الرقابة في سوريا: حديث الشجون أو السجون …
مها حسن
منذ سبع سنوات تقريبا، في عام 2002، خصصت مجلة الآداب اللبنانية، ملفا عن الرقابة في سوريا. ثمة من قال بأن عدد الآداب مُنع آنذاك، وثمة من قال العكس. ولكن الحادثة اليوم مؤكدة، حيث مُنع العدد الأخير من مجلة الآداب في سوريا، لاحتوائه على مادة أدبية، تجد العقلية الرقابية ضررا في دخولها وتداولها في الشارع السوري.
من الغريب أن نتحدث عن الرقابة وكأننا في عزلة عن العالم. يعرف السوريون” المعنيون بممارسة المنع” أنه صار من الصعب منع أي فكر من الانتشار والتداول، فأغلب المهتمين لديهم عناوين الكترونية، ويسهل عليهم تداول الملف عبر الرسائل الإلكترونية، في حال أنهم لم يتمكنوا من فتح المواقع التي أعادت نشر الملف الذي تسبب في منع المجلة والذي حمل عنوان “ملامح من الأدب السوري الحديث” من إعداد وتقديم الشاعر الطبيب عبد الوهاب عزاوي، كما فعل موقع الحوار المتمدن، وكلنا شركاء، ناهيك على أنه يمكن تصفح العدد كاملا عبر موقع مجلة الآداب، وهو متوفر كجميع الأعداد الأخرى.
فإذا كان المعني بالمنع المثقف أو القارئ الباحث والمتتبع للمجلة يستطيع بسهولة الحصول على الملف، فما هي جدوى المنع، إلا حماقة واضحة، للأسباب التالية:
ـ بحالة المنع هذه، فإن الرقيب يلفت النظر إلى أهمية الملف، ويشجع على البحث عنه، عملا بقاعدة كل ممنوع مرغوب، وهذا فعلا ما حصل، إذ جرى تداول الملف وإعادة نشره في عدة أماكن.
ـ خسارة الأصدقاء، والاتجاه إلى خانة المنبوذين والمعزولين. فالرقابة السورية صارت سيئة السمعة إلى درجة احتلالها للمراكز المتقدمة في حالات المنع والحجب واعتقال أصحاب الأقلام ….وهاهو الرقيب يخسر الأصدقاء، قبل غيرهم ” حتى لا أقول الأعداء، رافضة استعمال لفظة العداوة، حتى ولو رمزيا”، حيث كانت الآداب “صديقة” لسورية، بالمعنى الإيديولوجي، وأستشهد هنا بما ذكره موقع إعلان دمشق عن مجلة الآداب: ومن الملفت أن مجلة الآداب ذات مواقف قومية معلنة وهي من المجلات اللبنانية القليلة التي دافعت عن العمال السوريين في لبنان، ويرأس تحريرها د.سماح إدريس المعروف بمواقفه القومية اليسارية المؤيدة للمقاومة والمهتمة بالقضية الفلسطينية….. ناهيك عن منع توزيع العدد 943 من جريدة الأخبار اللبنانية، رغم التناغم والتقارب بين الأخبار والنظام السوري، إلى أن جريدة الأخبار اللبنانية كانت قد قررت بتاريخ 11/10/2007 وقف إرسال أي نسخ من الجريدة إلى سورية، إلا أن الجريدة عاودت (إرسال الأعداد إلى سورية بناء على اتفاق مع وزارة الإعلام السورية يقضي بتلافي الأسباب التي حملت إدارة الجريدة على قرارها التي وصفته في حينها بأنه: ( قرار ليس له أيّ بعد سياسي، وهو مرتبط حصراً بمسائل ذات طابع مهني وتجاري). حسب ما ود في بيان صحافي صادر عن المركز السوري للإعلام و حرية التعبير بتاريخ 13/10/09. يبدو أنه ليس للرقيب صاحب!
ـ المزيد من العزلة الدولية في مجال احترام حقوق الإنسان وحريات التعبير … وأستشهد أيضا بما قاله السيد إدريس منتصرا للثقافة : “حتى لو صدرت هذه الممارسات عن بلد يتخذ مواقف سياسية أفضل بكثير من باقي الأنظمة العربيّة، إلا أنّ سؤال الحريات يبقى أولويّة مطلقة بالنسبة إلى كلّ مثقف وناشر”.
ما الفائدة التي يمكن أن يجنيها الرقيب من المنع؟ إن هذه التصرفات تؤكد أن الرقيب السوري لا يزال غبياً وجاهلاً لقواعد اللعبة الثقافية. فالمنع لا يجلب إلا مزيدا من القرّاء، ومزيدا من انتشار الأفكار الممنوعة، وقد أثبتت جميع التجارب أن التسلط والديكتاتورية والانفراد بالقرار، تؤدي بأصحابها، مهما طال الطريق، إلى “مزابل التاريخ”، وأن المستقبل هو لحرية الرأي، ومفاهيم الديمقراطية، والمسألة كلها قضية وقت فقط.
الطريف في الأمر، أن مقالة الدكتور حسان عباس “حكايات ضدّ النسيان: قراءةٌ في بعض النتاج الروائي المعاصر في سوريا”، والمرجح أنها كانت السبب وراء المنع، تعرضت لفكرة الرقابة، والطريف أيضا أن الدكتور عباس لم يتوقع المنع في رده على ” كلنا شركاء”، الموقع الذي كتب : ” وفي اتصال خاص بـ كلنا شركاء مع الدكتور حسان عباس، أوضح أنه فوجئ بالمنع وأسف له وقال: “سواء كان المنع بسبب مقالي أو بسبب مقال غيري فأنا آسف له لأن هذا المنع لا يتناسب مع الوضع الثقافي في سوريا ولا مع الصورة التي تحاول سوريا إظهارها عن نفسها وعن ثقافتها”.
علما أنه تطرق، كما نوهت أعلاه، لموقف الرقابة في مقالته المشار إليها، حيث يشرح فكرة ” الكتابة ضد النسيان”، ويبرر هذا الميل الكتابي، بسببين:
وممّا يعزِّز هذا الادّعاءَ أمران: أولهما أننا نصادف أسماءَ الأدباء الذين يقْدِمون على الكتابة ضدّ النسيان في فعاليّاتٍ ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ (منتديات، بيانات، اعتصامات…) تندرج في سياق النشاط المدنيّ الذي يناهض هيمنةَ الحزب الواحد والرؤية الأحاديّة ويطالب بالإصلاح والانفتاح. وثانيهما أنّ الكتابات المندرجة في هذه الفئة قد عانتِ الرقابةَ بمختلف أشكالها: فمن رقابةٍ تمنع عملاً من النشر داخل البلاد، إلى ملاحقةٍ تسْحبه من التداول بعد عبوره حواجزَ الرقابة “قصر المطر” لممدوح عزام مثلاً)، إلى رقابةٍ ثالثةٍ تمنعه من التداول في حالِ نشرِه خارج البلاد (“القوقعة” لمصطفى خليفة مثلاً) .
وأنا أعتقد بحساسيتي السورية، وخبرتي بعقلية الرقيب، الخبرة التي لا أمتلكها وحدي، بل يتمتع بها معظم المشتغلين في الوسط الثقافي، من موالين أو معارضين، مع احترامي لاعتراض الدكتور عباس على مفهوم المعارضة، الذي أستخدمه هنا بالمعنى الفكري، لا السياسي. إذن بخبرتي المتواضعة هذه، أستطيع أن ألتقط العبارات التي تثير حنق الرقيب، إذ أن جملة ” هيمنة الحزب الواحد” تبدو ملغومة، ومحشوة بالخطر، ناهيك عن “تابوات” وعبارات وردت في المقالة، بنزاهة أدبية، بحثية، يمكن إدراجها تحت مسمى “حسن النية الفكري”، حيث عزل الكتابة هنا، عن السياسة، وسوف أقتطف أدناه، بعض الألغام الموجودة في النص، ربما يتمكن الكاتب السوري، إذا كان يهمه ألا يكون ممنوعا سوريا، من استحداث قاموس بالممنوعات، يمرر نصه فيه، ليتأكد أنه ضمن الأصول الرقابية، المرعية.
