كوليت خوري وكاظم الداغستاني والروايــة الأنثروبولوجيّة: روايات تستمد مادتها من الواقع تقدم الوجه التاريخي لمدينة دمشق
أحمد عزيزالحسين
في ظني أن نصوص (دمشق بيتي الكبير) للأديبة السورية كوليت خوري (1969) و(عاشها كلها ) (1969) و(حكاية البيت الشامي الكبير) (1972) لزميلها كاظم الداغستاني لا تقدم إضافة نوعية إلى مقاربة المدينة الروائية في الرواية السورية، وتفصح هذه النصوص عن صلة، وإن تكن واهية، بـ ‘رواية أنثروبولوجية ‘ (An Anthropoligical Novel ) التي كتبتها لورا بوهانان (Laura Bohannan) وأميتاب غوش (Amitap Ghosh)، وتأتي هذه الصلة من كون الروايات الثلاث تستمد مادتها من الواقع، وتختار لنفسها الشخصيات والموضوعات والأشياء التي يتم تناولها بالوصف والتحليل، وتحاول بناء هذه المادة معتمدة على الخيال والعوامل العاطفية والانفعالية، الذاتية، وذلك ضمن حبكة بسيطة كي لا يهبط العمل إلى مستوى السرد الأثنوغرافي البسيط الساذج الذي يكاد يخلو من التحليل القائم على الوعي بالمتن المرجعي الذي يقاربه، ويحاول إعادة تشكيله وفق رؤية جديدة.
والواقع أن نص كوليت خوري لا يقترب من الرواية الأنثروبولوجية إلا على مستوى المحاولة، بسبب افتقاره إلى نقطة محورية تربط بين أحداث الرواية والمعلومات الأثنوغرافية المقدمة فيها، كما أن الأحداث في هذا النص تبدو متحررة من قيود الزمان والمكان، ولهذا ترتفع إلى مستوى مجرد لا يرتبط بشخص معين أو بظرف محدد، ما يجعل تلك الأحداث والمعلومات تكتسب طابعاً عاماً شاملا، وهذا هو ما كان يقصده رولان بارت في الأغلب حين قال في كتابه (الكتابة عند درجة الصفر): (إن القص أو الحكي يقلص التجربة الإنسانية، ويركزها في نقطة زمانية ترتفع عن الوجود المحسوس الملموس المقيد بالعوامل والقيود المادية).
ونص كوليت خوري يقدم الوجه التاريخي لمدينة دمشق، منفصلا عن العين التي تراه، أو الموقع الذي يتبوؤه السارد وهو يحاول أن يرى، ولهذا تبدو المعلومات التاريخية والفولكلورية مفتقرة إلى التوضع العياني المحسوس، كما تبدو مفتقرة إلى قدر من الذاتية القادرة على صبغها بإحساسات الساردة وانفعالاتها وآرائها الخاصة، بوصفها راوياً مشاركاً في الأحداث أو راوياً مُمثَّلا، على حد تعبير الناقد السوري سمر روحي الفيصل، ولهذا بقيت (الذاتيـة) غائبة عن النص، وهذا ما جعله يكتسب طابعاً ذهنياً مُجرَّداً، بدلا من أن يرقى إلى مستوى الأدب التخييلي كما في هذا المقبوس: (وفي قلب دمشق التاريخ راحت تشرح له : كانت الشوارع ضيقة جداً، لتساهم في الدفاع عن أنفسهم ضد الغزاة، وضد اللصوص، وكانت أبواب المنازل عادية، فقيرة كما ترى (…)، كانوا بهذه الطريقة يوهمون الجباة بأنهم فقراء! ولكنك ستكتشف أن وراء هذه الأبواب دورا فخمة، فسيحة).
وكذلك لا يتجاوز كاظم الداغستاني في روايته ( عاشها كلها ) السوية الفنية التي قدمتها كوليت خوري في نصها السابق، بل إنه، في اعتقادي، يقصر عنها أيضاً، فالرواية قسمان منفصلان يتحدث في أولهما عن دمشق، ويأتي على ذكر عاداتها وتقاليدها وأعرافها وتجددها العمراني، ولكن بشكل يغلب عليه الطابع السيَري الملتصق بمرجعه، الحريص على التطابق معه . أما القسم الثاني فيتحدث عن مدينة باريس حديثا سيريّاً أيضاً، يعرض من خلاله قصة حب بين كهل شرقي وفتاة باريسية انتهت بهروب الكهل خوفاً على نفسه من عواقب هذا الحب، وتتخلل ذلك حكاية مسرحية طويلة لا علاقة لها بالمتن الحكائي الرئيسي.
ويغلب على النص أن يكون كتاباً في الرحلات، ولهذا يكثر فيه الوصف الخارجي غير المُبأر للأماكن، والسرد التقريري الذي ينم على هيمنة الكاتب على سيرورة الحكي، واللغة المزوقة المنمقة، والحوار الخارجي غير المناسب للشخصيات، والحشو والاستطراد.
وكذلك يسير نصه الثاني (حكاية البيت الشامي الكبير) على منوال سابقه، فيعنى بفولكلور دمشق وتقاليدها وعاداتها، ويقف على آلية تغيرها من القرن الثامن عشر إلى الربع الأول من القرن العشرين، ويكاد هذا النص أن يكون أقرب إلى كتب علم الاجتماع في إضاءته لمسألة تطور الأسرة الدمشقية، ولهذا يفتقر إلى الذاتية في كيفية تشكيل متنه الاجتماعي – الحكائي، ويقترب من الذهنية التي ترفعه إلى مستوى عام ومجرد، وبعيد عن التخييل.
ونظرا للإخفاق الذي منيت به محاولات الداغستاني المتعددة في مقاربة ‘المدينة السورية’ مقاربة فنية، وإعادة تشكيلها فنياً، وعدم قدرة كوليت خوري على تقديم إضافة نوعية لهذا النوع في نصها المذكور، فقد انصرف الاثنان عن الاستمرار في محاولاتهما، وإن كنا شهدنا في ما بعد من يستفيد من تجربتهما، ويقدم نصوصاً روائية جديدة تقدم رؤية مغايرة للمدينة، وهو ما يمكن أن نتبينه في نصوص هاني الراهب وحيدر حيدر وخيري الذهبي وفواز حداد وأحمد يوسف داود بشكل خاص، مما يمكن أن يكون موضوعا لحديث لاحق.
كاتب سوري مقيم في الإمارات
القدس العربي