فيروز وأم كلثوم.. محاكمة ذلك الزمن الجميل
عارف حمزة
هناك أشياء كثيرة تدخّلت في حياتنا وجعلتها تسير في مسارها الخاطئ. تلك الأشياء لو بقيت بعيدة، أو لو ابتعدنا عنها، لكانت تلك الحياة ستذهب، ويا للأسف، في مسارها الصحيح والمُمل والضعيف. تلك الأشياء التي كنا نستقبلها بكل حواسنا. فكانت الحواس، من لمس وسمع وشم ورؤية وتذوق، هي التي تقود الأعضاء وتربيها على مهل وبتسلط كبير. ولأن الأذنين عضوان مهمان، و لهما تاريخ منفصل وعمل متعب ومضن لنا وللأعضاء التي تشتغل تحت ضرباتها وأوامرها الصارمة، كانتا الملعقة الأكبر في تحريك تلك الأشياء التي سمّمت حياتنا. ففي الوقت الذي كنا نخرج فيه نياما ً من البيوت باتجاه المدرسة والجامعة والوظيفة.. كانت الآذان تبقى صاحية وتعمل قبل أن تعمل بقية الحواس. ولأن فيروز، في ذلك الزمن الجميل، كانت المحتل الوحيد لتلك الصباحات كانت الآذان ترضخ لسطوتها واستبدادها واحتلالها اللذيذ. ولشدة ما كانت متجددة في كل صباح كان ذلك متنفسا ً وحيدا ً لأولئك الذاهبين إلى حروب الوظيفة والجامعة.. الرتيبة والمملة. ورويدا ً رويدا ً تعودت الآذان عليها وبدأت تـُشغـّل الحواس الأخرى على إيقاعها فتدمرت رغباتنا ومصائرنا البسيطة و انبنت رغبات ومصائر جديدة حوّلتنا إلى أشخاص غريبين عنا وعن العائلة.
أصبحت فيروز، بكلمات ومعاني وألحان أغانيها وأغاني شركائها، تتدخل في الكتابة، كتابة الشعر والرسائل الغرامية، وفي العادات، في أن نهدي وردا ً أو نشمه. في أن نتمهل في الفقد والهجران ونداوم على الانتظار مهما كان طويلا ً وجارحا ً، وفي خياراتنا في السمع والكلام و القراءات.. هذا الاحتلال الصباحي، في ذلك الزمن الجميل كما أقصد، كان يسلم راية الاحتلال تلك لمحتل مسائي طاغ ورخيم وينشر آهات العذاب هو احتلال إمبراطورية أم كلثوم. فكما كان هناك ضحايا لفيروز في الصباح كان هناك ضحايا لعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم في المساء. كانت فيروز وعبد الحليم يشبهان قصيدة النثر بينما أم كلثوم بقيت مخلصة بتشبهها بقصيدة العمود والوزن التي تملك المعنى القوي والإيقاع العنيف من أجل الإيقاع بالسامعين والناظرين الذين كانوا يُخرجون الآهات كما لو كانوا في حفلة تعذيب جماعية. فيروز كانت تجعل السامعين يحنون و يتذكرون ما أفسدوه في اللقاء أو كوابيس ما بعد الزعل ويركضون للحبيبات كي يردموا تلك الفجوة التي صنعتها القسوة قبل تدخل فيروز بأغنية واحدة مثل ” يا حلو شو بخاف إني ضيعك.. “. أما أم كلثوم فكانت أكثر ضراوة و قوة و كان ذلك يجعل السامع ينسى ما تذكره. أن يحن للسطوة في التملك وأن يذهب إلى الحبيبة بصدر منفوخ لا يوجد فيه أي اعتذار. أن يكون معلماً وليس تلميذاً. أن يكون مرشداً لا مأخوذاً بعقله ويده وقلبه.. مع تدخل بسيط لأم كلثوم بأغنية واحدة من مثل ” .. والهوى. آه منو الهوى آه منو الهوى. سهران الهوى بسقينا الهنا ويقول بالهنا.. يا حبيبي يللا نعيش بعيون الليل ونقول للشمس تعالي تعالي بعد سنة. مش قبل سنة….”.
محبو فيروز، وأقصد دائماً الحقيقيين الذين تدمرت وتغيرت حياتهم، وليس المدعين بحبها وفهمها الذين استغلوا أحدا ً ما أو شيئا ً ما بسبب ذلك الادعاء، الذين تربّتْ حياتهم ومصائرهم تحت يد أغانيها اللينة ربما لا يستطيعون الآن سماعها، ويصرحون بذلك أمام الكثير من الناس. ليس بسبب كرههم لها بل بسبب عدم قدرتهم على تحمل ذلك الكلام الثقيل في هذه الحياة السريعة والخفيفة. في تحمل ذلك الماضي الثقيل الذي ترميه الأغنية على صدورهم مع خروج فيروز من آلة التسجيل على هيئة قس لا يمكن الاعتراف على يديه سوى بالدموع. أما أم كلثوم فكانت شيئا ً آخر. كانت القس نفسه الذي لا يرغب أن يعترف أحد على يديه. لم تشكل أم كلثوم حياة وماضياً ثقيلين بل خفيفين يمكن استعراضهما من جديد كرؤية فيلم كلاسيكي ينتهي بركض البطل من طرف الشاشة، والبطلة من الطرف الآخر. اللقطة على البطيء. لذلك يكون الحقد ليس في الشاشة بل في الكرسي المقابل لها.
هناك جيش كبير، بكامل عتاده وأسلحته وأمنياته بالنصر القوي..، يتبع أم كلثوم وينتظرها، في ذلك الزمن الجميل، في الخميس المحدد من كل شهر لبدء القتال. الخيالة من الأغنياء يذهبون إلى العرض العسكري مباشرة في دار الأوبرا. بينما ينتظر المشاة ورماة السهام من الفقراء ذلك النفير “الخميسي” في المقاهي والبيوت. فيروز كان يتبعها أفراد مهزومون في العادة. وإذا انتصروا يوما ًما فيكونوا قد انتصروا في تمزيق قلوبهم وأكبادهم.
في الحسكة اتصل بي صديقي رضوان، وهو بائع خضرة على الشارع الرئيسي بين تل حجر والنشوة، وطلب مني المجيء لعنده في العاشرة ليلا ً والتلذذ معه بالمفاجأة القاتلة. ذهبت في الوقت المحدد وكان ذك في الكوانين الباردة. كان قد جهز عدة السهرة وهي “قدر” من الشاي الثقيل. أخرج علبة حمراء طويلة “مرطبة” ووضعها على الطاولة راجيا ً مني عدم إخراج علبتي من الوينستون لأن هذه السهرة يلزمها حمراء طويلة مرطبة فقط. وبعد أن عبأ كأسين بالنفط الذي يسميه هو شايا ً نظر إليّ نظرة المنتصر ثم مد إصبعه إلى المسجلة وضغط برفق كي تبدأ أم كلثوم بالغناء. بدت وكأنها جالسة تغني لنا في الدكان.
– ما هذا؟ سألته.
– شيء غريب أليس كذلك؟
– هذه ليست حفلة؟
– هي حفلة ولكنها حفلة خاصة.
– وكيف حصلت عليها؟.
– آخ . لا تذكرني . حفيت وراء هذه النسخة النادرة والوحيدة وحصلتُ عليها أخيراً بثلاثة آلاف ليرة فقط.
– ثلاثة آلاف ليرة؟ سألته على أنه ثمن كبير يعادل في ذلك الوقت راتب موظف لشهر كامل.
– تصور؟ أجابني على أنه ثمن قليل.
في القاهرة عندما طلبتُ من سائق التاكسي أن يقود على مهل ويحدثني عن أسماء الأماكن والشوارع كسائح غريب ظل يتحدث ويروي ويؤلف الكثير من الكلام والقصص.. وعندما وصلنا لساحة وضعوا فيها نصف رجل قديم سألته عن الساحة والرجل فلم يجبني. نظرتُ إليه. كان قد أخرج يده اليسرى الممسكة بسيجارة “كليوباترا” السامة من النافذة مسنداً رأسه السمراء بكفه. كان يبدو شخصاً غريباً عن السائق الذي ركبتُ معه منذ ثلث ساعة. أعدتُ السؤال عليه فتأفف. ثم قال لي :
-لو سمحت يا أستاذ. خلاص. ما قدرش اتكلم. الست بتغني!.
فانتبهتُ إلى جهاز الراديو،المثبت بشكل معقد بين ركبتينا، قد بدأ نفيره على غفلة مني. فصمتُّ أنا أيضاً في غرفة الرعب السوداء والبيضاء.
المستقبل