ـ التطرق لكتاب هبة الدباغ، وكل من لم يقرأ هذا الكتاب، لا يتصور كمية التعاطف الذي تخلقه القراءة، التعاطف مع العذاب المجاني للكاتبة، مع “حقد” على السلطة، حقد لا يمكن ضبطه، بسبب العنف المرتبط بالكراهية، واللإنسانية.
ـ أن يذكر حسيبة عبد الرحمن قائلا “عضوٌ في حزب العمل الشيوعيّ الذي لم يَشفعْ له امتناعُه عن ممارسة العنف من معاناة عنف السلطة”. فأن يصف حزب معارض ومحظور بأنه حزب سلمي، بينما يشير إلى عنف السلطة، أظن أن هذا لا يروق للسيد الرقيب. كما أنه أشار إلى عنف السلطة في روايتي يزبك ” المسكونتين بهاجس الكشف عن علاقات التجاذب والتنافر القائمة بين عنف الثقافة الدينيّة وعنف السلطة الأمنيّة” .
ـ التوقف عند مفهوم ” أدب السجون”، حيث تصر العقلية الرسمية في سورية، أنه ليس لديها معتقلو رأي، بل تصف أغلب المعتقلين بأنهم خطر يهدد أمن الدولة، وأن يفرد للأدب السياسي مكان رحب في المقال، فهذا يؤكد وجود معتقلات رأي، بل ومعتقلين سياسيين ومفكرين وفنانين، كما ورد في المقال ذاته: “تجْمع بين كلّ هذه الأعمال رغبةُ كتّابها في التذكير بالسجن السياسيّ الذي كان خلال فترة طويلة، ولا يزال إلى حدٍّ ما، حقيقةً مؤلمةً من حقائق عيش شريحةٍ من الناس، هي شريحةُ الأفراد العاملين في السياسة وفي الشأن العامّ في سوريا، ولكنها حقيقةٌ مسكوتٌ عنها في أدبيّات الأجهزة المندرجة في بنية السلطة”.
يبدو أن الدكتور عباس ـ وهو الحاصل على الدكتوراه في النقد الأدبي من جامعة السوربون، إضافة لكونه أستاذاً في المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق ـ مثله كالكثرة من المثقفين المسكونين بالشغف الفكري، الباحثين عن دوحة هادئة، جزيرة آمنة، يعبرون فيها، دون المس بالعمل السياسي، حيث أضمن الطرق إلى مواصلة نشاطاتهم، ضد النسيان، يبدو أنه أيضا أحد أبطال الكتابة ضد النسيان، ولكنه شاء أم أبى، فإن الرقابة لن تغفر له تملصه من السياسي وإخلاصه للثقافي، لأنها مستعدة وبلمح البصر، أن تتنكر لكل العلاقات والنوايا الحسنة التي يتمتع بها الآخر، أمام عبارة واحدة قد لا تروق للرقيب، فماذا إن حظي النص بكل تلك العبارات والتحليلات.
ثمة خطيئة ارتكبها الدكتور عباس، لا خطيئة صناعتنا لتاريخنا بأيدينا، بل خطيئة التذكير بتلك الخطيئة، كما لو أن ناقل الكفر، كافر.
وبهذا المفهوم الرقابي، فمن منا غير كافر، ومن منا، بلا خطيئة… خطيئة الكتابة ضد النسيان.
المستقبل