قراءة في «غيوم الزمن» لميخائيل بيلوأوسَف: صلاة من أجل مستقبل روسيا
منذر بدر حلوم
تلفت مجموعة الكاتب ميخائيل بيلوأوسوف قارئها من العنوان, وهي مجموعة صدرت بداية هذا الشهر (تشرين الثاني/نوفمبر 2009 عن دار تامبوفية في روسيا). فالغيوم تنتمي إلى السماء كما تنتمي إلى الأرض, وعلى الرغم من أنّ القصص ليس فيها ما يشي بعلاقةٍ بالسماء, إنّما فيها دعوة إلى النظر نحو الأعلى, الأعلى بما هو منظومة قيم أخلاقية ووطنية وبما هو رغبة في الكاتب لأبطاله لتجاوز ذواتهم خدمةً لمُثُلٍ عليا, ليس أقلّها شأناً (الوطنية). والوطنية عند بيلوأوسَف تُشتَق من الوطن بما هو بلدة صغيرة (ميتشورينسك), كما من الوطن الكبير (روسيا), تشتق من عمل صغير في موقع وظيفي صغير, كما تشتق من ساحات الوغى, من الرقص والغناء كما من نزالات الهوكي على الجليد, من التماسك وتعلّم سبل العيش في العالم الجديد كما من محاولة النهوض, وقصص بيلوأوسَف (ناظر العربات؛ نشيدان؛ جيش الحرس الثاني..) حافلة بالأمثلة على ذلك.
وفي العنوان, أيضاً, دعوة إلى رؤية الوجه الآخر من الأشياء, إلى رؤية روسيا ليس بالأبيض والأسود فقط, فروسيا ليس فقط تقاتل بل هي تلعب وتغنّي وترقص, وفيها من الطيور كثير غير البوم. وأمّا الـ(غيوم..) فكما يمكن أن تنذر بعاصفة, يمكن أن تكون دليلاً على انحسار العاصفة، وكما الغيمة تظلّلنا من شمس الصيف الحارقة, فهي تبشّر الأرض العطشى وما عليها من بشر يعانون تحصيل اللقمة بالمطر, وفي الغيم قول بعدم الاستقرار, عدم استقرار السواد بالنسبة لروسيا, وبانزياح الأضواء والظلال. فظلمة روسيا بيلوأوسَف ظلّ غيمة عابرة, أو ظلمةُ غيمةٍ على الناس أن يستمطروها, فإذا بهم يأتون بماء الحياة من سوادها وإذا بالشمس تشرق بعدها على كائنات لديها ما يكفي من أسباب الحياة ومن الرغبة في تحدي الصعاب.
وعليه, فـ(غيوم الزمن) عنوان أشد ما يكون انسجاماً مع ما جاء بين دفتي الكتاب, وهو عنوان يصلح, انسجاماً مع مضمون القصص, لرؤية الزمن بمعناه المديد, معنى الحقبة أو العصر, كما بمعناه القصير والعابر المؤقت, زمن الأفراد. فثمة لروسيا الكبرى غيومها الكبيرة, كما للأفراد الساعين في سبلها غيومهم, وكلّها غيوم للشمس والمطر والنبت الأخضر واللعب بعد السواد, أو في السواد, ولكنّه سواد الخشبة التي يعرف الممثل كيف يخرج منها إلى العيون التي تنتظره, كما هو حال الراقصات الصغيرات في (نشيدان).
وأمّا ما بعد العنوان, فثمّة كتابة تأخذ بتقاليد النثر الروسي الكلاسيكي خاصة في الوصف, وإن كان الوصف, إسهاباً أو تلميحاً, لدى بيلوأوسَف يكاد يقتصر على الطبيعة دون الأشخاص وبيئة الحدث, إنّما تطور الأحداث التي يضع فيها شخصياته والأدوار التي يلعبونها في توجيه هذه الأحداث, وبالتالي في رسم مصائر الأشياء وليس فقط مصائرهم الفردية, يجعلنا نرى عوالم أبطال قصصه الداخلية (الفردية كما في حالة الفدائيين المقاومين في الحرب, والجماعية كما في حالة لاعبي الهوكي وفرقة الرقص). لكننا نجد أنفسنا هنا أمام مصوّر لا يترك لنا حرّية أن نتحدّث مع شخصيات لوحته, أمام مخرج لا يترك لممثليه أن يتواصلوا مع الجمهور. فالكاتب يقول والشخصيات تلتزم بما يقول فلا تخرج عنه بحوار هنا أو مزحة تشي بممانعة هناك, أو بمزاج ينشق عن الهوى العام. وهذا يبدو غريباً خاصّة مع السخرية التي تسم كتابة بيلوأوسَف, ولكنها سخرية المؤلّف الذي يقول لنا: انظروا, هذا مثير للضحك, هذا مفارق, هذا عبثي.. انظروا ما يفعل هذا الغبي, فيما أبطاله غارقون في جدّيتهم.. ولعل السخرية من المشرّد ومن رجال الشرطة الأميركان وهي ما