صفحات ثقافية

حــجـــرة الــشــــــاي –

null
أوكاكورا كاكوزو
لا يزال “كتاب الشاي”، على الرغم من مضي قرن من الزمان على وضعه، المرجع الأهم في الشاي، لا بوصفه شراباً كونياً فحسب، بل لكونه “أسلوب حياة” وفلسفة متكاملة يمتزج فيها الروحيّ بالدنيوي والزائل والعاثر بالثابت والدائم. يتخذ مؤلف الكتاب أوكاكورا كاكوزو، أو كما يعرف في اليابان باسم تنشين، منصة فكرة وجمالية ينطلق منها ليشرح للآخر، الغربي خصوصاً، السمات المميزة في الحضارة الشرقية، وليبني من خلاله جسر تواصل لا يقوم على التبعية والاستلاب، بل على فهم كل طرف لخصوصية الآخر، وقد وضع كاكوزو مؤلفه هذا في زمن كانت تشهد فيه اليابان تحولات كبيرة في نمط عيشها بسبب احتكاكها بالغرب أو احتكاك الغرب بها. ومنذ نشره يعدّ “كتاب الشاي” من أكثر الكتب ريادية لناحية جَسر الهوة الثقافية بين الأمم والشعوب، وقد وضعه مؤلفه باللغة الإنكليزية تحديداً بهدف مخاطبة “العقل الغربي” بلغته ومنطقه. “كتاب الشاي” الذي ترجم إلى معظم اللغات الحية في العالم يترجم للمرة الأولى إلى العربية وذلك عبر “مشروع كلمة للترجمة” في أبو ظبي. هنا الفصل الرابع من الكتاب بعنوان “حجرة الشاي”.
بالنسبة إلى المعماريين الأوروبيين الذين نشأوا على تقاليد المنشآت المبنية بالحجر والآجر، فإن منهجنا الياباني القائم على البناء بالخشب والخيزران بالكاد يبدو ذا قيمة حتى يُصنّف كهندسة معمارية. وقدّ مرّ زمن طويل قبل أن يعترف أخيراً أحد الدارسين الكفوئين للهندسة المعمارية الغربية بقيمة معابدنا العظيمة ويمجّد الكمال الهائل الذي تنطوي عليه. وهذه هي الحال في ما خص عمارتنا الكلاسيكية، فبالكاد نتوقّع من شخص غريب أن يقدّر الجمال السامي الكامن في حجرة الشاي، ومبادئ إنشائها وزينتها الداخلية التي تختلف كلياً عما هو معهودٌ في الغرب.
لا تعدو حجرة الشاي (السوكية1) كونها أكثر من مجرد كوخ، مجرد سقيفة من القش، مثلما نسمّيها. تعني كلمة سوكية “مسكن الوهم”، وأخيراً استبدلها عدد من معلّمي الشاي المختلفين بخاصيات صينية وفقاً لمفهومهم عن حجرة الشاي، وصار تعبير السوكية يمكن أن يعني “مسكن الفراغ”2 أو “مسكن اللا متناظر”3. إنه مسكن الوهم، ما دام بنية زائلة مبنية لتحتضن اللحظة الشعرية. وهي مسكن الفراغ بقدر ما هي خلو من عناصر الزينة (الديكور) الداخلية، إلا ما يوضع فيها تلبية لبعض احتياجات اللحظة الجمالية. وهي مسكن اللا متناظر بقدر ما تكون مكرسة لعبادة النقصان أو عدم الاكتمال، وترك بعض الأشياء غير مكتملة عمداً لكي يكملها مسرح الخيال. فقد أثّرت قيم التاوية منذ القرن السادس عشر على عمارتنا إلى حدّ أن الديكورات اليابانية الداخلية في وقتنا الراهن، بسبب البساطة القصوى ورزانة التصميم، تبدو للغريب شبه عارية.
كانت حجرة الشاي المستقلة الأولى من إبداع سينو سويوكي المعروف باسمه اللاحق ريكيو Rikiu 4 وهو أعظم معلّمي الشاي، الذي قام في القرن السادس عشر، في ظلّ رعاية التايكو هيده يوشي5، بوضع أسس طقوس الشاي وإيصال شعائرها إلى حدّ الكمال تقريباً. وقد تقررت نسب حجرة الشاي عبر جو وو Jowo، وهو معلّم شاي شهير من القرن الخامس عشر. تكوّنت حجرة الشاي الأولى بالكاد من جزء من حجرة الرسم الاعتيادية، وقسمت بستائر بهدف اجتماع الشاي. وسمّي هذا القسم بالكاكوي (السياج)، وهو اسم لا يزال يطلق على حجرات الشاي التي تبنى داخل البيوت ولا تكون مستقلة. تتكوّن السوكية من مساحة حجرة الشاي، التي صمّمت لاستضافة ما لا يتجاوز الخمسة أشخاص، ومن حجرة انتظار (ميدسويا) حيث تُغسل عدّة الشاي وتُوضّب قبل إدخالها، ومن شرفة (ماتشياي) ينتظر فيها الضيوف حتى يُستدعَوا للدخول إلى حجرة الشاي، ومن مجاز حديقة (الروجي) الذي يصل الشرفة بحجرة الشاي. حجرة الشاي غير مدهشة في مظهرها. فهي أصغر من أصغر البيوت اليابانية، بينما المواد المستعملة في بنائها يُقصد منها منح الانطباع بالتقشّف المهذب. بيد أنه ينبغي أن نتذكر أن هذا كله نتيجة التفكير الفني العميق المسبق، وأن التفاصيل قد اشتُغل عليها بعناية ربما أكبر من تلك التي تُسبَغ على أرفع القصور والمعابد. إن حجرة الشاي الجيدة تكلف أكثر من بيت اعتيادي، ذلك أن اختيار موادها، واليد العاملة على بنائها، يتطلب عناية شديدة ودقة. بالتأكيد، يشكّل النجّارون الذين يعيّنهم أساتذة الشاي، طبقة مشرّفة ومميزة بين الفنانين، ذلك أن عملهم لا يقلّ دقة عن صنّاع أكواخ اللك (الورنيش).
ليست حجرة الشاي مختلفة عن أي إنتاج للعمارة الغربية فحسب، بل تتناقض بقوة أيضاً مع العمارة الكلاسيكية في اليابان نفسها. ذلك أنه يجب عدم الاستخفاف بصروحنا النبيلة القديمة، سواء أكانت دنيوية أم دينية، حتى في ما يتعلّق بمساحتها. إن القليل مما بقي منها من حرائق القرون الكوارثية لا يزال قادراً على إدهاشنا لشدة عراقة ديكوراته وعظمتها. نجد الدعائم الخشبية الضخمة التي يراوح قطرها بين القدمين والثلاث أقدام، وطولها من ثلاثين إلى أربعين قدماً، تسند عبر شبكة معقدة من السنّادات، الألواح الهائلة التي تئنّ تحت ثقل السقوف المغطاة بالقرميد. برهنت هذه الطريقة في البناء والمواد المستعملة فيه، على الرغم من هشاشتها أمام النيران، أنها قوية في مواجهة الزلازل الأرضية، ومناسبة للأحوال المناخية للبلاد. ونجد في الردهة الذهبية في قصر هوريوجي، وفي باغودة (هيكل) ياكوشيجي، أمثلة جديرة بالاهتمام عن دوام عمارتنا الخشبية. تلك المباني بقيت على حالها قرابة الإثني عشر قرناً من الزمن. أما الديكورات الداخلية للمعابد والقصور التاريخية فكانت شديدة الإسراف. ولا يزال في وسعنا أن نرى في معبدي هودو وأوجي، العائدين إلى القرن العاشر، تلك السرادقات المتقنة ذات الأنسجة الحريرية الموشّاة بالذهب، والمتعددة الألوان والمرصعة بالمرايا وعرق اللؤلؤ، كما نجد بقايا رسومات ومنحوتات كانت تغطي الجدران سابقاً. لاحقاً، في قصري نيكو ونيجو في كويوتو، نرى أبهة البناء يُضحّى بها لصالح ثروة من التزيينات تساوي من حيث ألوانها وتفاصيلها الدقيقة أعظم ما جادت به العمارة العربية أو الإسلامية.
