أزمة لبنان: خطايا الآخرين وأخطاؤنا
برهان غليون
أخطأ حزب الله في اندفاعه نحو بيروت مرتين، الأولى لأنه استخدم أسلحته لأغراض سياسية بعد أن قضى عقودا يؤكد أنها مكرسة قطعا لمقاومة إسرائيل، وفقد بالتالي جزءا كبيرا من رصيده السياسي وصدقية استراتيجيته التي اضطر فيها إلى الاعتراف بصورة غير مباشرة أنه لا يمكن الفصل داخل القوة بين استخداماتها الخارجية والداخلية. والثانية لأنه أوحى للجميع بأن حزب الله يملك كل الشروط كي يتحول، إذا وجدت الظروف الملائمة، إلى حزب شمولي لا شيء يمكن أن يقاوم فيه إغراء القوة والتفوق الساحق على كل الخصوم. وقد فعل حسنا بنزوله عند إرادة وفد الجامعة العربية وتلبيته مطالب أغلبية الرأي العام اللبناني في فك الاعتصام وإلغاء العصيان وسحب القوى المسلحة من شوارع بيروت وفتحها للناس.
لكن خطأ حزب الله لا ينبغي أن يغطي على المسؤوليات العديدة التي تكمن وراء الأزمة التي عاشها لبنان في السنوات القليلة الماضية. فكما أنه من المستحيل فهم ولادة حزب الله نفسه من دون التذكير بسياسات إسرائيل الإقليمية واللبنانية والتي جعلت من الجنوب هدفا دائما للغارات والهجمات وعمليات التهجير العمدي للجنوبيين، من المستحيل أيضا فهم الوضع الذي قاد إلى المواجهة بين المقاومة التي يمثلها الحزب والأغلبية الحاكمة في بيروت من دون العودة إلى القرار 1701 الذي أصدره مجلس الأمن، بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية، بعد حرب ايلول 2006 والذي استهدف حصار حزب الله ونزع سلاحه وجعلت من الشريط الحدودي التي كانت تحتله إسرائيل منطقة عازلة أيضا. فلم تكلف هذه القرارات حكومة لبنان تنفيذ مهام هي غير قادرة عليها فحسب ولكنها حولت اهتمام حزب الله ضرورة، وبالتالي سلاحه أيضا، نحو الداخل الذي أصبح بالنسبة إليه مصدر الخطر الحقيقي على وجوده. بهذا القرار وضعت واشنطن، من وراء مجلس الأمن، بذور الفتنة التي ستنمو باستمرار بين المقاومة والدولة، وفرضت على اللبنانيين الاصطفاف والانقسام بين مؤيد للمقاومة، على حساب استقرار لبنان، ومؤيد للدولة، على حساب المقاومة وما تمثله من اهداف ومصالح تعني ملايين الناس أيضا، داخل لبنان وخارجه.
وبعكس ما تشيعه خطابات الدعاية المتبادلة، ما قضى على حالة التعايش بين المقاومة والدولة، وهو الذي سيدفع المقاومة لتكون معارضة والدولة لتكون حكومة الأغلبية الحاكمة وحلفائها، ليس اعتماد حزب الله على المعونات الايرانية أو انحيازه لسياستها أو ارتماء تيار المستقبل وجنبلاط على الأمريكيين وتعلقهم بدعمهم. فقد بقي الأمر على هذا المنوال عقودا طويلة سابقة. إن الانخراط المتزايد لحزب الله في الاستراتيجية الايرانية والسورية قد جاء نتيجة الضغوط المتنامية التي بدأ يتعرض لها في لبنان نفسه، وكذلك الضغوط التي بدأت تتعرض لها دمشق وطهران أيضا في سياق السياسة الأمريكية الجديدة المعروفه نفسها، تماما كما أن الاعتماد المتزايد لحكومة الأغلبية التي يقودها تيار المستقبل على الدعم الأمريكي والغربي عموما، جاء نتيجة الضغوط التي أصبحت تتعرض لها من حزب الله المهموم بفك الحصار الاستراتيجي عنه، وكذلك الضغوط التي مارستها واشنطن ولا تزال على العواصم العربية القريبة منها، في القاهرة والرياض والأردن، للوقوف في وجه المحور الايراني السوري نفسه. وهكذا تحولت حكومة لبنان فجأة في نظر حزب الله إلى حكومة لاشرعية، بل عميلة، وتحول حزب الله في نظر حكومة الأغلبية إلى أداة لتنفيذ الأغراض الايرانية والسورية.
لا يقلل هذا من مسؤولية ايران ولا سورية بالتأكيد. لكن عصيانهما لا يختلف في جوهره عن العصيان الذي أعلنه حزب الله في لبنان، أعني عن قلب ظهر المجن الأمريكي لهما بعد أن كانا يسعيان بكل الطرق إلى التفاهم أو على الأقل التعايش مع السياسة الأمريكية التقليدية، وبالنسبة لسورية المراهنة على التعاون معها من أجل التوصل إلى تسوية مع اسرائيل تضمن عودة الجولان، أو على الأقل عدم نسيانه في الأجندات الدولية. فمثلما تطور عصيان طهران ودمشق في مواجهة السياسة الأمريكية الجديدة التي جعلت أيضا من حصارهما أحد أغراضها الرئيسية، تطور بالمثل عصيان حزب الله وابتعاده عن حلفائه وتخليه عن تحالفاته التقليدية التي سمحت له أصلا بالوجود والبقاء والنمو، أعني مع رفيق الحريري وتياره ومع جنبلاط أيضا والحركة التقدمية.
قصدي أن السياسة الأمريكية الجديدة الرامية إلى إعادة تركيب المشرق على هوى المصالح الاستراتيجية الأمريكية والاسرائيلية، بقدر ما كانت سياسة خاطئة أخلاقيا وغير متسقة سياسيا، وإلى حد كبير جنونية ومغامرة، كما أظهرت ذلك الحرب على العراق وفيه، دفعت جميع الأطراف المحلية إلى الخطأ، وفرضت عليهم ممارسة سياسات لا تقل جنونا ومغامرة منها، لأنها نابعة مثل السياسة الأمريكية من الخوف والقلق والشك ومندفعة مثلها إلى إقصاء الأطراف الخصم واستبعادها من الخريطة السياسية. هذا هو السياق الحقيقي لاغتيال رفيق الحريري الذي كان هو نفسه مصدرا لأزمة إضافية إقليمية ارتبطت بتكوين المحكمة الدولية وأصبح لها أنصار ومناهضين في لبنان وفي البلاد العربية والعالم، وتحولت إلى قضية قائمة بذاتها. وهو السياق الذي يفسر أيضا ولادة مشروع التقنية النووية الايرانية وطموح طهران إلى امتلاك قوة نووية تقلل بها ما تشعر به من حصار أمريكي، وبالتالي إقليمي، لا يزال مستمرا منذ الثورة الخمينية عام 1979.
لكن إذا كانت السياسة الأمريكية الشرق أوسطية التي اتبعتها حكومة المحافظين الجدد تفسر إلى حد كبير تفجر الأزمات التي شهدها المشرق في السنوات القليلة الماضية، ومنها أزمة لبنان، وأيضا أزمة فلسطين التي فجرت النزاع بين فتح وحماس، وأزمة سورية التي قضت على حلم الانفتاح والتعددية، وقبل ذلك أزمة العراق التي تتمثل في تفجر الحرب الأهلية الطائفية، فهي لا تبرر بأي حال أخطاء الأطراف العربية، الرسمية منها والأهلية. لا تبرر انسياق دول الجامعة العربية وراء أوهام السياسة الأمريكية وإخفاقها في التقدم نحو بناء إطار للتفاهم الجماعي الإقليمي مع ايران وتركيا، مما كان سيعزز استقلال المنطقة نسبيا تجاه الضغوط الأمريكية ويحول دون تحويل ايران إلى لاعب مستقل على حساب العالم العربي. ولا تبرر المغامرة بضرب المحور العربي الثلاثي المصري السعودي السوري الذي سمح داخل الجماعة بالحفاظ على الحد الأدنى من التنسيق والتناغم في سياسات المشرق العربي لعقود ثلاث متتالية. ولا تبرر أيضا تحرر دمشق من التزاماتها الأخلاقية والسياسية تجاه شعب لبنان وشعب سورية معا، واستخدامهما كأدوات في معركة الدفاع عن النظام والذود عنه. ولا تبرر أخيرا اتخاذ حزب سياسي الدولة اللبنانية رهينة، ونزوله إلى الشارع واحتلاله بالقوة بيروت. ليس لأنه ليس لدى المجموعة العربية ولا سورية ولا ايران ولا حزب الله حقا او دافعا مشروعا لعمل ما قاموا به، وهو الدفاع عن النفس امام موجة هجوم امريكية عاتية. إنما لأنهم تصرفوا جميعا من منطق رد الفعل، وردوا على الخطأ بخطء أكبر، ووقعوا بالتالي في فخ السياسة التي أرادوا مقاومتها، أي تفكيك التحالف العربي، وزرع الفتنة داخل مجتمعاته وشعوبه، وتفجير النزاعات العربية العربية، وتوسيع دائرة الفراغ السياسي والاستراتيجي الذي يحتاج إليه التدخل الاجنبي لتبرير وجوده الدائم في المنطقة، بينما كان المطلوب ولا يزال بلورة سياسة ايجابية عقلانية تحفظ الانسجام داخل الصف العربي، وتحتوي النزاعات العربية العربية، وتنزع فتيل الحروب الأهلية، أي تحبط عمل الخصم وتجبره على تغيير سياساته. وفي هذه السياسة يشكل ضبط النفس قيمة أساسية لا يبدو أن كثيرا من الاطراف المتنازعة على علاقة بها.
مهما كانت شرعية قضايانا، ليس مبررا أن نخطيء في الدفاع عنها، وعلينا تقع مسؤولية خطئنا بالدرجة الأولى. ولا ينبغي أن نركن إلى صفة الضحية أو نحولها إلى قناع لعجزنا وسوء تقديراتنا وحساباتنا. ينبغي أن نرفض فكرة أن نكون ضحية، وأن نؤمن أننا قادرون على التصرف من مستوى المسؤولية، كدول واحزاب سياسية وقوى مدنية، وأهل للعمل العقلاني المخطط والمنظم الطويل المدى، لا كأوراق خريفية تعبث بها الرياح بل النسمات الضعيفة. والأمل أن يشكل نجاح المبادرة العربية في لبنان الفاتحة في استدراك الأخطاء والتقاط أول الخيط على طريق بناء سياسة عربية جديدة قائمة على المبادرة والعمل المنظم بدل المراهنة على التهديد بالخراب المتبادل.