تطور مسرح سعدالله ونّوس
شاعت المسرحيات الاجتماعية في سورية في فترة الخمسينات، وبداية الستينيات، وقد اعتمدت تلك المسرحيات على الواقعية غالباً… ولكنها كانت واقعية انتقادية تقوم على تعرية الواقع؛ ومحاولة تسليط الأضواء على الأخطاء بعيداً عن الرؤية الحركية للمجتمع، فقد كانت تلك المسرحيات تنقل الواقع بشكله الثابت في غالبيتها من دون القدرة على رؤية ما يعتلج داخل هذا المجتمع أو رؤية الصراعات التي تنضج بين طبقاته. ففي تلك المرحلة “كانت البورجوازية الصغيرة ـ بحسب المصطلح الماركسي ـ هي التي تحمل عبء التطوير في البلاد؛ وبناء مدّها الثوري. وكان هذا الخليط الثقافي المتعدد المصادر والاتجاهات والمدارس يناسب البورجوازية الصغيرة التي كانت سائدة في ميدان السياسة والأدب؛ فكانت أفكارها وهمومها ومطامحها هي التي تطفح على وجه الأدب والأديب التقدمي حينذاك، هو المعبر عن طموحات الطبقة البورجوازية الصغيرة؛ ما دام المعبر عن طموحات الطبقة العاملة غير موجود، ما عدا ندرة لا يحسب لها حساب، غير أن سيادة هذه الطبقة لم تمنع من ظهور كتّاب انحازوا إلى الطبقات الكادحة فكانوا لسان حالها والمعبرين عن حركتها، والمبشرين بسيادتها. ولعلّ سعد الله ونوس واحد من أبرز هؤلاء…
ويمكن أن نقسّم مسيرة مسرح سعد الله ونوس إلى ثلاث مراحل تفرضها منهجية الدراسة للأدب المسرحي الذي أبدعه ونوس.
1 ـ المرحلة الأولى: البدايات ما قبل الخامس من حزيران 1967
ـ كتب سعد الله ونوس في هذه المرحلة ثماني مسرحيات قصيرة هي “مأساة بائع الدبس الفقير.
2ـ الرسول المجهول في مأتم انتيغونا.
3ـ جثة على الرصيف.
4ـ الجراد.
5ـ المقهى الزجاجي.
6ـ لعبة الدبابيس.
7ـ فصد الدم.
8ـ عندما يلعب الرجال.
وقد صدرت في مجموعة واحدة، سمّاها “حكايا جوقة التماثيل” عن وزارة الثقافة 1965(1).
تظهر بعض السمات في هذه المرحلة تميّز إنتاج سعد الله ونوس، وتجمع مسرحيات هذه الفترة من إبداعه من ذلك.
1 ـ وضوح أثر الثقافة الغربية.. والمسرح الغربي.
2 ـ ضبابية الرؤيا من حيث عدم وضوح الموقف، من قضايا كثيرة حاول معالجتها.
3 ـ شيوع التجريد، واللجوء إلى الترميز المتعمّد.
4 ـ عمومية الموقف وعدم تحديده بشكل واضح تجاه قضايا كثيرة، وعلى الأخص، قضية السلطة، وقضية ممارسة القمع على البسطاء، التي حاول معالجتها في “بائع الدبس الفقير…”.
5 ـ عدم وضوح الموقف الطبقي وبقاؤه في أضعف تجلياته في إبداع ونوس في تلك المرحلة، وقد تجلى هذا في “جثة على الرصيف”.
يغلب على مسرحيات هذه المرحلة الأسئلة الوجودية، وتغلب فكرة الحرية على أجواء المسرحيات التي أظهرت أن سعد الله ونوس ليس ماركسياً، بل أقرب ما يكون إلى الليبرالي… المتأثر بالماركسية.. وتجلى ذلك في مسرحية “جثة على الرصيف” التي حاول فيها توضيح الفرز الطبقي للمجتمع، فالمشكلة في وجود فقراء يموتون جوعاً، ووجود أغنياء، يستغلون من أجل رفاهم كل شيء. فجثة الفقير الذي مات جوعاً وبرداً ملقاة على الرصيف، أمام قصر رجل غني. يريد شراء الجثة لتكون طعاماً لكلبه الذي تشبث بالجثة بينما كان صاحبه ينزهه.. ويساوم المتوسل صديق الميت على ثمن الجثة، فإذا الفقراء مضطرون إلى بيع أنفسهم ـ أحياءً أمواتاً ـ ليتمكنوا من تأمين لقمة العيش، ويساعد الأغنياء على سلب الفقراء السلطة التي تمثّلت بالشرطي في المسرحية. ولكن الطرح الماركسي غير مكتمل في هذه المسرحية، فثمة ضبابية في الطرح والموقف، حيث لا يدرك المتلقي من الفقير غير أنه فقير ولا يمثل طبقة اجتماعية ـ عمال.. فلاحين مثلاً ـ والغني مجرد غني، يمتلك القدرة على شراء الفقراء.. كما عالج في هذه المرحلة، قضية أرّقته طويلاً، وسيكون لها حضور قوي في مرحلته الثانية، وهي قضية السلطة والجماهير… ففي مسرحية “مأساة بائع الدبس الفقير” ثمة بائع فقير اسمه “خضور” لا يدري ما يحاك لـه.. مما يؤدي إلى تدبير تهمة له من قِبل “حسن” لينزل عليه العذاب من كل حدب وصوب… ويشير ونوس بذكائه إلى ثبات بنية السلطة في الأنظمة القمعية.. حيث تتجلّى كل مرة في اسم جديد، بينما يبقى المضمون ثابتاً من خلال ـ اتخاذ الشاب اسم حسن ـ ثم ـ حسين ـ ثم محسن… ثم تنتهي المسرحية بعد أن يتهدج صوت الجوقة، دون أن نرى أفرادها.. وهي تقول:
“اندثر.. أندثر
وتحطمت تماثيل أخرى
وفي ضمير الساحة لا تزال حكايات لم تروَ
حكايات عن بائع البرتقال… عن بائع البصل
عن موظف مصلحة المياه عن طالب المدرسة.
عن حارس مصنع الكونسروة.. عن السكرتيرة الجملية
وطفل الحضانة لم تحمه الحداثة.
كلا.. كلا.. ليس نعاسكم ما يقتل في الحلوق الكلمات
لا تنسوا أن التمثيل تهشم وتضرب
الخوف.. الخوف والريبة.
صمتاً.. صمتاً.
ما نحن إلا تماثيل في الساحة
نحن الناس الذين كانوا “يسدل الستار” والذين ليسوا الآن.
هذه النهاية تؤشر إلى انشغال سعد الله ونوس بالواقع الاجتماعي والسياسي(2) في زمنه. انشغاله بالفئات البسيطة من الناس، وهي تشكل موضوعاً للقهر من قبل السلطة، بل للقمع.. وهي شخصيات قابلة للغياب، كما غاب خضور في ظل سلطة ظالمة. بينما يصمت الناس ممثلين بالجوقة “جوقة التماثيل” “صمتاً صمتاً” (ما نحن إلا تماثيل) لا نرى ولا نسمع، وإن فعلنا.. فليس ثمّة فعل نقوم به.. وفي ظل هكذا سلطة.. نحن الناس الذين كانوا.. ويريد أن يقول كانوا أناساً قبل هذه السلطة. بينما لم يعودوا كذلك الآن.. “والذين ليسوا الآن..”.
“فالسلطة القمعية في مواجهة الفرد المستلب والقضية ترتبط بخلفية طبقية اجتماعية قبل كل شيء..”(3).
ولكن المواجهة في المثالين السابقين غير محددة؛ وضبابية؛ ولا تتوضح فيها طبيعة كل طبقة، بل طبيعة هذه السلطة وماهيتها، وقد أشار ونوس نفسه إلى أن هذه المرحلة، لم تكن محددة في فكره ومواقفه.. يقول: “.. المناخ الفكري والنفسي الذي ساد المسرحيات الأولى كان محصلة لفترة.. قلق نفسي وفكري.. كانت تصطرع في النفس نزعات ميتافيزيقية ورومانسية ووجودية..”(4).
وعندما تغيب الديمقراطية.. “لا يمكن أن يصل المهرج إلى كرسي الحكم بفضل جوقة من الانتهازيين الذين “ينفخونه” ويسبغون عليه الحكمة والعبقرية كما في مسرحية “لعبة الدبابيس” حيث لا يختلف “برهوم” عن “مشدود” لأنهما وجهان لعملة واحدة”(5).
كما عالج ونوس قضية العرب، قضية فلسطين التي سيعود إليها في بداية مرحلته الثالثة، عالجها في مسرحية فصد الدم التي حاول من خلالها أن يبتعد عن الإنشائية والتقريرية والخطابة ـ على عكس من سبقوه إلى معالجتها، بعيداً عن الاستجداء الميلودرامي والارتجال، حيث انطلق من رؤية عقلانية، فأعلن رفضه لمنطق التلاؤم مع الواقع الراهن، فجعل شخصية “علي” الذي يمثل التمسك والصلابة الوطنية ورفض كل ما من شأنه تكريس الخنوع والاستسلام للواقع، ينتصر على شخصية “عليوة” الذي يرى أن لابد من التكيّف مع الواقع الراهن الآن. ولابد من نسيان القضية برمتها.
كما قدّم في هذه المسرحية صورة للأنظمة العربية التي تتقاتل وتتذابح بينما يغيب الشعب عن المعادلة، يغيب عن ساحة الفعل في الحياة السياسية. وترتفع أجهزة الإعلام بالصراخ، تكيل الوعود والوعيد، وتستغل القضية للصعود على جثة القضية، كما تجسد ذلك في شخصية الصحفي..
“إن هذه المعالجة إذا ما أخذت بسياقها التاريخي ـ أي في ذلك الوقت ـ تعدُّ بحق متقدمة، إلى حدٍ بعيد لأنها تنطلق من رؤيا واقعية لا مكان فيها للأحداث المضخمة والبطولات الملفقة”(6).
إن المقدمات تؤشر إلى الخواتيم.. وهذا ما أراد أن يقوله في مسرحية “المقهى الزجاجي” التي تدور أحداثها في مقهى؛ وهو رمز للعطالة الاجتماعية ورمز للوطن الذي سيتهدم ما لم ينتبه أهله إلى الأخطار التي تتهدده وتصدّعه، والناس غافلون نيام، لا يكترثون، حتى للموت، بينما يتابعون تساليهم وألعابهم، وتابوت الميت يخرج من المقهى، فيكتفون بقولة “الله يرحمه” ثم يعودون إلى ما كانوا فيه من سرور وعدم انتباه، وكأنما كان ونوس يؤشر إلى ما حدث حقيقة في حزيران 1967.. حين تهدّم المقهى على رؤوس من فيه..
جاسم: لا تبتئس.. لستَ أول من تحل به الهزيمة.. وتذكّر أن الدنيا سجال.
أنسي: لا أتحدث عن هزيمة النرد.. هنالك ما هو أسوأ.. انظر.. أحقاً لا تراها وهي تنهال كالقذائف.. الزجاج يمتلئ شروخاً لا.. لنبذل مجهوداً.. لن ندع بنياننا ينهار فوق رؤوسنا.. لقد متنا.. إننا أموات.
انتبهوا أيها الأصدقاء.. تهشّم الجدار.. انهضوا قليلاً.. يجب أن نحاول؛ لابدّ أن نساند.. أتحسب أنه أقوى من الحجارة.. لن يصمد.. هي لحظات.. أيها الصديق.. قل.. ألا تسمعها؟!.. طق..طق.. طق”(7).