نتج نقاء حجرة الشاي وبساطتها من محاكاة دير “الزن”. فهذا الدير يختلف عن أديرة المذاهب البوذية الأخرى لجهة أن المقصود منه فقط أن يكون مسكناً للرهبان. إن معبد هذا الدير ليس مكاناً للعبادة، بل غرفة دراسية يجتمع فيها التلاميذ لمناقشة التأمل وممارسته. الحجرة عارية إلا من معتَزل مركزي يضمّ، خلف المذبح، تمثالاً لبودي دارما، مؤسس المذهب، أو لبوذا مصحوباً بأكابيهابا وأناندا، أول بطريركين لـ”الزن”. على المذبح، تُوضع الزهور والبخور إكراماً لذكرى المساهمات العظيمة التي قدّمها حكماء “الزن” أولئك. وقد أسلفنا القول إن الطقس الذي وضع أساسه رهبان “الزن” والقاضي باحتساء الشاي على التوالي من زبدية موضوعة أمام رسم يمثّل بودي دارما، كان الذي وضع أسس طقوس الشاي. ونستطيع أن نضيف هنا أن مذبح “الزن” كان نموذجاً بدائياً للتوكونوما، مكان الشرف في الحجرة اليابانية حيث توضع الرسوم والزهور إكراماً للضيوف.
جميع معلّمي الشاي الكبار عندنا كانوا من تلاميذ “الزن”، وسعوا إلى إدخال روح عقيدتهم في صلب الحياة. الحجرة تالياً، مثل الأدوات الأخرى المستعملة في طقس الشاي، تعكس الكثير من مبادئ “الزن”. حجم حجرة الشاي التقليدية، وهي أربع حصر ونصف الحصيرة أو عشر أقدام مربعة، يتحدد بفقرة في “سوترا فيكراماديتا”. في هذا العمل المهمّ، يرحّب فيكراماديتا بالقديس مانجوشيري و48 ألف تلميذ لبوذا في حجرة في هذا الحجم، وهذه حكاية رمزية تقوم على نظرية انتفاء الحيز الجغرافي بالنسبة إلى المتنوّر الحقيقي. مجدداً، يدلّ مجاز الحديقة، “الروجي”، الذي يؤدي من الشرفة (الماتشياي) إلى حجرة الشاي، على المرحلة الأولى من التأمّل، الممرّ نحو التنوير الذاتي. كان المطلوب من “الروجي” أن يكسر العلاقة بالعالم الخارجي وأن يُنتج إحساساً جديداً يفضي إلى المتعة الكاملة لجمالية التذوّق في حجرة الشاي نفسها. ذاك أن الذي يعبر هذا المجاز، لا يمكن إلا أن يتذكر كيف أن روحه قد ارتفعت فوق الأفكار الاعتيادية، وهو يمشي في الغروب الأخضر فوق الحجارة المبعثرة بصورة نظامية، التي تحتها إبر الصنوبر الجافة، ويمر بجوار المصابيح الغرانيتية المكسوة بالطحلب. قد يكون أحدهم وسط مدينة، ومع ذلك يشعر أنه في غابة بعيدة عن غبار الحضارة وجلبتها. وقد وضع معلّمو الشاي الكثير من الجهد الخلاق لإنتاج هذه التأثيرات من السكون والصفاء. واختلفت طبيعة الأحاسيس التي تنشأ من عبور “الروجي” من معلّم شاي الى آخر. بعضهم، مثل ريكيو، كان يهدف إلى الوحدة المطلقة، وزعم أن سرّ صنع “الروجي” يكمن في القصيدة القديمة القصيرة:
“أنظر أبعد/ فلا أرى الأزهار/ ولا وريقات الشجر الملونة،/ بل كوخاً منعزلاً على الشاطئ/ في الضوء الخافت/ لمساء خريفي”.
آخرون من أمثال كوبوري إنشيو، سعوا إلى تأثير مختلف. فإنشيو قال إن فكرة مجاز حجرة الشاي تتجسّد في الأشعار الآتية: “عنقود من أشجار الصيف/ قليل من البحر/ قمر المساء الشاحب”.
