عشرون عاماً على سقوط جدار برلين.. هل سقطت الجدران فعلاً؟
التاسع من تشرين الثاني عام 1989, مساءً, خطأ بيروقراطي (أو ربما لا), غير مقصود (أو ربما لا) خلال مؤتمر صحفي لأحد المسؤولين الحزبيين في ألمانيا الشرقية أعلن فيه عن الرفع الفوري للقيود المفروضة على تنقّل و سفر سكان ألمانيا الشرقية تدفع بالآلاف من سكان الشطر الشرقي من برلين نحو ذلك الجدار الحجري الذي بناه السوفييت قبل ثلاثة عقود, قابلهم على الطرف الآخر عدد مشابه من سكّان برلين الغربية, و كلا الشقّين يبحث عن تحطيم ذلك الحاجز الذي شكّل أحد أكبر رموز الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي الاشتراكي و المعسكر الغربي الرأسمالي, و كان للجماهير ما أرادت و سقط الجدار تحت ضربات المعاول و المطارق و أمام بصر حرس الحدود من الطرفين, الذين وقفوا يتفرّجون عاجزين عن, أو رافضي, منع ذلك.
برلين اليوم مدينة واحدة أو تكاد, و ألمانيا دولة عظمى يصعب تخيّل أنها كانت محتلّة و مجزأة قبل عشرين عاماً فقط. بالتأكيد ما زال هناك الكثير من الواجبات العالقة و الصعوبات, بعضها ذو رسوخ و قوّة لا يستهان بها, لكنها مسألة وقتٍ لا أكثر, فقد ثبت في تلك الليلة الخريفية أن إرادة الوحدة في وطنٍ واحد كانت أقوى من الأغلال و القيود من أيّ نوعٍ كانت.
تصادف اليوم الذكرى العشرين لسقوط جدار برلين و توحيد شطري ألمانيا, الفيدراليّة أو الغربية و الديمقراطيّة أو الشرقيّة (من الظريف أن كلّ دول العالم التي تحوي كلمة “ديمقراطية” في اسمها الرّسمي يمكن وصفها بألف طريقة و طريقة, ما عدا “ديمقراطية”. لماذا يا ترى؟ هل هو استغباءٌ للعباد أم أن “القرد بعين أمه غزال”؟). و كان انهيار الجدار شرارة البداية لانهيار المعسكر الشرقي و الاتحاد السوفيتي مع كلّ ما رافق ذلك من بدء هيمنة القطب الواحد في جميع أركان العالم. لقد كان انهيار جدار برلين بالنسبة لنصف سكّان العالم هو “نهاية الأزمة” بينما كان بالنسبة للنصف الآخر “بدايتها”.. أليس هذا التباين دليلاً على قيام جدارٍ آخر بدل جدار برلين؟
ليس كاتب هذه السطور من الشامتين و المصفّقين لانهيار المعسكر الشرقي, لكنّه ليس من النّاحبين أيضاً. لقد سقط المعسكر الشرقي بتأثير من ثقله الذاتي فالجثّة ثقيلة على من يحملها. سقط تحت وطأة التحجّر و الانغلاق و الجمود و بتأثير دوامات عالمٍ يتغيّر كلّ يوم و كلّ ساعة, دوّامات حاولوا الملاحة عبرها بأفكارٍ و أساليبٍ عفى عنها الزمن, و لا أتحدّث هنا عن قيم و مبادئ نادت بها الاشتراكية و اليسار الاجتماعي أؤمن بها بشكل راسخ, بل عن أفكارٍ و تطبيقات فكرية هامدة, ممارسات كانت تمشي بغير طريق تلك القيم السامية بل في طريقٍ معاكسٍ تماماً. و لم تتوقّف المشكلة عند انهيار الكتلة الشرقية فقط بل أن هذا الانهيار قد تحوّل إلى عقدة نفسيّة و فكرية استوطنت صميم القوى السياسية التقدمية, خصوصاً تلك التي يجثم على قيادتها أولئك الشيوخ الذين ما زالوا يغذّون هروبهم من الواقع بنوستالجيا الاتحاد السوفيتي.
لقد كانت الشمولية الستالينية (هذه التي يحبّ “الحلفاء شتمها الآن, متناسين أنه لولا ستالين لأكل هتلر العالم يومها) و من ورثها عنه كارثةً ليس فقط على سكّان دول الستار الحديدي, بل كارثةً على الفكر السياسي اليساري بكامله, فكرٌ وئد تطوّره نحو توجّه إنساني اجتماعي و ديمقراطي عندما سُحق ربيع براغ تحت ثقل دبابات حلف وارسو, و لا ننسى طبعاً كلّ تلك الدول التي تعلّمت من الستار الحديدي أساليب القمع و الإرهاب بحق مواطنيها, و كانت تلك الأيام الربيعية من نهاية الستينات هي نقطة البداية لمرض العملاق الأحمر, مرضٌ بحث عنه بنفسه و وجده.
لا يتوقّف الأمر عند نهاية المنظومة الشرقية و مأساة الفكر التقدمي المستمرّة, بل أن هناك تراجيديا أخرى ذات لمسات كوميدية.. ألا و هي النشوة المتواصلة إلى اليوم لمن اعتبر نفسه منتصراً. من المضحك رؤية كيف اجتمع هلمود كول و بوش الأب و غورباتشوف في صورة تذكارية أمام جزء من الجدار المنهار منذ أيام.. ربما أتعاطف مع هلمود كول فقط لأنه كان فعلاً “في المكان و الزمان” وقتئذ.. لكن أن يأتوا ببوش الأب ليبارك, أو يعيد مباركة, انهيار جدار برلين كفاتحةٍ لعهد الحرّية و العدالة و نهاية الظلمات فهذه إهانة للعقل البشري السليم, و تكفي نظرة سريعة إلى تاريخ بوش الأب و ابنه من بعده لمعرفة ذلك. أما غورباتشوف, هذا الذي فشل في كلّ فصول حياته السياسية إلا في تحطيم النظام و الدولة التي كان رئيسها بأبشع شكل. إن هذه الصورة هي مشهدٌ آخر من مشاهد التطفّل على فورة شعبية عظيمة لم توقفها البنادق و الدبابات و رفضت بقاء ذلك الجرح الذي كان يشطر الوطن الواحد… و ما أكثرها تلك المشاهد و ما أكثر تلك التطفلات.
عليهم بدل أن يلتقطوا الصور الباسمة و المنتشية أن يجيبوا على كثير من إشارات الاستفهام, و منها مثلاً إحصائية تنشرها اليوم عدّة جرائد أوربية تشير إلى تراجع كبير جداً في الإيمان الشعبي بالديمقراطية في جميع دول المعسكر الشرقي (ما عدا سلوفاكيا و بولونيا), لأن سبب هذا التراجع في الثقة بالديمقراطية يعود إلى تطفّل آخر, بل بالأحرى اختطافٌ لأسمى فكرة كتبتها البشرية, و استغلال مناشدة الجماهير لها لخدمة إمبراطورية المال و المصالح الكبرى, على حساب المصلحة الشعبية و فوق أي مبدأ آخر من مبادئ الإنسانية و العدالة الاجتماعية.
عليهم أن يجيبوا عن استمرار الفقر و المجاعات و الحروب.. عن غياب العدالة و الحق و المنطق.. عن اغتصاب جميع الأعراف و القوانين و المبادئ السامية, الدولية منها و المحلية لمصلحة الاستابلشمنت الذي يسمح لنفسه فوق كلّ ذلك بالحديث بوقاحة عن العالم الحر.
عليهم أن يجيبوا عن سحق المناخ و البيئة و النتائج السوداء التي حلّت على البشرية نتيجة ذلك من جفاف و قحط و غيرها في أنحاء مختلفة من العالم.. اليوم يجتمعون في برلين في احتفال حاشد فاخر… لكنهم سيهربون كالأرانب المذعورة من مسؤولياتهم تجاه ذبح الكوكب في مناخه بعد أيام في كوبنهاغن.
عليهم أن يجيبوا عن كلّ ذلك و أكثر.. و يجيبوا باستفاضة, فـ بن لادن لا يكفي لتبرير كلّ شيء, و بعد ذلك يمكنهم التقاط الصّور.. إن أرادوا (صور الفيشة قبل دخول السجن طبعاً).
إن حكم هؤلاء للعالم و المنظومة العالمة هو عملية ذبح مستمرّة و مؤلمة للبشرية من الوريد إلى الوريد.. إنها مأساةٌ كونية بحق البشر..
نبارك اليوم للشعب الألماني و نحييه على قيامه من تحت الرّماد بعد حربٍ عالمية ساخنة و أخرى باردة كان وقوداً لها, و نفهم هذا اليوم كمناسبة جميلة لهم و ذكرى رائعة لليوم الذي قامت إرادتهم بهزم الجدار, لكننا نشمئز من الذين اختطفوا بحث البشرية عن عالمٍ أفضل و سوّقوا ما حدث على أنه انتصارٌ للرأسمالية كنظام حتمي و نهائي للبشرية بأكملها, و هنا يشارك اليسار المتأزّم في المسؤولية لأنه يبدو أنه مقتنع بشكل مرضي أنه لا بديل للرأسمالية, و لا يمكن إلا التصالح معها و محاولة مشاركتها و التعايش معه, و لن يخرج من نطاق الذنب حتى يجد نفسه و ينادي بكل وضوح و دون عقدٍ من أي نوع أن الرأسمالية و الإمبريالية هي سرطان الديمقراطية و هي مآسي كبرى جاثمة على صدور الشعوب.. و ما يحدث الآن من أزمةٍ ما هو إلا نتيجة نشوة الرأسمالية و جنونها.
ساعة كتابة هذه السطور يجتمع زعماء العالم في برلين في الاحتفال الذي ذكرناه سابقاً, و قد رأيت في النقل التلفزيوني كيف أن الجو في برلين اليوم ممطر بغزارة, و يجلس هؤلاء الزعماء داخل خيمة عازلة تقيهم من المطر المنهمر, و من المؤكد أنها مجهّزة بالتدفئة أيضاً, في حين يشاهد الجمهور, هذا الذي أسقط الجدار فعلاً, يشاهد الاحتفال تحت المطر و البرد… لعلّ هذا المشهد هو تمثيلٌ للمنظومة العالمية اليوم…
هؤلاء الزعماء الجّافون و الدافئون هم نفسهم من يضحك على لحى العالم أجمع حين يحيي سقوط جدار برلين في الوقت الذي يقيمون فيه جدراناً أخرى أو يدافعون عن قيامها… أم أنهم سيصفقون بحرارة إن سقط جدار الفصل العنصري في فلسطين؟ لا طبعاً.. سيكون هذا اعتداءً على سيادة إسرائيل حسب منطقهم الأحول… فقط يصفقون لسقوط الجدران التي تواتي مصالحهم.. الجدران الأخرى يصفقون لقيامها و ليس لسقوطها.
إن عالماً آخراً مختلفاً عن هذا الجنون هو أمرٌ ممكن… ليس سهلاً لكنه ممكن.. عالمٌ أكثر عدالة, عالمٌ دون حروب, دون مجاعات, دون استغلال… عالمٌ دون جدران من أي نوع, مادّية كانت أم معنوية.. و حين نقول أنه عالمٌ دون جدران نقصد انهيار جميع الجدران و بمختلف أشكالها و أنواعها و مبرراتها.. بلا استثناء
..
الصورة: الموسيقار الروسي الشهير ميسلاف روستوبوفيتش (الذي لوحق في بلاده بسبب تضامنه مع زملاءٍ له و بسبب آراءه و دفعه ذلك إلى اللجوء خارج الاتحاد السوفيتي) يعزف بجانب الجدار بينما كان ينهار تحت مطارق الألمان. (المصدر)
http://www.syriangavroche.com/