سجّاني الايراني إسمه “السيد ماء الورد”
نشرت مجلة “نيوزويك” يوميات مراسلها مازيار باهاري أثناء اعتقاله في سجن ايفين السيء السمعة في طهران، بتهمة التجسس لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والاستخبارات البريطانية والموساد.. و”نيوزويك”.
من هذه اليوميات نقتطف:
سجن إيفين، 21 يونيو 2009 (نحو الساعة العاشرة صباحاً)
أجلسني المحقق على كرسي خشبي، وكان مزوداً بذراع يمكن الكتابة عليها، على غرار الكرسي الذي كنت اجلس عليه في المدرسة الابتدائية. طلب مني ان اطأطىء عيني مع انهما كانتا معصوبتين: “لا تنظر ابداً نحو الأعلى سيد باهاري خلال وجودك هنا ـ ولا نعرف كم سيدوم ـ لا تنظر ابداً نحو الأعلى”.
كل ما استطعت رؤيته من تحت عصابة العينين كان خفّي المحقق الجلديين والأسودين، وقد اثارا قلقي. لقد قرر إجراء جلسة طويلة.
بادرني القول: “سيد باهاري، انت عميل لدى منظمات استخباراتية اجنبية”. كنت قد لمحته عندما اقتادني مع رجاله من السرير واوقفوني قبل ساعات قليلة، كان ممتلىء الجسم ـ علمت لاحقاً ان الحراس ينادونه “الرجل الضخم” ـ وكان أطول وأعرض مني، ورأسه كبير. كان لون بشرته داكناً مثل المتحدرين من جنوب ايران، ويضع نظارة سميكة. لكن الآن لا اعرفه الا من صوته ونفسه وعطر ماء الورد الذي يستعمله الرجال الذين يتوضأون بتقوى مرات عدة في اليوم قبل اداء الصلاة، انما نادراً ما يستحمون.
استطعت ان ارى خفّي “السيد ماء الورد” مباشرة امام قدمي، كان منتصباً فوقي.
تمتمت: “هل تقول لي اي منظمة”.
فصرخ: “تكلم بصوت أعلى”. وانحنى نحوي، فأصبح وجهه على بعد انش واحد من وجهي، وشعرت بنفسه على بشرتي: “ماذا قلت؟”.
كررت: “كنت اتساءل اذا كان بامكانك ان تتلطف وتخبرني ما هي هذه المنظمات”.
فعدد اسماء المنظمات واحدة تلو الاخرى في صوت منخفض انما واثق “سي اي أيه” الاستخبارات البريطانية، الموساد، ونيوزويك”.
صعقتني ثقة السيد ماء الورد بنفسه، لم أكن اعرف آنذاك بالضبط لحساب اي فرع يعمل في الحكومة الايرانية المنقسمة، عند اعتقالي كان مئات الآلاف من المتظاهرين يملأون شوارع طهران منذ اسبوع مدفوعين بالغضب من اعادة انتخاب الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد التي اثارت خلافاً حولها.
وقعت أعمال عنف. وقد مارست الميليشيات المعروفة بالباسيج التي تستخدم الهراوات جزءاً كبيراً من هذا العنف على المحتجين، نساء ورجالا على السواء. غير ان بعض المتظاهرين ردوا ايضاً على العنف. وقد دعا المرشد الاعلى الايراني، آية الله علي خامنئي، الى وقف الاحتجاجات، لكن لم يكن احد واثقاً في تلك المرحلة من انها ستتوقف. على الاقل، لا احد خارج سجن ايفين كان واثقاً من ذلك. اما السيد ماء الورد فكان حاله مختلفة.
اكتشفت لاحقاً انني اعتقلت على يد فرع الاستخبارات في حرس الثورة الاسلامية. قبل الانتخابات في يونيو، لم تكن هذه الفرقة في الحرس الثوري معروفة كثيراً؛ فعندما كان الصحافيون والمثقفون يتصادمون مع السلطات، كانت وزارة الاستخبارات الرسمية هي التي تستجوبهم عادة. غير ان الحرس الثوري المسؤول مباشرة امام خامنئي، كان يزداد قوة بتزوير الانتخابات المؤكد هو انه قاد حملة القمع التي اعقبت الانتخابات.
تعلمت من كل شيء داخل سجن ايفين، من الاسئلة التي طرحها السيد ماء الورد مروراً بالأجوبة التي كانت تدفعه الى ضربي وصولاً الى التفاصيل الحسية، فعلى سبيل المثال، تفحصت خفيه وجاربيه الرماديين الفاتحين. في ايران، غالباً ما ينتعل الموظفون الحكوميون متدنو الرتبة صنادل بلاستيكية رثة، وتكون جواربهم مثقوبة. في ذات اليوم الأول، أملت ان يكون السيد ماء الورد مجرد عميل صغير، مأجور يحاول ان يبدو مهماً، املت ان اجد ثقباً في جوربيه، لكن لم يكن هناك ثقب وبدا خفاه وكأنه تم تلميعهما.
كان السيد ماء الورد لعنتي طوال 118 يوماً و12 ساعة و54 دقيقة، لم يخبرني قط باسمه ولم ار وجهه سوى مرتين. المرة الأولى كانت عندما قاد الفريق الذي اعتقلني، وقد رحب بي بالجملة الآتية “يمكن أن يكون هذا السجن نهاية الطريق بالنسبة اليك، اذا لم تتعاون”.
وكانت المرة الثانية والأخيرة بعد الافراج عني، والتحذير الذي وجهه الي بألا اتكلم مطلقاً عما حدث معي في السجن، قال مهدداً: “نستطيع وضع الناس في كيس اينما كانوا في العالم، لا يستطيع أحد الهروب منا”.
لم اصدقه. لا اصدقه. لكن الشك يظل قائماً، وهذا ما أراده، هذا في الواقع ما يريده النظام الذي يخدمه منا جميعاً. إنهم اسياد الالتباس الذي يبثونه في اوساط أعدائهم ومرؤوسيهم وأصدقائهم، وربما في أوساطهم أيضاً.
لو استطاع السيد ماء الورد لهددني طوال حياتي، لكن 118 يوماً كانت كافية، لا أريد أن أكون أسيره بعد الآن.
المستقبل