لا يصعب فهم هذا المعنى. كان يرغب في خلق الإحساس بروح مستيقظة حديثاً، لا تزال تقيم في ظلال أحلام العالم المادي، بيد أنها تستحم في اللاوعي العذب لنور روحاني يانع، وتتشوق إلى الحرية الكامنة في الفسحة الآتية.
هكذا فإن الضيف المستعدّ سيقترب ببطء من الحرم، وإذا كان من مقاتلي الساموراي، فسيترك سيفه على المنصب تحت الإفريز، لأن حجرة الشاي هي في المقام الأول دار السلام. ثم يحني قامته ويدخل إلى الغرفة زحفاً عبر باب صغير لا يزيد ارتفاعه على ثلاثة أقدام. هذه الطريقة في الدخول كانت مفروضة على جميع الضيوف، من الطبقة العليا والدنيا على السواء، وكان الهدف منها أن تطبع التواضع في الذهن. بعد أن يتمّ التوافق المتبادل على نظام الصدارة خلال الاستراحة في “الماتشياي”، يدخل الضيوف بهدوء واحداً بعد الآخر لكي يتخذوا أماكنهم في الجلوس، أولاً ينحنون إجلالاً أمام الرسم أو الورود المنسقة على “التوكونوما”. ولا يدخل المُضيف إلى الحجرة قبل أن يتخذ الضيوف أماكنهم ويعمّ الهدوء، ولا يعود ثمة ما يخرق السكون سوى إيقاع المياه التي تغلي في الغلاية الحديدية. الغلاية تغني بطريقة جميلة لأن قطع الحديد رُتّبت في القاع لكي تنتج لحناً غريباً يسمع المرء فيه أصداء شلال تكتمه الغيوم، وبحر بعيد تتكسر أمواجه على الصخور، وعاصفة ماطرة تعبر غابة من القصب، أو أنين أشجار الصنوبر أو هضبة نائية.
حتى خلال النهار يبقى ضوء الغرفة خافتاً، ذلك أن الأفاريز المنخفضة للسقف المائل لا تتيح دخول إلا القليل من شعاع الشمس. كل شيء خافت اللون من السقف إلى الأرض؛ الضيوف أنفسهم يختارون ثياباً غير بارزة الألوان. عذوبة الزمن تغمر الجميع، ويحظَّر كل شيء يوحي بالحداثة الزمنية ما عدا نغمة وحيدة من التنافر، توحي بها المغرفة القصب والمناديل الكتّان، وكلها بيضاء ناصعة وجديدة. مهما بدت حجرة الشاي والعدّة قديمة، فكلّ شيء نظيف نظافة مطلقة. ليس ثمة ذرة غبار يمكن العثور عليها في أكثر زوايا الحجرة عتمة، فإذا ما وجد مثل ذلك فإن المضيف ليس بمعلّم شاي حقيقي. أحد أول مقتضيات معلّم الشاي، الإلمام بالمسح والتنظيف والغسل، ذلك أن ثمة فناً في التنظيف ومسح الغبار. فلا ينبغي الانقضاض على قطعة من الحديد القديم بحماسة ربة منزل هولندية. وإذا تقطّر الماء من إناء الزهور فينبغي مسحه، إذ قد يوحي بالندى والبرودة.
في هذا السياق هناك قصة عن ريكيو يرويها معلّمو الشاي عادة، تعكس فكرة النظافة هذه. كان ريكيو يراقب ابنه شوان وهو ينظّف ويروي طرق الحديقة. “ليس نظيفاً كفاية”، قال له ريكيو حين أنهى المهمة، وأمره بأن يحاول مجدداً. وبعد ساعة مضنية عاد الابن إلى ريكيو وقال له: “أبتاه، لم يعد هناك ما يمكن فعله. لقد غسلت الدرجات للمرة الثالثة، والمصابيح الحجرية والأشجار تلمع بالمياه، والطحلب والأشنة (نبتة عطرية) تلمع بخضرة طازجة؛ ليس ثمة غصن ناعم أو وريقة شجر بقيت على الأرض”. فقال له ريكيو: “أيها المغفّل اليافع، ليست هذه طريقة تنظيف مجاز الحديقة”، ثم خرج إلى الحديقة وهزّ شجرة ونشر على الأرض وريقات شجرة ذهبية وقرمزية، فتات من تطريزة الخريف! ما طلبه ريكيو لم يكن النظافة وحدها، بل الرائع والطبيعي أيضاً.
تشير تسمية “مسكن الوهم” إلى بنية أنشئت لكي تفي ببعض المتطلبات الفنية الفردية. فحجرة الشاي مصنوعة لمعلّم الشاي، لا العكس. ليس المقصود منها الإشارة إلى النسل والاستمرارية، تالياً فإنها موقتة قابلة للزوال. فكرة أن الجميع ينبغي أن يحصل على بيت يخصّه تقوم على عادة قديمة في العرق الياباني، خرافة “شينتو” تقضي بأن كل ساكن ينبغي أن يخلى من البيت عند موت ساكنه الأساسي. ربما كان هناك بعض الأسباب الصحية غير المعروفة لهذه الممارسة. هناك عادة أخرى قديمة تقضي بضرورة توفير بيت جديد لكلّ متزوجَين حديثاً. وبسبب مثل هذه العادات نجد أن العواصم الأمبراطورية كانت تنتقل من موقع إلى آخر في العصور القديمة. وما إعادة بناء معبد “إيز”، كل عشرين عاماً، وهو المعبد الأعلى لإلهة الشمس، إلا مثال على أحد هذه الطقوس التاريخية التي لا تزال سائدة في أيامنا الراهنة. كان ممكناً التقيّد فحسب بهذه العادات من خلال نمط بناء من مثل نظام العمارة الخشبية لدينا، التي يسهل تفكيكها وإعادة بنائها. حيث أن اعتماد أسلوب آخر أكثر ديمومة تُوظَّف فيه الحجارة والقرميد، كان ليجعل الهجرات صعبة، مثلما حصل بالفعل حين تبنّينا البناء على النمط الصيني بالأخشاب الثقيلة بعد حقبة “نارا”.
بيد أنه مع غلبة الفردية الزنّية في القرن الخامس عشر، أصبحت الفكرة القديمة مشرّبة بدلالة أعمق استنبطت بالصلة مع حجرة الشاي. فقد اعتبر مذهب “الزن”، مع النظرية البوذية حول الفناء وما يتطلبه ذلك من تفوق الروح على المادة، أن البيت مجرّد ملاذ موقت للجسد. الجسد نفسه أشبه بكوخ في البراري، ملاذ واهٍ يصنع عبر لصق الأعشاب البرية معاً، حين لا تعود هذه الأوراق تلاصقة، تعود وتتحلل إلى مادتها الأصلية. في حجرة الشاي فإن فرار الروح يوحي به السقف المكسو بالقش، ووهن الأخشاب الهزيلة، وخفة الدعائم القصبية، واللامبالاة الواضحة في استعمال المواد الشائعة. الأبدي يوجد فقط في الروح المغلّفة في هذه الأمور البسيطة، فتسبغ عليها جمال ضوء نقائها السامي.
فكرة أن حجرة الشاي ينبغي أن تبنى لكي تناسب أذواقاً فردية معينة، هي تطبيق لمبدأ حيوية الفن. الفن، لكي يوفّى حقّه من التقدير، يجب أن يكون مخلصاً للحياة العصرية. وهذا لا يعني أنه يجب أن نتجاهل مزاعم الذرية، بل أن نسعى إلى الاستمتاع أكثر في وقتنا الراهن. ولا يعني أننا ينبغي أن نستخفّ بإبداعات الماضي، بل أن نحاول هضمها في وعينا. إن الامتثال العبودي للتقاليد والمعادلات الراسخة، يقيّد التعبير عن الفردية في العمارة. لا يسعنا سوى الأسف أمام التقليد العديم الإحساس الذي نراه في المباني ذات الطابع الأوروبي في اليابان المعاصرة. نتعجب لماذا بين أكثر الأمم الأوروبية تقدّماً، ينبغي أن تكون العمارة خالية إلى هذا الحدّ من الأصالة، مفعمة إلى هذا الحدّ بتقليد الأنماط البائدة. ربما كنا نمرّ بعصر من دمقرطة الفن، بينما ننتظر مُعلّماً، أميراً ما، يؤسس سلالة جديدة. أيكون السبب أننا أحببنا القدماء أكثر وقلّدناهم أقل! قيل إن الإغريق كانوا عظماء لأنهم لم يقتبسوا قطّ من القديم.
إضافة إلى أنه يعكس النظرية التاوية عن الاحتواء الشامل، يتعلّق تعبير “مسكن الفراغ”، بمفهوم الحاجة المستمرة إلى التغيير في الدوافع الديكورية. يجب أن تكون حجرة الشاي فارغة كلياً إلا مما قد يوضع هناك موقتاً لتلبية بعض المتطلبات الجمالية. يتمّ الإتيان بغرض فني معيّن للمناسبة، وكل شيء آخر يُختار ويُرتَّب لكي يعزّز جمال الثيمة الأساسية. لا يسع المرء الإصغاء إلى قطع موسيقية مختلفة في آن واحد، ذلك أن المعرفة الحقيقية بالكائن الرائع لا تتمّ إلا عبر التركيز على دافع مركزي ما. تالياً، يعارض نظام الديكور في حجرة الشاي عندنا ذلك القائم في الغرب، حيث يُحوّل داخل البيت غالباً متحفاً. بالنسبة إلى الياباني المعتاد على بساطة التزيين والتغيير الدائم لمنهج الديكور الداخلي، فإن الديكور الداخلي الغربي مليء دوماً بتشكيلة واسعة من الصور والمنحوتات والحواشي تعطي الانطباع بما يكاد يكون عرضاً مبتذلاً للثروة. يستدعي الاستمتاع بالمنظر الدائم، حتى لتحفة فنية، إلى مخزون ضخم من التقدير، ولا بدّ من أن تكون بلا حدود تلك المقدرة على الإحساس الفني الكامنة في أولئك الذين يستطيعون العيش يوماً بعد يوم وسط هذا الخليط من الألوان والأشكال مثلما نرى غالباً في المنازل الأوروبية والأميركية.
يوحي “مسكن اللا متناظر” بمرحلة أخرى من مخططنا الديكوري. ولطالما علّق النقاد الغربيون على غياب الاتساق في الفن الياباني. هذا أيضاً نتيجة استنباط القيم التاوية عبر “الزنّ”. الكونفوشيوسية، بفكرتها المتجذرة عن الثنائية، والبوذية الشمالية بعبادتها للثالوث، لم تكونا معارضتين قطّ للتعبير عن التناظر. بل إننا إذا أمعنّا النظر في البرونزيات القديمة في الصين أو الفنون الدينية لسلالة تانغ وحقبة نارا، فسنلاحظ السعي المستمر وراء التناظر. كان التزيين الداخلي الكلاسيكي منتظماً عمداً في ترتيبه. بيد أن المفهوم التاوي والزنّي للكمال، كان مختلفاً. فالطبيعة الديناميكية لفلسفة هذين المذهبين تشدّد أكثر على العملية التي من خلالها يكون السعي إلى الكمال أهمّ من الكمال نفسه. حيث لا يستطيع أن يكتشف الجمال الحقيقي إلا من أنجز النقصان ذهنياً، لأن قوة الحياة والفن تكمن في احتمالات النمو. في حجرة الشاي يترك الأمر لكل ضيف ليقرّر في مخيلته التأثير الكامل في صلته بذاته. بما أن فلسفة “الزن” أصبحت نمط الفكر المهيمن، بات فنّ الشرق الأقصى يتجنّب عمداً المتناظر بوصفه معبّراً ليس فقط عن الاكتمال بل عن التكرار أيضاً. إن تناظر التصميم اعتبر مدمراً لطزاجة المخيلة. هكذا أصبحت المناظر الطبيعية والطيور والأزهار المواضيع المفضلة للتصوير بدلاً من الشكل البشري، بما أن الأخير موجود في شخص الناظر نفسه. غالباً ما نكون شديدي الحضور، ورغم فراغنا، فحتى الإحساس بالذات ميال إلى أن يصبح رتيباً.
في حجرة الشاي، الخوف من التكرار حاضر دوماً. وعليه، يجب تخيّر الأشياء المتعددة لتزيين الحجرة بعناية تامة بحيث لا يتكرر لون أو  تصميم. إذا ما وضعت زهرة حية، فرسم يمثل الزهور ليس مسموحاً به. وإذا كنت تستعمل غلاية شاي دائرية، فعلى إبريق الماء أن يكون قائم الزوايا. ولا ينبغي وضع كوب ذي لمعة سوداء جنباً إلى جانب علبة لحفظ الشاي مطلية بالورنيش الأسود. وعند إحضار إناء لحرق البخور في “التوكونوما”، يجب ألا يوضع في الوسط تماماً وإلا قسم المساحة أنصافاً متساوية. وينبغي أن تكون دعامة “التوكمونوما” من نوع مختلف من الخشب عن الأعمدة الأخرى، بهدف كسر أي احتمال للرتابة في الغرفة.
هنا مجدداً يختلف المنهج الياباني في الديكور الداخلي عن النمط الغربي، حيث نرى الأشياء مرتبة بطريقة متوازية على رفّ المستوقد وفي كل مكان آخر. في المنازل الغربية، غالباً نرى ما يبدو تكراراً لا حاجة إليه. نجد صاحب المنزل يحاول التكلم إلى شخص ما بينما بورتريه له بالحجم الكامل يحدق الينا من وراء ظهره. نتساءل أيهما الحقيقي، ذلك الذي في الصورة أم الذي يتكلم، ونشعر باقتناع غريب بأن أحدهما زائف. كم نجلس في وليمة ما متأملين بصدمة سرية تعبيرات الوفرة في جدران حجرة الطعام. لماذا هذه الضحايا المصورة للصيد والرياضة، والنقوش الدقيقة للأسماك والفواكه؟ لماذا عرض الأطباق العائلية التي تذكّر بأولئك الذين تناولوا الطعام وهم الآن موتى؟
بساطة حجرة الشاي وتحررها من الابتذال، يجعلانها حقاً ملاذاً من سموم العالم الخارجي. هناك، وهناك فقط، يسع المرء أن يكرّس نفسه للافتتان الصرف بالروعة. في القرن السادس عشر كانت حجرة الشاي تؤمّن مُستراحاً من العناء للمقاتلين الأشاوس ورجال الدولة المنخرطين في عملية التوحيد وإعادة البناء في اليابان. في القرن السابع عشر بعدما نشأ التمسك الصارم بالشكليات في حكم توكوغاوا، وفّرت حجرة الشاي الفرصة الوحيدة للاجتماع الحرّ للأرواح الفنية. أمام العمل الفني العظيم ليس من تمييز بين “الدائي يو”6 والساموراي والرجل العمومي. هذه الأيام تجعل الثورة الصناعية النقاء أصعب وأصعب في أرجاء العالم كله. أترانا نحتاج إلى حجرة الشاي أكثر من أي وقت مضى؟ ¶

الهوامش
(1) Sukiya: تعبير ياباني يشير إلى هذا النمط الخاص من العمارة، ولا سيما الديكور الداخلي، الشائع منذ القرن السابع عشر. اليوم، على عكس الزمن الذي يتحدث فيه المؤلف، بات هذا النمط من الأنماط الشائعة الذي استلهمه كبار المعماريين في العالم.
(2) Vacancy: أو الخلوّ أو الشغور.
(3) Unsymmetrical: أو غير المتناظر أو غير المتساوق.
(4) سن نو ريكيو (1522-1591).
(5) تويوتومي هيده يوشي (1536-1598): أحد أكبر القادة العسكريين في اليابان وهو ثاني الثلاثة الذين ساهموا في توحيد اليابان بعد عقود طويلة من الانقسام.
(6) Daim-Yo: التسمية التي كانت تطلق على كبار الإقطاعيين في اليابان منذ القرن الثاني عشر حتى إصلاحات حقبة “مييجي”.

ترجمة سامر أبو هواش
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى