‘المحكوم بالإعدام’ لجـان جينيـه
كتب جان جينيه (1910 1986) نصهُ الشعري الأول ‘المحكوم بالإعدام’ وهو في زنزانته، وحيداً ليس في حوزته إلا قريحة شعرية قَل نظيرها، جعلت منهُ سليلاً لكبار الشعراء الفرنسيين أمثال بودلير، لوتريامون، ستيفان مالارميـه وآرتير رامبو. فرادة العبارة الشعرية عند جينيه، كانت السبيل له لكسر قضبان السجن والخروج من ظُلمته إلى وَضحِ النهار، وهو الذي كان قاب قوسين من عقوبة السجن المؤبد، لتعاطيه السرقة ولارتكابه، وعلى نحوٍ متكرر، العديد من الجُنَح والمخالفات القانونية.
لدى اكتشافه المؤلفات الشعرية والروائية لجينيه السجين، قام جان كوكتو بحشد الوسط الثقافي الباريسي للدفاع عن هذا الأخير، آخذاً على عاتقه المبادرة بتوقيع عريضة تحمل أسماء كبار الكتاب الفرنسيين لرفعها إلى الإليزيه، بغرضِ التماس العفو الرئاسي في حق ‘رامبو الثاني’، كما أطلق كوكتو يومـاً اللقب على جينيه. من أوائل الأسماء التي اعتلت هذه العريضة، كان اسما جان بول سارتر وميشيل ليريس، في حين امتنع فرانسوا مورياك وألبير كامي عن التوقيع. وفي نهاية المطاف، تم العفو عن جينيه وإطلاق سراحه بعد إقامته ما يقارب التسعة أعوام في الحبس، كتب خلالها أولى قصائده واثنين من أعمالـه الروائية، ‘نوتردام دي فلور’ و’معجزة الوردة’. ولتعريف القارئ العربي بأولى قصائد جينيه التي أهداها إلى رفيق سجنه موريس بيلورج، اخترنا هذه المقاطع من ديوان الشاعر الصادر في العام 1999 عن دار النشر غاليمار في باريس.
الريحُ التي تدحرج قلباً على بلاطِ الباحات
ملاكٌ ينتحب معلقاً على شجرة
عمودُ اللازورد الملفوف بالمرمر،
فتحوا في ليلي
بوابات نجـاة.
ô ô ô
عصفورٌ حزين يقضي نَحبهُ
وطعمُ الرماد،
ذكرى عين غافية على الجدار
وهذه القبضة الموجعة التي تتوعد اللازورد،
أنزلوا في باطن كفي
مُحيـاكَ.
ô ô ô
غارقٌ بالبكاء،
هذا الوجه الأقسى والأخف من قناع
لهو أثقل على يدي
مما هي على أصابع النشال
الجوهرة التي يسرق.
إنه مكفهر وصارم، تغطيه كالقبعة
باقةٌ خضراء.
ô ô ô
وَجهُكَ العابس: وجهُ راعٍ إغريقي.
لم يزل يغلي في باطن كفيَّ المغلقتين.
ثغركَ، ثغرُ امرأةٍ ميتة
حيث عيناكَ، هُم وردتان
وأنفكَ أنف كبيرالملائكة
لربما هو المنقار.
ô ô ô
الجليد المُتَقد لخفرٍ بغيض
يُلَطخُ شَعركَ بنجومٍ رصاصية مضيئة،
يُتوجُ ناصيتك بأشواكِ الورد،
أيّ ألمٍ عظيم أذابه
إنْ مُحياك شدا؟
… … …
من أين تنثرُ كسلطانٍ،
الأسحار البيض
التي تنهمر كالثلج على نَادِلي
في سجني الأبكم :
الهلع، الموتى في أزهار البنفسج،
الموت ورجاله الشَبِقون!
أشباح عُشاقه!
… … …
على قدميهِ المخمليتين
يمرّ حارسٌ يتجول.
أرِحْ ذِكراكَ في عَينيَّ الغائرتين.
فقد يتثنى لنا الهرب عبرالسقف.
يقالُ بأن الغُويّـان
هي أرض دافئة.
… … …
آهٍ يـا عذوبة السجن المحال البعيد !
آهٍ يـا سماء الحسناء
آهٍ البحر والنخيل
الصباحات الرقيقة، الأماسي المجنونة والليال الساكنة،
آهٍ الشَعر المحلوق
و بَشَرةُ الساتان.
… … …
آهٍ، هلمّي يا سمائي الوردية،
آهٍ يا سلتي الشقراء !
زوري في ليلهِ، مَحكومكِ بالإعدام.
اخلعي عنكِ الجلد
اقتلي، احتدِمي، عـضّي
لكن تعالي!
ضعي وَجنتكِ على رأسي المدور.
… … …
يا أرواح قَتلاي!
اقتلوني! احرقوني!
مايكل أنجلو منهك القوى،
لقد نَحتُ
في الحياة الدنيـا
ولكني يا مولاي
كنتُ أبداً
خادمـاً للجمال،
جوفـي، رُكبَتاي
ويداي وردية من الهَياج
… … …
سامحني يا ربي لأني عَصيت!
دموع صوتي
حمّايَ، مُكابدتي
ومَشقة الهروب من البلد البهي فرنسا،
مولاي
ألا يكفي هذا
كي أمضي للخلود إلى النوم.
يا سيد الأماكن المُعتمة
لم أزل أُجيدُ الصلاة
وأنا أترنح مترجّيـاً،
بين ذراعيكَ الفواحتيْن ِ بالطيب،
في قصوركَ الثلجية!
ها أنذا يـا أبي
الذي أطلقتُ الصراخَ يوماً :
المجدُ في أعالي السماء
للإله الذي يَحرسني،
خفيف القدم
هِرْمس.
كاتب مقيم في ألمانيـا