صبحي حديديصفحات العالمقضية فلسطين

ذكرى رحيل عرفات: مأساة المناضل وملهاة الرئيس

null
صبحي حديدي
اقترنت الذكرى الخامسة لرحيل القائد الفلسطيني ياسر عرفات (1929 ـ 2004) بحدثَيْن فلسطينيين ـ وفتحاويين بامتياز، كما تجب الإشارة ـ هما إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس قراره بعدم الترشّح للمنصب في الانتخابات الرئاسية القادمة؛ ورحيل صخر حبش، أحد آخر الرجال المحترمين في قيادة ‘فتح’ خاصة، ومنظمة التحرير الفلسطينية عامة. وإذا كانت دوافع الحدث الأوّل تظلّ حمّالة أوجه، إذْ تختلط الترجيحات حول ما إذا كان عباس يناور أو يخلع عباءة الرئاسة (إذْ لا يجوز الحديث عن إلقائه البندقية، فالرجل صار يكره السلاح والصواريخ والعنف مذ جنح إلى السلم والمفاوضات والدبلوماسية)؛ فإنّ الحدث الثاني يقود إلى التفكير في أنّ حال الفراغ القيادي، أو الإفراغ المنظّم، الذي تُقاد إليه ‘فتح’، إنما هو تذكرة بعدد المرّات التي شهدت قتل عرفات سياسياً، ثمّ تنظيمياً وعقائدياً وأخلاقياً في الإستطراد المنطقي.
دافيد كينر، رئيس التحرير المساعد في مجلة Foreign Policy الأمريكية الشهيرة، حاول جرد الأسماء التي يمكن أن تخلف عباس (وهي، حسب ترتيبه: مروان برغوثي، سلام فياض، إسماعيل هنية، محمد دحلان، أحمد قريع، محمد غنيم)، واستعرض ما لكلّ منهم، وما عليه، فخلص إلى النتيجة العالقة التالية: الأوفر حظاً هو البرغوثي، ولكن كيف لرئيس أن يحكم وهو في زنزانة إسرائيلية مؤبدة! وبصرف النظر عن مقدار الخطل في تقديرات هذا النطاسي الأمريكي (الذي لا يتورّع عن إدراج قريع، الفاشل في انتخابات اللجنة المركزية لـ’فتح’؛ أو دحلان، رجل الإستخبارات والقمع وغزوة غزّة المنقلبة وبالاً على مهندسيها؛ أو فياض، غير الفتحاوي؛ أو هنية، القيادي الحمساوي المتحزب؛ أو غنيم، المناهض لاتفاقيات أوسلو، وشبه المنعزل في تونس)، فإنّ اللائحة تبدو تحصيل حاصل لحال الفراغ القيادي في المؤسسة الفلسطينية.
لعلّها، في جانب آخر جدلي من المسألة، عواقب غياب عرفات نفسه، أو تغييبه، عن سيرورة سلام بدا أنه ضامنها الأفضل في الشارع الفلسطيني مثل مؤسساته، من جهة؛ تماماً كما صار، من جانب آخر، سدّاً فعلياً أمام تقديم المزيد من التنازلات لإسرائيل، أو التراخي إزاء تفاصيل الحلّ النهائي الجوهرية، حول القدس والمستوطنات وحقّ العودة وحدود الدولة الفلسطينية. وثمة الكثير من عناصر المفارقة التراجيدية بين زيارة عرفات الأخيرة إلى فرنسا، في مثل هذه الأيام قبل خمس سنوات، محمولاً على نقّالة طبيّة؛ وزيارته الرسمية الأولى إلى باريس، ربيع 1989، محمولاً على الأكتاف والأكفّ، وضيفاً على سيّد الإليزيه آنذاك فرانسوا ميتيران.
في تلك الأيام كانت أزمنة المنظمة حبلى بالمتغيرات الدراماتيكية. فالمجلس الوطني الفلسطيني وافق على صيغة الدولتين، وأعلن ولادة دولة فلسطين المستقلة. وعرفات كان قد حقّق انتصاراً أدبياً على وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جورج شولتز، حين انتقلت الأمم المتحدة إلى جنيف لسماع خطبة عرفات، بعد أن رفضت الإدارة الأمريكية منحه تأشيرة دخول إلى نيويورك.
كذلك كان الحوار الأمريكي ـ الفلسطيني قد بدأ، وإدارة جورج بوش الأب تحتفل بتدشين عهدها على وقع المطارق التي أخذت تعمل هدماً في المعسكر الإشتراكي ونظام القطبين. آنذاك أيضاً، أطلق وزير خارجية أمريكي آخر، هو جيمس بيكر، تصريحه الصاعق الذي ذكّر فيه الإسرائيليين بأرقام هواتف وزارة الخارجية الأمريكية، إذا قرّرت الدولة العبرية تنحية فكرة اسرائيل الكبرى جانباً.
كان زمناً حافلاً، إذاً، بدت فيه سياسة منظمة التحرير أشبه بكيس بابا نويل المتخم بالهدايا والمفاجآت! وعلى ذمة دافيد ماكوفسكي، الكاتب الإسرائيلي وأحد أبرز معلّقي صحيفة ‘جيروزاليم بوست’، كان رولان دوما، وزير الخارجية الفرنسي آنذاك، قد عقد جلسة خاصة مع عرفات طالبه فيها أن يقدّم إلى ميتيران هدية لا تقلّ في قيمتها عن هدية المنظمة إلى أمريكا (أي خطاب جنيف الذي ينبذ الإرهاب، أو إعلان ستوكهولم السرّي الذي يؤكد استعداد المنظمة للعيش بسلام مع إسرائيل، وإدانة جميع أشكال إرهاب الدولة والأفراد، وامتناع المنظمة عن اللجوء إليه في كل حال).
وعلى ذمة ماكوفسكي أيضاً، حدّد دوما طبيعة المطمع الفرنسي، وزوّد عرفات بالكلمة الذهبية التي ستجعل من الهدية قنبلة مدوية، إعلامياً في الأقلّ، وجزاءً وفاقاً لحسن الوفادة الفرنسية. وأما الهدية فهي نعي الميثاق الوطني الفلسطيني، الذي ينصّ على الكفاح المسلح كأداة لتحرير كامل التراب الفلسطيني، ويعتبر الصهيونية حركة عنصرية فاشية. وأما الكلمة الذهبية فقد كانت المفردة الفرنسية Caduc، المصطلح القانوني المراوغ الذي يشتمل على أكثر من معنى، ولكنه يصف محتوى واحداً وحيداً هو أنّ الميثاق باطل أو في حكم الباطل، لأنه تقادم بذاته، ولأنّ الزمن عفا عليه وألغاه قبل أن تلغيه شرائع البشر.
والأرجح أن الزعيم الفلسطيني الراحل ضحك في عبّه وقال ما معناه: غالي والطلب رخيص! وبالفعل، في مؤتمر صحافي حاشد أطلق ‘الختيار’ الكلمة التي تؤكد على ختيرة الميثاق، وفي الأساس كان مندوب المنظمة في باريس آنذاك، ابراهيم الصوص، قد اعتبر الميثاق باطلاً بحكم الأمر الواقع وبحكم قرارات المجلس الوطني في الجزائر، كما أوضح محمد حسنين هيكل في كتابه ‘الأقنية السرية’. باطل بالتقادم والختيرة. باطل بحكم الأمر الواقع. باطل لأنّ حكاية الكفاح المسلح دخلت متحف التاريخ من الأبواب الخلفية. وباطل لأنّ الأمم المتحدة سحبت قرارها الذي يعتبر الصهيونية حركة عنصرية.
ولعلّ عرفات قد استعاد برهة العام 1989 تلك، حين حلّقت طائرته في سماء باريس، قبل أن تحطّ في باحة المشفى العسكري الذي سيشهد نهاية الرمز الفلسطيني المعاصر الأعلى، بعيدا عن ثرى فلسطين. صحيح أنها لم تكن أبرز محطات حياته الحافلة، وثمة ما يفوقها في الرمز والدلالة والعاقبة، غير أنّ المكان كان بالمكان يذكّر، والسياق بالسياق أيضاً! ها هو الرجل يأتي من حصار ضيّق داخل مبني ‘المقاطعة’ في رام الله، وكان سنة 1989 قد أتى من حال مشابهة تمزج المنفى بالحصار. وها هي أمريكا جورج بوش الابن تقاطعه، وفرنسا الرسمية لم تكن تستقبله سياسياً كما فعلت في الزيارة الأولى، بل طبيّاً وإنسانياً.
وأياً كان الخلاف أو الاتفاق حول خياراته السياسية والفكرية وحتى التنظيمية، فإنّ عرفات الأخير استقرّ في صورة القائد السياسي الذي رفض إحناء الرأس في كامب دافيد، صيف 2002، طيلة تسعة أيّام من الضغط الهائل الذي مارسه الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، على نحو لم يكن له نظير في تاريخ علاقة البيت الأبيض بقضايا الشرق الأوسط. وحين وصلت تفاصيل التسوية إلى حقوق الشعب الفلسطيني الأساسية، خصوصاً القدس وحقّ العودة والإستيطان، قال عرفات ‘لا’، مدويّة ثابتة راسخة و… مدهشة، في الواقع، إذْ تصدر عن رجل كان مولعاً بـ’سلام الشجعان’ دون سواه!
ولقد استحقّ سخط واشنطن مذاك، ثم تكفّل المجتمع الإسرائيلي بانتخاب أرييل شارون لكي يذيق عرفات المزيد من ألوان الضغط والمهانة والعزل والحصار، وفي غضون السيرورة بأسرها كان النظام العربي يُجْهز على ما كان تبقى في نفس الرجل من عناصر أمل ونوازع صمود. قال ‘لا’ حين كانت الـ’نعم’ هي المنجاة والإجابة الوحيدة في آن، ولو أنه أحنى الهامة فلعلّنا ما كنّا سنبصره محمولاً على نقّالة طبيّة في سماء باريس؛ وما كان سيلزَم ‘المقاطعة’ محاصَراً.
الأرجح أنه كان سيواصل تجواله في عواصم العالم، على متن طائرة أفخم وأحدث، معززاً مكرّماً أكثر بكثير من كلّ أقرانه الحكّام العرب، الذي مسحوا رقم هاتفه في رام الله، راغبين أو مُكرهين!
ولقد سال مداد كثير في وصف محاسن هذا الزعيم ومساوئه، خصوصاً بسط الحماية على تلك الحلقة الضيّقة التي قرّبها منه، وأطلق لها اليد في الفساد والإفساد والتسلّط والترهيب، ومحاكاة مختلف جرائم الإستبداد العربي. ولكنّ الأخلاق البسيطة، فضلاً عن موضوعية الوقائع ذاتها، تقتضي عدم التقليل أبداً من حجم المأزق الذي عاشه عرفات في السنوات التي سبقت رحيله، من جانب أوّل؛ ومقدار المرّات التي دُفع فيها إلى الجدار الأخير، أو حُشر في الزاوية الأضيق، من جانب ثانٍ. لكنّ عرفات، ومنذ رفضه الخنوع لاشتراطات كامب دافيد ـ 2 وحتى حصاره في مبنى ‘المقاطعة’، دُفع إلى حافة اتخاذ القرار الأخطر في حياته قاطبة: إمّا الخضوع والإستسلام وبيع التضحيات الفلسطينية الجسيمة بثمن بخس أقرب إلى المجّان، أو الصمود مرّة أخرى… اتضح أنها كانت الأخيرة!
وما الذي كان سيتغيّر حقاً على صعيد السلطة الوطنية الفلسطينية إذا استجابت لمطالب شارون؟ وكيف وبأيّ معنى ستبقى هذه السلطة وطنية حقاً، وفلسطينية؟ كان شارون يريد التالي من عرفات: تنفيذ حملة اعتقالات فعلية، شاملة، ساحقة، وماحقة؛ تجريد جميع ‘المنظمات الإرهابية’ من أسلحتها، والدولة العبرية هي وحدها الجهة المخوّلة بتعريف ‘الإرهاب’ و’الإرهابيين’؛ جمع هذه الأسلحة وتدميرها بمعرفة المخابرات الإسرائيلية، أو عن طريق وسطاء أمريكيين؛ التعهد بعدم تكرار العمليات الإنتحارية، وضمان ذلك عن طريق خطة أمنية دائمة يكون الضباط الإسرائيليون جزءاً لا يتجزأ من هيكلية تنفيذها؛ وإنهاء كلّ أشكال التحريض ضدّ الدولة العبرية، في المساجد ووسائل الإعلام كما في الكتب المدرسية وشاشات التلفزة الدولية…
غير أنّ محاق سلطة محمود عباس، كما تجلّت أحدث مظاهره في ما لقيته من خذلان على يد إدارة باراك أوباما (رغم القربان السمين الذي تجاسرت السلطة على تقديمه: سحب تقرير غولدستون)، واضطرار الرئيس إلى زعم العفة في عدم خوض الانتخابات الرئاسية القادمة، يجعل مطالب شارون تلك أضحوكة، سيّما بعد انفلات آلة البربرية الإسرائيلية من كلّ عقال، في الضفة الغربية كما في غزّة. وعلى نحو ما، ليس التخبط الذي تعاني منه قرارات السلطة، في السياسة كما في الإدارة اليومية البسيطة لشؤون العيش الفلسطيني، سوى المظهر المباشر لعطالة شاملة في محتوى الأداء وشكله، كانت تتفاقم منذ سنوات، وتنذر بأنّ قادم الأيام أسوأ من سالفها.
والمشهد اليوم محض دليل إضافي على حقيقة كبرى: لقد نجحت اتفاقيات أوسلو في تحقيق جزء كبير من الأغراض الإسرائيلية، وخاصة تفتيت الأراضي الفلسطينية بين غزّة والضفة والقدس الشرقية، وشطر الشارع السياسي الفلسطيني بين ‘فتح’ المشلولة أو الغائبة أو الفاسدة، و’حماس’ المصابة بعظام العقيدة وشلل الإرتهان للخارج؛ كما نجحت، استطراداً، في وأد الجزء الأعظم من رهانات السلطة الفلسطينية، عرفات مثل عباس، وقبله، كما تقتضي الإشارة. غير أنّ الأوّل قال ‘لا’ في البرهة الحاسمة، ومضى، في ذمّة التاريخ؛ والثاني صعد أساساً على أدراج أوسلو وأضاليل السلام والتسوية، منذ 1993، لكي لا يقول أيّ ‘لا’، في أية برهة.
وبين رحيل مناضل/ناسك مثل صخر حبش، واندحار مهادن/بيروقراطي مثل محمود عباس، أي بين مأساة المقاتل وملهاة الرئيس، تظلّ مناسبة رحيل ياسر عرفات تذكرة جارحة بالفارق بين الـ’لا’ الثمينة التي أتقن المقاومون اعتمادها في البرهة الضرورية؛ والـ ‘نعم’ الرخيصة التي أجاد التاريخ تعرية مخازيها، على الدوام.

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى