة لا تكفي، وذلك على الأقلّ لأنّ كلّ استخدام للقوّة يبحث عن تبرير له بهذه العبارات. وإنّه لمن الخارق للعادة أن نلاحظ مدى تهافت الحجج المبرّرة للنوايا الإنسانية في حالة كوسوفو. ولنكن دقيقين فإنّ هذه الحجج لا وزن لها في حين أنّ الحجج الحكوميّة مختلفة تماما. ولكنّ الأمر يتعلّق هنا بمسألة مخصوصة، تَحدّثتُ عنها على نحو مفصّل في غير هذا السياق.
ولكن بالنسبة إلى مثال الحال فإنّ حجّة التدخّل الانساني نفسها لا يمكن استعمالها بمعناها العاديّ فنحن مجبورن على الحديث عن الحرب.
والعبارات التي تبدو أكثر مناسبة هي “الجرائم” وربّما “الجرائم ضدّ الانسانيّة” التي شدّد عليها “روبير فيسك” (Robert Fisk). ولكن توجد قوانين تعاقب الجرائم. ولتطبيقها ينبغي معرفة مرتكبيها وإعلان مسؤوليتهم، وهذا هو المشكل الذي ينادي به الفاتيكان بالنسبة إلى الشرق الأوسط على سبيل المثال. ولكنّ مثل هذا التمشّي يقتضي براهين معقولة ويفتح الباب على أسئلة خطرة. والسّؤال الأكثر بداهة فيها : من هم مرتكبو جرائم الإرهاب الدولي التي أدانتها محكمة العدل الدولية منذ خمس عشرة سنة ؟ (2).
ولهذه الأسباب يجدر استعمال عبارة فضفاضة من قبيل الحرب. ولكن أن نسمّيها “حربا ضدّ الإرهاب” فهذا ليس إلاّ من قبيل الدعاية، إلاّ إذا اتّخذت هذه “الحرب” من الإرهاب هدفا فعليا. وهذا ببساطة ليس واردا لأنّ القوى الغربية لا يمكنها أبدا احترام تعريفاتها الرّسمية لهذه العبارة كما هي موجودة في القانون الأمريكيّ (3) أو في الكتب العسكرية. وسيكشف هذا أيضا أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة على رأس الدول الارهابيّة كما هو شأن الموالين لها.
وقد  يكون من المفيد هنا ذكر ما جاء على لسان “مايكل ستوهل” (Michael Stohl) الباحث في العلوم السّياسيّة” :
“علينا أن نقرّ على سبيل المواضعة” – ونلحّ هنا على عبارة “سبيل المواضعة” لا غير- أنّ استعمال القوّة أو التهديد باستعمالها من قبل القوى العظمى يُؤخذان عادة على أنّهما من باب ديبلوماسيّة القوّة  وليست شكلا من الإرهاب ” في حين أنّهما يستلزمان عموما “التهديد وغالبا استعمال العنف لأهداف قد توصف بكونها إرهابيّة إذا لم يتعلّق الأمر بقوى عظمى تستعمل التكتيك نفسه بالضبط” طبقا للمعنى الحرفيّ للكلمات. وفي ظروف  (لا يمكن تصوّرها، ونحن نقرّ هذا) حيث نجد ثقافة غربيّة راغبة في تبنّي هذا التعريف الحرفيّ، فإنّ الحرب ضدّ الإرهاب قد تتّخذ حينئذ منحى مختلفا تماما وقد تجري وفق خطط مفصّلة في أدبيات ليست من باب المصنّفات الجديرة بالاحترام.
والشاهد الذي أتحدّث عنه مقتطف من تحقيق بعنوان “إرهاب الدول الغربيّة” : (Western State Terrorism) طبعه “ألكسندر جورج” (Alexandre George) ونشرته دار مرموقة منذ عشر سنوات، وهو مصدر من الأحسن عدم ذكره للولايات المتّحدة. ونجد حجّة “ستوهل” مفصّلة بدقّة في تضاعيف هذا الكتاب. وثمّة عدد كبير آخر من المصنّفات الموثّقة جيّدا تعوّل على وثائق رسمية حكوميّة. ولكن يُفَضَّل عدم ذكرها كذلك للولايات المتّحدة الأمريكيّة، لكنّ هذا المُحَرَّمَ ليس بمثل هذه الصّرامة في بلدان أخرى أنغلوفونيّة أو في غيرها.

الشواهد:
1) المصدر: Noam Chomsky : 11/9 Autopsie des terrorismes (Entretiens traduit de l’anglais par Hélène Morita et Isabelle Genet) Ed : Le serpent à Plumes, Paris 2001.     Chp : « Les fusils sont braqués dans l’autre sens » pp 11-24
نعوم شومسكي:”11/9 تشريح لضروب الإرهاب”. مجموعة من اللّقاءات الصحفية ترجمتها من الانجليزية إلى الفرنسيّة هيلان موريتا وإيزابيل جينيه) فصل: “فوّهات البنادق مصوّبة في الاتجاه الآخر” ص ص-11-24.
• نعوم تشومسكي : من مواليد 1928 بفيلاديلفيا. عالم لسانيات، كاتب، وفيلسوف سياسي راديكالي ذو صيت عالمي . أستاذ اللّسانيات بـ Massachusetts Institute of Technology (MIT) وعضو بالأكاديميّة الأمريكيّة للفنون والعلوم، وبالأكاديمية الوطنية للعلوم. وفضلا عن مصنّفاته اللّغوية الكثيرة صدرت له كتابات اهتمّت بالشأن العام والقضايا الدولية من ذلك:
*« Profit Over People : Neoliberalism and Global Order (Seven Stories)” 1998
« Responsabilité des intellectuels » 1999.
*« De la guerre comme politique étrangère des Etats-Unis » 2001 »
*«A New Generation Draws the line : Kosovo, East Timor and the Standards of
the west » 2001.
2- يشير شومسكي إلى حالة نيكاراغوا (ملاحظة وردت في هامش الترجمة الفرنسية) ص 17.
3- يعتبر عملا إرهابيّا كلّ نشاط جرى خلاله :
(أ) القيام بعمل عنيف أوعمل خطر يهدّد الحياة البشريّة وذلك في انتهاك للقوانين الجنائية المعمول بها في الولايات المتّحدة الأمريكيّة أو في أيّ دولة أو أيّ عمل من شأنه أن يمثّل انتهاكا إجراميا إذا تمّ ارتكابه داخل المرجع القضائي للولايات المتّحدة أو أيّة دولة.
(ب) يتّضح وجود النيّة في :
1- ترويع المدنيين أو إكراههم.
2- التأثير  في سياسة حكومة  باعتماد التخويف أو القسر.
3- التأثير في قيادة حكومة بواسطة الاغتيال أو الخطف.
المصدر : United States Code Congressional and administrative News, 98th Congress, Second Session, 1984, Oct,19 Volume 2 ; par. 3077, 98 Stat. 2707. (West Publishing.  [ 1984
وردت هذه الملاحظة في هامش الترجمة الفرنسية ص 18.

المصدر: Noam Chomsky : 11/9 Autopsie des terrorismes (Entretiens traduit de l’anglais par Hélène Morita et Isabelle Genet)
Ed : Le serpent à Plumes, Paris 2001. Chp : « Les fusils sont braqués
dans l’autre sens » pp 11-24.
نعوم شومسكي:”11/9 تشريح لضروب الإرهاب”. مجموعة من اللّقاءات الصحفية ترجمتها من الانجليزية إلى الفرنسيّة هيلان موريتا وإيزابيل جينيه) فصل: “فوّهات البنادق مصوّبة في الاتجاه الآخر” ص ص-11-24

لقاء صحفيّ أُجري يوم 19 سبتمبر أيلول / 2001 مع صحيفة “إيلمانيفستو
” (Il Manifesto) الإيطالية: “فوّهات البنادق مصوّبة في الاتّجاه الآخر”.(1)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى