الثقافة والتنمية… المعادلة المهملة
د. عمار علي حسن
توقع كثيرون تراجع دور الثقافة في مشروع النهضة الأوروبي، وقيل إنها لن تكون متغيراً أصيلا في تحليل الظواهر الإنسانية، لكن ما جرى في الواقع سار عكس هذه التوقعات. فبعد أن خفَتَ الحديث عن دور الثقافة سواء في بناء المعرفة الإنسانية أو في تفسير ما يجري في الواقع المعيش، جاء العقد التاسع من القرن العشرين ليشهد عودة المحددات الثقافية لتحتل موقعها اللائق في العلوم الاجتماعية، لاسيما على أكتاف الدراسات التي ربطت بين الثقافة المحلية والتنمية، ودراسات الماركسيين الجدد، التي لم يرق لها تماماً ما ذهب إليه ماركس وأنجلز من اعتبار الثقافة جزءاً من “البنية الفوقية” التي لا تؤثر في حركة الحياة بالقدر نفسه الذي تمارسه العناصر المادية المشكلة للبنية التحتية.
ولعل ما كتبه فوكاياما عن الدور الإيجابي للروابط العائلية في ازدهار الاقتصاد الصيني والكوري الجنوبي، يقدم دليلا واضحاً على هذا الأمر. ويطرح فوكوياما سؤالا: هل العوامل الثقافية مثل رأس المال الاجتماعي والترابط الاجتماعي التلقائي ليست لها أهمية، نظراً لأن الدولة بوسعها التدخل لسد الثغرة التي تركتها الثقافة؟ ويجيب: لا، ثم يقول: “ليست لدى كل دولة الكفاءة الثقافية التي تمكنها من انتهاج سياسة صناعية فعالة مثلما فعلت كوريا”.
ووصل الأمر إلى ذروته مع اعتراف دانييل باتريك موينيهان بأن “الثقافة، وليس السياسة، هي التي تحدد نجاح أي مجتمع”. وعلى رغم أن البعض يرى أن الثقافة توجه السياسة في الرؤى المحافظة، وليس في التصورات الليبرالية التي تعلي من شأن السياسة، فإن كثيراً من الباحثين والمفكرين الغربيين لم ينكروا الدور المتعاظم للثقافة، فها هو صمويل هنتنجتون يتحدث في كتابه “الموجة الثالثة للديمقراطية” مؤكداً أن هناك ثقافات تساعد على قيام النظم الديمقراطية، وأخرى تفتقر إلى هذا. أما علماء الأنثروبولوجيا فلم يتأثروا بكل المحاولات التي رمت إلى تهميش دور الثقافة في تفسير وتحليل وتغيير ما يتلاحق في الواقع ويلمسه الناس، ويشعرون بتأثيره المباشر في حياتهم.
وعلى رغم أن المدرسة الليبرالية أعلت من شأن الجوانب السياسية والاقتصادية على حساب الثقافة، فإنها لم تلبث أن عادت لتصحح خطأها هذا، وهو ما ظهر في الرؤى التي قدمها جاري بيكر حول التفاعلات الاجتماعية، ودوجلاس نورث عن المؤسسات كمنتجات ثقافية، وتحليلات “آماراتيا سن” لقضية الاختيار الاجتماعي، والرؤى كافة التي نظرت إلى التنمية باعتبارها عملية إنسانية قبل أن تكون مجرد نشاط اقتصادي.
والثقافة بشقيها، المعنوي والمادي، بات ينظر إليها باعتبارها تلعب دوراً مهماً في عملية التنمية، عبر اشتراكها في تشكيل أو صياغة السياق العام الذي تتفاعل داخله المشروعات الاقتصادية، لاسيما في جوانبها البشرية، التي تتعامل مع التنمية من منظور أوسع بوصفها عملية تعزز الحرية الفعالة للشعب، وتتيح متابعة ما يراه ويدركه من قيم، وليست فقط النمو الاقتصادي وزيادة الإنتاج وارتفاع مستوى الدخل.