(وما كان من أهل المقهى “الوطن” إلا أن أخرجوا منذرهم ومحذرهم من الهزيمة والسقوط خارج المقهى.. خارج الوطن).
النادل: اهدأ يا سيد أنسي.. إني أستميحك العذر.. تلك فكرة المعلّم ظاظة.. أرجوك ساعدني قليلاً “يحمله بعنف، ويسر به.. بينما يلبّط أنسي بقدميه، وكلماته تتناثر”.
أنسي: ليس عادلاً.. لنفعل شيئاً.. ستصيبني الحجارة.. سنموت.. اتركني.. لقد متنا.. إننا أموات.. أيقظهم.. مقهانا يتهدّم..
(تتوالى هذه الكلمة متخافتة حتى يسدل الستار). “يتهدم.. يتهدم.. يتهدم..”(8).
“في مرحلة ونوس الأولى.. حافظ مبدعها على تقديم نهايات مغلقة تقدم رؤيتها المتشائمة في الحياة العربية.. وحتى مع نهاياته شبه المفتوحة فهو يقدّم ذات الرؤية في صورة تساؤلات مجاب عليها سلفاً داخل العمل الدرامي ذاته. فالجماعة الشعبية التي حدقت فيها “ميدوزا” منذ أول نص له، قد تحجرت وتحولت إلى تماثيل تحتل الميادين العامة دون أن تعلب دوراً في حركة أحداثها. والمقهى بما فيه من بشر يلتقون يومياً وبشكل رتيب ويعبرون عن حالة من البلادة وإضاعة الوقت، فيما لا يفيد وهو ما يضيف للإدانة الونوسية للجماعة الشعبية.. وما زالت الجماعة عند ونوس متحجرة؛ حتى وهي تلعب طاولة النرد على المقهى، والموت محاصر لها بسبب عجزها عن الفعل وتغييب وعيها في نمطية الأداء اليومي.. انشغال الجماعة الشعبية باللعب، ليس فقط هروباً من واقع زاخر بالأحداث، وإنما أيضاً انشغالاً بأفعال لا مجدية تستغرق زمن الجماعة وتستهلكه فيما هو غير مثمر لذاتها، وغير دافع لحركة مجتمعها ومهمّش لدورها في التاريخ”(9).
2 ـ المرحلة الثانية، ما بعد حزيران 1967:
أصبح سعد الله ونوس أكثر وضوحاً وتحديداً بعد هزيمة 1967.. التي استشفها في مرحلته الأولى، واتجه بكل قواه نحو التسييس، ليجعل من هذه القضية “التسييس قضيته الأولى في ممارسته المسرحية والتنظيرية للمسرح بعد الهزيمة. فبمقابل حالة الاستلاب التي يعيش فيها الجمهور، وحالة تعمّد أبعاده عن السياسة. يجب أن تطرح الحالة المضادة؛ أي يجب أن تُطرح قضية التسييس، ففي حواراً حول تجربته المسرحية، أجراه معه نبيل الحفار، يقول ونوس “بع عام 1967 كانت المعركة ملحّة بالنسبة للمسرح، وعلاقته بالسياسة، وكان واضحاً أن المسرح بوغتَ ومثله مثل الشعوب العربية، بهزيمة الخامس من حزيران 1967. وأنه قد تأخر كثيراً في الإجابة على أسئلة ملحّة.. إذن بعد 1967، طرحت العلاقة بين المسرح والسياسة بشكل حاد.. وكانت التجارب المسرحية السابقة على 1967 تتوهم أنه بالإمكان ممارسة تجربة مسرحية حدودها الفن، وحدودها تعميم خدمة ثقافية ما. عبر تقديم نماذج عشوائية وغير مترابطة من “ريبرتوار” المسرح العالمي، لذا كانت معركتنا الأولى هي: هل ينبغي أن يهتم المسرح بالسياسة أم لا؟
فهزيمة حزيران كانت شديدة الوطأة، وقد خلفت نوعاً من الصحوة الفكرية؛ في كل أوساط المثقفين، لذلك بعد أن صار ثمة إقرار بأن العلاقة وثيقة بين المسرح والسياسية، كان لابد من أن نواجه قول المسرح السياسي من خلال معايير سياسية: مدى تقدمية هذا العمل؟ وعمقه في طرح القضية، واستشراف الآفاق المفتوحة أمام الحلول أو مدى سطحية المعالجة وتفاهتها، وبالتالي تكريس ما هو متخلّف في الوعي السياسي السائد.. إذ لابد من المضي أعمق لتحديد هوية السياسية التي تبناها المسرح..”(10).
تبنّى المسرح السياسي. ولكن ليس أي مسرح سياسي، بل المسرح السياسي التقدمي.
وقد وضّح هذا المفهوم من خلال توضيحه لمفهوم التسييس.. بحيث يصبح المسرح حوار بين مساحتين، الأولى هي ما يعرض فوق خشبة المسرح، والثانية هي جمهور المتلقين، المتفرجين في الصالة، والمساحة الأولى يجب أن تعكس ظواهر الواقع ومشكلات المساحة الثانية، ليقوم حوار مرتجل، ومتدفق وحقيقي بين المساحتين.
“يتحدد مفهوم التسييس من زاويتين متكاملتين.. الأولى فكرية وتعني أننا نطرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، وأننا نحاول في الوقت نفسه استشفاف أفق تقدمي لحل المشكلة..”(11).
“والثانية فنية من خلال هدم العلاقة التقليدية الساكنة بين الصالة والخشبة، لإقامة علاقة جديدة يندغم فيها الممثل بالمتفرج في جوٍّ من الإلفة والصراحة؛ بحيث تتقوض الحواجز، ويحلّ الحوار بينهما، بدلاً من علاقة المرسل والمتلقي”(12).
