عن مزايا النظام الناقص !
ميشال كيلو
… والنظام الناقص هو النظام الديموقراطي، الذي ليس مغلقا أو كاملا ويتصف بنواقص تجعله قابلا لتحسين دائم هو مكمن قوته وميزته . إنه نظام ناقص وقابل للتحسين في سائر جوانبه وآليات اشتغاله وممارساته ومنظوراته، وليس نظاما كاملا، مغلقا ونهائيا، إن امتدت يد الإصلاح أو التغيير أو التحسين إليه اهتز وتداعى، فلا مفر من أن يبقى على حال واحدة منذ قيامه وحتى زواله، فإن فرضت الظروف تغيير جوانب منه، كان هدف التغيير استعادة صورته الأصلية، وليس تجديده أو التخلي عنه .
نعم : النظام الديموقراطي ناقص، لأنه نظام مفتوح يسمح بجميع أنواع التغيير والتحسين، حتى الأكثر جرأة منها، والتي يمكن أن تطال جذوره وفروعه دون أن تعرضه للخطر، وتجعل من حراكه وعدم جموده على حال واحدة شرط وجوده، فوجوده يتوقف على تحسينه ونبذ ما تقادم منه ومدّه بالحيوية والفاعلية عبر تجديده، ونقله من ما هو كائن إلى ما يجب أن يكون بموافقة المواطنين، حملته الذين يرون في قدرتهم على تحسينه سلطتهم عليه، ولا يقبلون جموده أو ركوده كي لا تسحقهم سلطته عليهم . يحكى أن أحد سلاطين بني عثمان أرسل سفيرا إلى باريس، وكلفه بدراسة أسباب تقدم الغرب، كي تفيد السلطنة منها . بعد تسعة أشهر، عاد السفير ليخبر سلطانه أنه ليس لدى الغرب ما يمكن تعلمه، وأن نظامه ناقص بينما نظام السلطنة كامل . لم يفهم السفير أن تفوق الغرب يكمن في نقص نظامه . كان سيفهم، لو أنه قرأ الفيلسوف باسكال، الذي قال: “عالم النحلة كامل وعالم الإنسان ناقص، وهنا يكمن تفوق الإنسان على النحلة”.
لا يقبل النظام الكامل، المركزي، التحسين، وهذا نقصه ومقتله . أما النظام الناقص، الديموقراطي، فإن نقصه وقابليته للتحسين والتطوير هي رأس ماله، وهو في حاجة دائمة إلى التحسين والتطوير، على أن يتم ذلك من “تحت”: بمشاركة البشر، وليس من “فوق”: من فوق رؤوسهم ودون أو ضد إرادتهم . والنظام الناقص، القابل للتحسين، هو نظام متفوق بالضرورة على النظام الكامل، الذي يهدد التحسين وجوده، فلا يقلقه شيء غير الحفاظ على وضعه القائم بحذافيره. وعندما نقول عن نظام إنه يقبل التحسين، فكأننا نقول إنه يتوافق وحرية الإنسان، الذي يحسن ويكمل حياته بلا انقطاع، وفيه مشاركة ويقتضي وجوده وجود فضاء مفتوح يتحرك الأفراد، كما تتحرك الأحزاب والجماعات، بحرية فيه، دون اصطدام أو ارتطام حاد أو عدائي بغيرها، فإن حدث واصطدموا سارعت توازنات وتدابير السياسة السلمية/ الحوارية إلى تسوية الخلافات وتضييق الاختلافات، وأعادت الوضع إلى مجراه الطبيعي، في إطار قانون يجسد مصالح وحقوق سائر الأطراف، بما هي جزء تكويني من حقوق ومصالح وطنية عليا لا يجوز أن تتعارض أو تتناقض المصالح الجزئية معها، إلا إذا كان تعارضها عابرا وقابلا للتسوية بدوره.
إنه إذاً نظام ناقص، مفتوح على الحرية والمشاركة والمساواة والعدالة، ومنضو تحت القانون وقادر على صيانة مصالح البلاد العليا، دون أن يتجاهل عيوب الواقع ويرفض معالجتها. وفي حين أن النظام الكامل لا يحتاج بحكم كماله – إلى تحسين، ما دام الكمال لا يحسن أصلا، فإن النظام الناقص يترجم في واقعه استحالة الكمال، وهو يقبل النقص في حياة المواطن، لذلك يعامله بتسامح، ويتيح له فرص تحسين حياته، لأنه ليس في نظره ملاكا كاملا أو شيطانا ملعونا، بل هو من مخلوقات الله، التي ترفعها القيم المعنوية والروحية إلى مستوى أخلاقي وسياسي إنساني يعينها على ترقية مجتمعها ووطنها وتمدينهما، وعلى المشاركة في تعزيز الفضاء المجتمعي وتنقيته من التوترات والتناقضات.
بتحسين كهذا، أطرافه النظام والمجتمع والمواطن، ترتقي الحياة وتغتني بقيم تزداد احتفاء بالإنسان وحقوقه وحرياته، ويتكون من المواطنين العاديين رأي عام حساس يصعب استغفاله، وتستند الجماعة الوطنية على أسس تتسم بقدر قابل للتحسين من النزاهة، يتبناها بالضرورة حامل المسؤولية العامة، الخاضع كغيره لمساءلة القانون: سيد الجميع وناظم علاقات الفرد بغيره وبالهيئة المجتمعية العامة وبالدولة، وحامي تقدم الفرد ومصالح الجماعة .
بيد أن للنظام الديموقراطي نواقص مقلقة أهمها اختلال توازن العلاقات بين الفرد والهيئة المجتمعية العامة والدولة . الديموقراطية علاقة توازن بين هذه المكونات، التي تتحرك بحرية في فضائها، حسب مشتركات متوافق عليها هي مصلحة مجتمعية عامة ودولتية عليا . تنهار الديموقراطية أو تعجز عن تأدية وظائفها، إن أصاب دورَ أي مكوّن من مكوناتها الثلاثة خللٌ يجعله أكبر أو أصغر من ما يتطلبه التوازن. مثل هذا الخلل يغير طبيعة النظام ويطيح به لصالح نظام آخر، يكون دكتاتوريا إن رجح دور الفرد في المجتمع والدولة، وفوضويا إذا هيمن دور المجتمع، واستبداديا إن طغى دور الدولة.
في هذه الحالة أيضا، تظهر مزايا النظام الناقص، الذي قد ينحرف عن مساره، لكن أدواته تظل قادرة على إعادة إنتاج علاقات التوازن الضرورية لرده إلى المسار الصحيح . النظام الناقص هو نظام تصحيح وضبط ذاتي، بينما تفتقر النظم الأخرى إلى القدرة على تصحيح عيوبها ومساراتها بما تملكه من آليات اشتغال وأدوات، وترفض وجود توازن بين مكوناتها، أو تلغي بعض أطرافه، خاصة في النظام الاستبدادي، الذي يرى في الدولة سلطة، ولا يقر بحق الفرد في الحرية، وحق المجتمع في الاستقلال عن سلطته، ويرفض شرعية وجود التوازنات، لأنها توسع هوامش حركتهما، وتقيد حرية السلطة، المطلقة كليا، حيالهما.
الديموقراطية نظام ناقص، والاستبداد نظام كامل: وهنا يكمن تفوق الديموقراطية!. الديموقراطية نظام بشري، والاستبداد نظام نحل أو نمل: هنا يكمن تفوق الديموقراطية على الاستبداد، تفوق نظام الإنسان على نظام الحشرة!.
المستقبل