تقوم عليه قصة (صيد سمك في أميركا) تشذّ عن ذلك. فعلى الرغم من أنّ السخرية في هذه القصة تقوم على عدم فهم أولاء لانشداد خيط سنارة الدبلوماسي الروسي إلى داخل الماء دون وجود محرّك في نهايته, إلاّ أنّها سخرية من خارج الفعل ذاته, وربما أمكن الاستغناء عنها. وليس كما في مشهد نكش أولاد الدبلوماسي لمرج السفارة الذي دُفع ثمنه غالياً وفُرِشَ استعدادا لاستقبال غورباتشيوف بعد ارتباك وحيرة في تدبر أمر حديقة السفارة التي بدا عليها الإهمال واضحاً ناهيك بشيخوخة مرجها, وإذا بالأولاد ينكشونه بحثاً عن ديدان لصيد السمك, في صورة تدعو إلى الضحك من جهة والتعاطف مع الدبلوماسيين المرتبكين من جهة أخرى.. فالسخرية هنا, على خلاف سابقتها, جاءت من قلب اللعبة وليس من خارجها, وجاءت مفاجئة ومدهشة. وثمّة إضحاك وسخرية دون مفاجأة إلا إذا كان المزيد من البلاهة يفاجئ, كما في حالة سلافيك في (فجر الرأسمالية) واندفاعه إلى صفقات متكررة تقوده إلى المزيد من الخسائر, حين تكون الخسارة نتيجة مؤكّدة لمقدمات يغلق سلافا عن رؤيتها عينيه. علما بأنّ القدرة على المفاجأة سمة رئيسة لكتابة بيلوأوسَف.
السخرية
وفي السخرية, وليس فقط, نرى حضور المؤلّف الموازي لنصه, وبمعنى ما الحضور فوق النص, ولكنه الحضور الخفيف الظل الذي يجبرك على ابتسامة لحظةَ يصعب عليك مغالبة الدمع, ولكأن الكاتب هنا يعتذر بطريقته الخاصّة عن جديّة الأفكار التي تتناولها قصصة على تنوّع موضوعاتها. إنّما حضور المؤلّف فوق النص يتحوّل في حالات أخرى إلى هيمنة على النص وإلى مصادرة لمقولاته الممكنة بعيداً عن رغبات المؤلف ونواياه, حضور إرشادي توجيهي مدرسي, حضور سلطة المؤلف الذي يريدنا أن نعرف كيف يفكر وبماذا يؤمن خارج نصّه, وهو حضور مؤذ فنّياً أكثر مما هو مفيد (المقدّمة عن الوطنية في قصة (نشيدان), وهي قصّة قد يكون من المفيد التفكير بجعلها قصتين, واحدة للعبة الهوكي, دون تلك المقدّمة عن مفهوم الوطنية عموماً والوطنية الروسية على وجه الخصوص, وأخرى عن طريق فريق الرقص إلى النجاح, والخاتمة في قصة (ناظر العربات), وكذلك التقرير الختامي في (جيش الحرس الثاني), ومقدمة (فجر الرأسمالية).
وعند الجزء الثاني من (نشيدان) المشدودة إلى قاطرة غريبة عنه فنّياً ومنسجمة معه إيديولوجياً, يمكن التوقّف وإبداء الإعجاب بما جاء فيها من ذرى سردية وانفعالية ـ وهي خاصية تتجلى في قصص أخرى عند بيلوأوسَف: انتظار إتمام الصفقات وجني الأرباح في فجر الرأسمالية, الهرب من المعسكر النازي في جيش الحرس الثاني ـ وصولا إلى القمّة والانفراج.. فقد تمكّن بيلوأوسَف من الإمساك بنا والتحكّم بأنفاسنا من نقطة حدود إلى نقطة أخرى ومن عثرة إلى أخرى وإذا بنا نصلّي من أجل أن يصل أولئك الراقصون, وتضيق أنفاسنا ثم تنفرج أساريرنا معهم في سباق مع الوقت ينتهي بتتويجهم, وتتويج صلواتنا بالتحقق.
وعلى العموم, تأخذ قصص بيلوأوسَف قارئها خلسة فإذا به يتعاطف مع أبطالها, وليس فقط في الحرب وعلى جليد الملعب وفي الحافلة وعلى خشبة المسرح وفي السوق أيضاً, السوق الذي طالما هزّ كبرياء روسيا. ألم يثر سلافيك تعاطفنا معه ويستحضر صلواتنا من أجل خلاصه في قصة (فجر الرأسمالية)!؟ وإذا كان في ذلك صلاة لخلاص روسيا فهي دعوة لهطول ماء من (غيوم الزمن) تغسل ما علق بروسيا من أدران جاءت بها رياح التغيير, هطول تصفو بعده سماؤها وتشرق شمسها. وهكذا تكون مجموعة بيلوأوسوف من الكتابات المهمّة من حيث أنّها تتأمّل روسيا بابتسامة حزينة وتصلّي من أجل مستقبلها في آن, ولكنّها لا تدعو إلى الصلاة إنّما إلى العمل.
(كاتب سوري)