فلا يكفي من وجهة نظر ونّوس أن تطرح القضايا السياسية على المسرح حتى يصبح سياسياً، بل يجب أن تطرح من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، ومثل هذه المعالجة تحاول فهم آلية الواقع، لكشفه ولتعرية القوى التي تعيق تقدّمه؛ ولإدانة الأنظمة الفاسدة المسؤولة عن تكريس ما هو متخلّف ورجعي. كل ذلك يجب أن يتم من خلال رؤية متكاملة ومعالجة تقوم على خلفية نظرية واضحة في ذهن الكاتب ـ دون إغفال لجانب المتعة الفنية. فالتعبير بحرية وصراحة عن الآراء السياسية، يمكن أن يكون تعويضاً باهراً.. فالمسرح من خلال جماعيته وعمله الذي يتعلّق باليومي. وذي العلاقة بالحاضر والمباشر مع الناس، إنما يعطي الوهم بنشاط أو بعمل سياسي.. إذن يجب تسييس المسرح للتواصل مع المتفرج ومحاورته وتبصيره بقضاياه الأساسية.. وحثّه على اتخاذ القرارات والمواقف منها. وهكذا كما يقول ونوس “يجب أن نشحن لا أن تفرّغ”.
“تمثل هذه المرحلة انعطافاً نوعياً في وعي الوجود المؤسس للبنية التكوينية للنص. حيث ينتقل وعي الحرية من الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية جوهر الوجود، إلى الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية شرط الوجود قيمياً. من وعي الحرية بوصفها جوهر الكائن إلى وعيها بوصفها شرط كرامة وسيادة الكائن، من وعيها بوصفها وضعاً أنثولوجياً، إلى وعيها بوصفها صيرورة تاريخية على طريق اكتمال الوجود بالقيمة… وذلك لا يتم إلا بالغوص في حمأة الواقع وأسئلته الشائكة التي توحد مساحتي الوجود.. العرض المسرحي وجمهور الصالة بمشكلاتهم وهمومهم وأشواقهم”(13).
فالمسرح إذن تجمع سياسي تطرح فيه المشكلات السياسية والاجتماعية والثقافية، وتُناقش. وهذا ما يستدعي بالضرورة إلغاء المفهوم التقليدي للشخصيات ـ الأبطال ـ فثمّة أصوات وملامح من وضع تاريخي معيّن، وأهمية الأفراد تتحدد من خلال التفاصيل أو الخطوط التي تضيفها على الوضع التاريخي العام فيصبح المسرح بهذه المثابة أداة تغيير، وليس أداة تكريس لما هو سائد، وهو إضافة إلى ذلك ـ بحسب قول ونوس ـ في مقدمة مسرحيته: “مغامرة رأس المملوك جابر..” حوار بين مساحتين: العرض المسرحي وجمهور الصالة، حيث يكون الارتجال الجريء. سمة رئيسية، من سمات هذا الحوار، مما يقوّي الإحساس بوحدة المصير المشتركة بين الفرقة المسرحية وجمهور الصالة.
شكّل هذا مجموعة الأفكار الرئيسية لفكرة تسييس المسرح لدى سعد الله ونوس. إنها تشكل في مجموعها رؤيا للمسرح على المستويين الفكري والفني، بدونها يصعب أن ندخل إلى عالم سعد الله ونوس المسرحي في المرحلة الثانية. حيث ظهرت هذه الرؤيا في مجمل مسرحياته التي أنتجها بعد هزيمة حزيران 1967.. ولعلّ أشهر هذه المسرحيات وأكثرها إثارة للجدل.. مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران..” التي كتبها عام 1967، فكانت ردّة فعل ملتاعة ومريرة، ودعوة للالتفات إلى الواقع وما يحدث فيه حيث أعمل ونوس مبضعه في تعرية الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المسؤولة عن الهزيمة، كما طرح قضايا البسطاء الذين تضرروا حقاً من الهزيمة وسمى الأشياء بأسمائها الصريحة.. كلّنا مسؤول عن الهزيمة..
“كانت النقلة عنيفة وحاسمة في مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” حيث في هذا النص يؤسس سعد الله لفكرة “الحوار والمشاركة” ليس عبر الرسالة المعرفية والأيديولوجية للنص فحسب، بل من خلال التشكيل البنائي للنص ذاته، إذ يكسر الحاجز الفاصل بين المعرفة والسلطة لتدمير معرفة السلطة التي قادت إلى الهزيمة. دافعاً بجمهور العدالة أن ينتزع حقه بالمشاركة في صناعة القرار، عبر الحوار والتدخل المباشر على الخشبة لمواجهة معرفة السلطة بسلطة المعرفة التي بدونها لا يمكن للناس أن يمتلكوا حريتهم..”(14).
ركّزت كثير من الآراء التي ظهرت عقب عرض هذه المسرحية على أنها عمل يقوم على تعذيب الذات، وجلدها، وفضح الأخطاء، فترسم صورة شديدة القتامة لا يمكن أن تكون معها ذات رؤيا اشتراكية. ولكن مثل هذه الآراء تظلمها لأن هذا العمل يساير منهج ونوس في التحريض وعدم المطامنة، فونوس يطالب بإزاحة هذه الأوضاع المزرية التي أدت بنا إلى ما نحن فيه، إلى الهزيمة. هي دعوة إلى تجاوز الارتجال في عملنا. ورد الفعل، إلى الفعل المنظم الذي تجسّد في تلك الشخصية من شخصيات حفلة سمر التي تحمل حلماً.. وتحمل بندقية وتجوب الأرض.. وصاحبها يعانق بندقيته كابنه الوحيد، ولا يلبس ثياب الجنود..