والعنصر الثقافي كان حاضراً دوماً في دراسات التنمية، إلى درجة أن البعض فسر قضية التنمية على أنها مسألة ثقافية، وتم توسيع كلا المفهومين ليشمل الواحد منهما الآخر، وبات هذا أمراً محسوماً في الدراسات الغربية. ولم تبق أمام الباحثين سوى مشكلة واحدة تتعلق بصعوبة القياس الكمي لتأثير عنصر الثقافة في عملية التنمية، وتعامل البعض معه باعتباره الركن البعيد الذي تحال إليه الظاهرة إن عجزت العناصر الأخرى عن تفسيرها، وأنه الذريعة التي يلجأ إليها الكسالى والفاشلون من الباحثين للهروب من مشقة تتبع العوامل والعناصر الأصيلة.
ولكن هذا الأمر لم يؤد، مع تقدم مناهج المعرفة، إلى التقليل من دور العامل الثقافي في صناعة التنمية، بل لقد ثبت حضوره في القضايا الاقتصادية الجزئية. ويظهر مجال مثل السياحة حجم هذا الدور، نظراً لارتباط حركة السائحين بأنماط ثقافية وسلوكيات اجتماعية ورغبات معرفية واقتناع بحق الإنسان في الترفيه، أو شوقه إلى الإلمام بأحوال المجتمعات الأخرى. كما أن مجال مكافحة الفقر يقدم مثلا آخر ناصعاً على علاقة الثقافة بالتنمية، إذ تم تجاوز النظرة التقليدية إلى العوز باعتباره نقصاً في الموارد الاقتصادية وبؤساً في الأحوال الاجتماعية، إلى تناول الآثار السيئة التي يتركها على حرية الإنسان وكرامته ومكانته، وكيف يؤدي تعزيز شعور الفرد بهذه القيم وتلك المعاني إلى مساعدته على الخروج من دائرة الفقر الجهنمية.
وقد أثبتت بعض التجارب الميدانية في مجالي التغير الاجتماعي والتقدم التقني في العديد من الدول النامية أن العوامل الثقافية، لها دور كبير وفاعلية واضحة في مسألة قبول أو رفض البرامج الخاصة التي تقدمها المؤسسات الخارجية. ولذا حرص الكثير من هذه المؤسسات على تصميم برامج تتماشى مع الثقافة السائدة في المناطق المراد تنميتها.
وهناك ثلاثة اتجاهات أساسية تبين دور الثقافة في عملية التنمية، الأول يتعلق بكون الثقافة متغيرا فاعلا في عملية التحديث، لاسيما من الزاوية التي ترى أن التحديث يمكن أن ينتقل من المجتمعات المتقدمة إلى المتخلفة بعد الانتقال المتدرج أو الانتشار المتتابع للأنماط الثقافية من الأولى إلى الثانية، بما يؤدي إلى تفكيك الأبنية الثقافية التقليدية التي تعوق التحديث. والثاني يتمثل فيما أنتجته مدرسة التبعية، التي إن كانت جذورها الماركسية- اللينينية قد جعلتها لا تعطي الثقافة كامل دورها في عملية التنمية، فإنها اعتبرت المنتج الثقافي إحدى أدوات دول “المركز” في إلحاق دول “المحيط” بها، وبينت كيف أن الجماعات التي تشكل “مركز المحيط” تتماهى مع ثقافة “المركز” وتتمثلها.
أما الثالث فيرتبط بثقافة العولمة التي تسعى إلى فرض نفسها على الثقافات القومية، بهدف تأسيس تجانس اجتماعي وثقافي عالمي، تشكل هذه الثقافة قاعدته، في مواجهة ثقافة العمل الأهلي والتطوعي التي تنشأ من أسفل، وتسعى إلى إحياء ثقافة الفقراء وتطويرها بحيث تكون قادرة على إشباع حاجاتهم وتنمية واقعهم.
وبعد كل هذا لا يزال في عالمنا العربي من لا يهتم بالثقافة، ولا يعطيها وزنها في حركة الحياة، ويعتقد أنها مجرد كلام يعطل عن إدارة الأعمال والأموال. وهذه آفة آن لها أن تزول.
الاتحاد