إن ونوس لا يغلق الأفق نهائياً، ولكنه يقسو ليكون وقع التحريض أقوى، ولا نبالغ إذا ما قلنا: إن النجاح الجماهيري الذي حققته هذه المسرحية، لم تحظَ به أية مسرحية جادة حتى حينه في إطار المسرح العربي. وإن النقاشات الساخنة التي أثارتها في حينها، لم تُثرها أية مسرحية عربية أخرى.. إنها كما يقول الناقد محمود أمين العالم: “من أنضج مسرحياتنا العربية المعاصرة عامة، سواء من حيث البناء الفني أم المضمون..”(15).
طرح ونوس في هذه المسرحية سؤالين صعبين بقدر ما هما جوهريان وأساسيان من نحن؟ ولماذا..؟
وضع ونوس أمامنا مرآة كبيرة، بحجم الهزيمة التي لحقت بنا، وقال لنا” انظروا من نحن، تعالوا نتعرّف على حقيقتنا من غير أقنعة أو تهويل أو تزييف. إن أية مجابهة مع العدو سوف تنهار وتتداعى إذا لم تقم على أرضية صلبة، بمعنى آخر ـ إذا غاب الشعب، وهو صاحب المصلحة الحقيقية، وصاحب الدور الريادي في كل معركة، فلن تكون المؤسسات والدوائر الرسمية قادرة على عمل شيء.. ستقف عاجزة مشلولة لا تقدر على الحركة.. استطاعت مسرحية “حفلة سمر” أن تفجّر جملة من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية دفعة واحدة، وأظهرت ترابط هذه القضايا وتداخلها من منظور تقدمي.. ومن خلال مناقشة عميقة للبنى التي أدت إلى الهزيمة. كما قدّمت مثالاً تطبيقياً، شكلاً ومضموناً لوظيفة المسرح ودوره، عبر تسييسه كما أراده ونوس أن يكون.
وإذا كانت “حفلة سمر…” قد عالجت الواقع عبر حكاية معاصرة وبشكل مباشر فقد اعتمد ونوس في تثبيت مفهوم التسييس في هذه المرحلة على مسرحيات أخرى. اتخذت من الإبعاد الزماني والمكاني وسيلة فنية، فاعتمدت على التراث، سواء كان شعبياً أم تاريخياً.. للسعي إلى استقطاب قطاعات واسعة من الجمهور، غير عابئ بالصيغة المسرحية المستقلة، باحثاً عن صيغة جديدة ـ قديمة. مألوفة في المجتمع العربي ـ كالراوي مثلاً ـ والمقهى والقصاص، والحدوتة.
ومن خلال الإبعاد الزماني والمكاني، يقيم جسراً بين ما يعرض بزمنه الماضي.. وما يحدث، لخلق توازيات تضيء الحاضر.. ومن هذه المسرحيات مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” 1971، وقد عرض من خلالها لمشكلة السلطة وعلاقتها بالشعب، وعلاقة الشعب بها.
(فزكريا) يحرض جماعة الناس لتثور ضد استبداد السلطة، بعد أن عمل على إيقاظ وعيهم، وتبصيرهم بما يحدث حولهم من مظالم واستبداد.. ولكن استكانة الناس أمام جبروت السلطة وأبّهة الملك تجعل الجميع يخرجون منكّسي الرؤوس، متوافقين مع قيودهم واستكانتهم للعبودية.. ثم يعلن الممثلون في ختام المسرحية. أن لا حرية في ظل الحكم الاستبدادي.. وأن الاستكانة والمطامنة ستجعل الفيلة تتكاثر لتتكاثر بعد ذلك الدماء المسفوحة.. “إنها عندما تتكاثر تبدأ حكاية دموية عنيفة”(16).
تابع موضوعة السلطة في مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر..” 1971. فالسلطة منقسمة على نفسها، وظالمة للرعية، وبالمقابل هناك الشعب المظلوم والخائف، تمثله جماعة من الرجال..
إن أجواء التناحر على السلطة في مجتمع يقوم على الاستغلال. ستفرز بشكل طبيعي الانتهازيين “المملوك جابر..” الذين يسعون وراء المال والربح السريع والمجد والنساء.. فالمملوك جابر لا يهتم للصراع القائم بين الوزير والخليفة، ولكنه عندما وجد ثغرة يستطيع النفاذ منها لتحقيق مصالحه، تحركتْ انتهازيته وبدأ اهتمامه. فتقدّم باقتراح إلى الوزير يجعله ينفذ خطته في استدعاء أعداء البلاد لنصرة الوزير.. ثم ينال هو العطايا والمزايا..
كما ربط ونوس في هذه المسرحية بين معاناة الشعب جرّاء السلطة الفاسدة المنقسمة على نفسها، فلا تهتم بأن تسرق من الشعب قوت يومه أو تستدعي أعداء البلاد وتفتح لهم الأبواب وبين سلبية هذا الشعب وعدم قدرته على الفعل. وبين صعود الانتهازيين، واستمرار عسف السلطة وقمعها. كما طرح موضوعة لا مبالاة الجماهير وسلبيتها.. وهو موضوع أثير لديه، فلا مبالاة الناس وسلبيتهم وعدم اهتمامهم بما يحدث حولهم. سوف يجرّهم إلى الدمار والخسران. حتى على الصعيد الفردي.. فتراه دائم التأكيد أن ما يجري في المجتمع مهم للجميع، وعلى الجميع أن يعيه وينخرط فيه ليؤدي دوره الفاعل، وإلا حلّ البلاء. وقد طرح هذا الموضوع في كثير من مسرحياته: “المقهى الزجاجي ـ مغامرة رأس المملوك جابر ـ الفيل يا ملك الزمان”، كما أفرد لهذه الفكرة مسرحية كاملة اقتبسها من “بيتر فايس” هي مسرحية “رحلة حنظلة”. وهذا ما يجعلنا نلاحظ كثرة الشخصيات السلبية في مسرحه. وهي شخصيات في غالبيتها خانعة مستلبة خائفة مشتتة أو انتهازية لا تحمل من المبادئ ما يبث بارقة أمل في الخلاص. وقد يُظن من خلال ذلك أن “ونوس” لا يحمل رؤية متفائلة، ولكنه يرى غير هذا، وينظر إلى المسألة من خلال علاقة المسرح بالجمهور، ومن خلال الفعل الذي تمارسه المسرحية على جمهور المتلقين. هل تمنحهم الرضى والمطامنة؟ وهذا ما لا يرضى عنه أم تحرضهم وتدفعهم للفعل، واتخاذ المواقف الإيجابية؟. يقول: كان مهماً بالنسبة لي دائماً، وفقتُ أم لم أوفّق ـ لكن هذا ما كنتُ أريده، أن أبني وعياً لا أن أُعطي وعياً جاهزاً، وبناء الوعي يتم عبر السلب، تأخذ عيباً من العيوب وتضخّمه، وتظهر عقابيله وآثاره، وتكون بذلك قد قدمت أمثولة أو درساً تطبيقياً لهذه الحالة، ويجب ألا ننسى أن المسرح في النهاية هو عملية جدل، وأن الخلاص ليس فيما يُطرح على الخشبة فقط. وإنما فيما يتمخّض عنه الجدل بين الصالة والخشبة..
إن تفاؤل العمل أو تشاؤمه، لا ينبع من مدى احتوائه على شخصيات إيجابية متفائلة أو سلبية متشائمة. وإنما يتم ذلك من خلال مجمل العمل وبنيته. هل يسير هذا العمل نحو أفق مسدود تشاؤمي أم أنه يشير إلى أن هناك أفقاً آخر، شرط أن تبدّلوا عاداتكم في التفكير والسلوك والنضال. وبهذا المعنى رأى أن هذه الأعمال إيجابية أكثر بكثير مما لو وضعتُ فيها شخصيات متفائلة وبطولية تقلب معادلة المسرحية وتحقق انتصارات على الخشبة، وتوزع انتصارات وهمية على المتفرجين..”(17).
في مسرحية “الملك هو الملك” يحاول ونوس فضح أنظمة التنكر البورجوازية ـ كما يقول ـ فيعالج قضية الحكم بصورة أكثر نضجاً وعمقاً. فالحاكم الفرد المطلق الذي يحتجز بيده كل السلطات يستمد قوته من الرموز المحيطة به، ومن القوى التي تقف خلفه للحفاظ على مصالحها “شهبندر التجار” أو “الشيخ طه..” والحاكم ليس إلا تجسيداً رمزياً لهذه القوى، وليس شخصه مهماً ما دام النظام قائماً، ولا يعني استبداله. شيئاً ما دامت القوى والنظام لا يزالان قائمين..
إن الاعتماد الكبير على التراث، عدا بعض المسرحيات في هذه المرحلة ـ قد ميّز إبداع ونوس في مسرحيات المرحلة الثانية. فالحكايات الماضية تشكل المادة الأولية للمسرحية ليطرح من خلالها القضايا المعاصر. الاجتماعية والسياسية التي يريد تناولها فيعالجها من خلال مفاهيم عصرية. تعالج قضايا المجتمع الراهنة لتحريض المتلقي ليتأمل واقعه، فيشارك مشاركة إيجابية فيما يدور حوله من أحداث تمسّه وتتعلّق بمصيره، ويبيّن ونوس أن عقابيل الاستسلام للواقع المريض، أخطر بكثير من أعباء النضال من أجل محاولة تغيير هذا الواقع.
“المرأة الثانية: وماذا نفعل إن انطبقتْ أبواب السجون على أحبتنا؟.
الرجل الثالث: وتعوّدنا تغيّر الأوضاع.
الرجل الثاني: وتعاقب الخلفاء والوزراء.
المرأة الثانية: وقتل الرجال لأتفه الأسباب.
المرأة الأولى: وغياب رجال لكذبة أو وشاية.
الرجل الثالث: ما لنا نحن وشؤون السادة…”(18).
اهتمت مسرحيات هذه المرحلة بموضوع السلطة والجماهير وقد رمى ونوس عبر هذه المسرحيات بالأسئلة والإجابات كلها.. باحثاً بغضب ولوعة عمّا يربط الإنسان بالوطن، والوطن بالإمكانية التي تدافع عنه، ولأنه كان يشتق أسئلته من التاريخ، ويجانب الأسئلة العابثة لتوليد الأسئلة الجديدة. التي تحاور الهزيمة لترد عليها.. ولتبعد شبحها عن الوجود العربي. ولذا فإنه عاد إلى الإنسان ولكن بصيغة جماعية هذه المرة سائلاً عن النصر والهزيمة وشروطهما، وعن أحوال المحكومين والحاكمين. طارحاً مسألة “التسييس” التي رأى من خلالها أن مآل الإنسان في وعيه ومآل وعيه في فعله، ومصير فعله فيما يميّز من أفعال الحاكمين” ولا يمكننا أن نمر في هذه المرحلة دون التعرّض لمسرحيته “سهرة مع أبي خليل القباني” التي كتبها تكريماً لهذا المبدع الرائد المسرحي السوري، دون أن تخرج عن إطار مسرح التسييس. فالقباني ابن عصره وبيئته، ولا يمكن فصل تجربته المسرحية، عن الوضع الاجتماعي ـ الاقتصادي السائد في تلك الفترة. إنه رائد دفع ثمن ريادته، صارع عقولاً متحجّرة، كانت ترى في الفن الجديد، ضرباً من الكفر والإلحاد، ونوعاً من الفسق والفجور. ولكن ونوس يؤمن بحركة التاريخ، ويؤمن بانتصار الجديد التقدمي على القديم الرجعي إيماناً قاطعاً.
3 ـ المرحلة الثالثة:
صمت سعد الله ونوس ثلاثة عشر عاماً أو يزيد.. قضاها في المراجعة والتأمل ليكتشف أن المشكلة أعمق. وأكثر تعقيداً من علاقة سلطة/ مجتمع. بل إن هناك تركيباً ثلاثياً ـ ربما ـ يجب أن يغوص فيه أكثر لمحاولة استكشافه، هناك بنى اجتماعية متخلفة جداً، تتجاور وتتساوق زمانياً مع بنى اجتماعية حديثة، حداثة شكلية. مما يشكل قطيعة وفصاماً في المجتمع,. إضافة إلى غياب أي تساوق، أو أي مشروع مستقبلي، يمكن أن تقوم به دولة عصرية، لا تتعادى فيها السلطة مع المجتمع، بحيث تهمّش السلطة مجتمعها. وتجبره على العودة في آلية دفاعية سلبية إلى بناه التقليدية والأخلاقية القديمة.
بدأ ونوس في كتابته الجديدة. ومرحلته الجديدة فكرياً وفنياً، يبتعد عن متفرج واجب الوجود. ليقنع بوجود متفرّج محتمل.. متفرج يقرأ عليه سعد شيئاً من حكايات التاريخ، تاركاً له حرية الإدراك والتأويل.. وهو في هذه المرحلة، كتب مسرحية مضيئة تاركاً لطرف آخر بعيدٍ عنه تحديد ملامح الجمهور المسرحي، وإمكانية عرض المسرحية، والعثور على المسرح الأكثر ألفة مع جمهور قادر على التأويل والفهم. بدأ يُعيد الاهتمام بمقولات المواطنة والعقل المستنير، والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني، وكان يستأنف فعلاً ثقافياً تتبادل فيه الأفكار والقيم المواقع من دون خصام، ويعمل على ترهين التاريخ وتجديد أسئلته.
عاد سعد الله ونوس إلى الكتابة بغزارة ونَهم. فأنتج عام 1989 مسرحية الاغتصاب التي أعاد فيها معالجة المشكلة الفلسطينية من خلال استفادته من نص الكاتب الإسباني “بويرو باييخو” الذي بعنوان: “القصة المزدوجة للدكتور بالمي..”.. وقد تمّ عرض هذه المسرحية في بيروت عام 1993، وأخرجها المخرج جواد الأسدي..
تعمق ونوس في هذه المسرحية قضية الصراع العربي الصهيوني، حتى وصل إلى أنه صراع بين مساحتين لا يمكن أن يلتقيا فالأرض ضيقة كالقبر ـ على حد تعبير بطلته المغتصبة دلال ـ فلا يمكن أن تتسع لنا ولهم.. وهذا هو موقف إسماعيل الذي فقد رجولته إثر العذاب الذي لاقاه على يد الوحوش الصهاينة، بحيث بات مقنعاً أن إمكانية التعايش.. ليست ممكنة، هذه الوحشية جعلت الإنسان في داخل بعض الصهاينة يستيقظ فيقوم طبيب إسرائيلي بمداواة جراح الأسرى وتتحوّل راحل إلى مناضلة في سبيل القضية الفلسطينية.
ثم صمتَ ونوس مرّة أخرى عرف خلالها بمرضه العضال.. ليعود إلى الكتابة بغزارة وتحدٍ، فكتب على التوالي “منمنمات تاريخية” 1994، و”طقوس الإشارات والتحولات” 1994، ومسرحيتي “يوم من زماننا” و”أحلام شقية” في كتاب واحد 1995 ثم ملحمة السراب” مطلع عام 1996، وأخيراً قدم قبل وفاته بشهر مسرحية “الأيام المخمورة” 1997. إضافة إلى مجموعة نصوص “بلاد أضيق من الحب” عن الذاكرة والموت 1996، ولا تعود القضية إلى مجرد الخصب العددي في وتيرة الإصدارات، بل تعود إلى كون هذه المسرحيات تشكل مرحلة جديدة نوعياً ومتمايزة فنياً وفكرياً في مسيرة مسرح سعد الله ونوس، سواء من حيث العمق الإنساني والفردي للشخصيات وتلاوينها وتنوّع أحوالها وتناقض حالاتها وتحولاتها، أم من حيث التركيب المدهش والتدامج الجدلي بين تواتر المشاهد وتسارعها. وبين بانورامية المدى الشاسع في فضاءات الأمكنة وفضاءات الأحداث إلى حشود من تصارع الشخصيات وتشابك الوقائع وترابطها.
وسنجد في هذه المرحلة تنوعاً في الأجواء والأحداث المستمدة من عدّة أزمان من القرن التاسع الهجري “منمنمات تاريخية”، التي يعرض فيها لغزو التتار لبلاد الشام ولحصار دمشق، ولشخصية المثقف العربي ممثلة بشخصية ابن خلدون. إلى القرن التاسع عشر الميلادي “طقوس الإشارات..” إلى أيامنا الراهنة، “يوم من زماننا ـ أحلام شقية”. إلى المرحلة الشرسة الحاضرة الآتية في إطار إفرازات النظام العالمي الجديد “ملحمة السراب..”.
إن ثمة ملامح عامة تظهر في كتابة هذه المرحلة لدى سعد الله ونوس. ومنها: الخروج على الأطر التي كانت تضبط الكتابة لديه، بكل مكوناتها، من عملية التأليف بالمعنى الحرفي إلى طبيعة الموضوعات التي تتطرق إليها الكتابة، فالكتابة هنا توسع هامشها لتتحرر من الشكل والكليشات، على الرغم من أنه لا يزال يستخدم تسمية “مسرحية” ليصف إنتاجه، إلا أن المسرحي فيه قد تحرر من هاجس “العرض” بينما يطغى القالب الروائي السردي في هذه الأعمال.. منذ “الاغتصاب” وبدت الموضوعات المطروحة أكثر شمولية وتنوعاً، تجمع بين الخاص الذاتي والعام، وتحاول أن تربط بينهما. واللافت للنظر أنه ـ لأول مرة ـ في مسرح ونوس تظهر أهمية الإنسان الفرد “الإنسان العادي أو الإنسان الصغير، أستعير هنا تسمية بريشت” كشخصية لها قوامها الإنساني، وهذه الشخصية المعبّرة عن الإنسان العادي تأخذ حيّزاً واضحاً في المسار الدرامي، لا بل تؤثر به “شخصية ماري/ غادة في أحلام شقية”، “شخصية “فاروق” في يوم من زماننا” و”ألماسة” في “طقوس الإشارات والتحولات”. فبغض النظر عن قيمة اهتماماتها وتركيبتها فهذه الشخصيات تسمح لمبتكرها أن يطرح إشكالية هامة، هي إشكالية “الفعل” وجدواه. هل يمكننا أن نغيّر حياتنا؟.. هل يمكننا أن نغيّر العالم.
ملمح آخر لافت في إبداع هذه المرحلة، وهو ظهور الحالة النفسية التي لا يمكن فصلها عن المناخ العام الذي تعيشه الشخصية. وهذه السمة موجودة في أغلب المسرحيات الأخيرة بنوعيها الدرامي والملحمي السردي.
مدير المنطقة: هذا الرجل الذي باركه الأخ جلال ووهبه خصيتين. تفضّل يا أستاذ (يتناول علبه سجائر ويقدّم سيجارة لفاروق).
فاروق: (وهو يمد يداً ترتعش..) أنا لا أدخّن، أقلعت عن التدخين منذ سنة، لكنّي اليوم أحتاج إلى سيجارة.
مدير المنطقة: دخّن يا أستاذ (يشعل سيجارة بولاعة من ذهب) ومهما كان التدخين مضراً فإن الضغوط العصبية والقلق أشد ضرراً وفتكاً بالإنسان(19).
وبغض النظر عن البُعد النفسي للشخصية فإن أهمية هذه المسرحيات تكمن في أنها لا تبسّط العلاقات مهما كانت طبيعتها، ولا تُعطي أجوبة بقدر ما تطرح أسئلة. فالطرح هو الإشكالية التي تعني الكاتب والقارئ معاً. فموضوع كل مسرحية يأتي على شكل سؤال أو أسئلة “المنمنمات.. الطقوس” أكثر منها أجوبة. فالمشكلات تُطرح بتعقيدها، والمشكلة أو القضية المطروحة مهما كانت طبيعتها تطرح ضمن علاقة ما. هي جزء منها لأن الأمور معقدة.. ومعقدة جداً.
وفي هذا يتشابك ما قد يبدو ثانوياً ويتقاطع مع ما هو معترف به على أنه أساسي، ويكون تلمس تراكب العلاقات وتشابكها هو الجديد والهام، في هذه المرحلة.
يلخص سعد الله ونوس ملامح تجربته الجديدة خلال لقاء أجري معه ونشرته مجلة الطريق. يقول: “لنتفق على نقطة، انقطعت عشر سنوات عن كتابة المسرح، خلال هذه السنوات العشر التي تبددت في سراديب الاكتئاب كنت أعلم أنني لا أستطيع أن أواصل الكتابة إلا بعد مراجعة جدية لما أنجزته وإلى ما آل إليه المسرح في بلادنا، وكذلك مراجعة التدهور الذي أصاب المشروع الوطني على امتداد الوطن العربي. وفي هذه المراجعة وجدت أني لم أركّز بما فيه الكفاية على تخلّف البنى الاجتماعية في بلادنا، وإني لم أربط إلا بشكل هامشي بين تخلّف هذه البنى، وبين نمط السلطات التي أنعم التاريخ علينا هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى كان عليَّ أن أكتشف أيضاً أن المشروع الوطني بما يعنيه من تحرر وتقدّم وحداثة لا يقتضي أن نلغي أنفسنا كأفراد لنا أهواؤنا ونوازعنا ووساوسنا وحاجاتنا الملحة للحرية، ولقول “الأنا” دون خجل.. بل بالعكس، إن هذا المشروع الوطني، لا يمكن أن ينجح ويتحقق إلا إذا تفتحت هذه “الأنا” ومارست حريتها وقالت نفسها دون حياء ودون مراءاة أو تعوّذ. كنا ساذجين في فهم الجماعة والعمل الجماعي. كنا نتخيّل هذه الجماعة أفراداً لهم وجوه واحدة وأمزجة واحدة. وكنا ننفر من الاستثناء والتفرد. ناسين أو متجاهلين أن الاستثناء والتفرد هما اللذان يجعلان من الجماعة قوة إنسانية لا مجرد جمع من الأرقام والوجودات الفارغة..”(20).
أخيراً. لابد من وقفة عند الكلمة التي كتبها ونوس لتقرأ في جميع أنحاء العالم في يوم المسرح العالمي، ولابد أن في اختيار ونوس لكتابة هذه الكلمة تكريماً للمسرح العربي.. وللمسرحيين العرب.. فكتب وكانت كلمة شهادة رجل مسرح حقيقي.. حمل الهم المسرحي والهم الإنساني والوطني والفكري والحضاري شهادة في الفكر والثقافة والفن والسياسة. حين أكد فيها على أهمية الحوار بين الجماعات “هذا الحوار الذي يقتضي تعميم الديمقراطية واحترام التعددية. وكبح نزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء.. إني أتخيل أن هذا الحوار يبدأ من المسرح، ثم يتماوج متسعاً ومتنامياً حتى يشمل العالم على اختلاف شعوبه وتنوّع ثقافاته…”.
كما أكّد فيها أن “المسرح ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني فحسب، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع، وضرورة من ضرورات نموّه وازدهاره” إنه ظاهرة حضارية مركّبة سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً لو أضاعها وافتقر إليها”.
وبعد أن تحدّث عما يحدث في العالم الآن من حيف وظلم على الشعوب الفقيرة، ختم كلمته “إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”.