صفحات ثقافية

الـرواية والـعــالم الـشخصي

null
أورهان باموق
هذه إحدى مقالاتي المبكرة، وقد نُشرت وأنا في الثلاثين من عمري. بقدر ما تشكل بشيراً بالروايات التي سأكتبها لاحقاً، تتضمن كذلك البذور الأولى لمشكلة الوضوح والقابلية للفهم في الرواية.
قرأت، قبل سنوات قليلة في ملحق الأحد لإحدى الجرائد الأكثر مبيعاً، حواراً مع أحد روائيينا المشهورين، يتحدث فيه عن رواية له نشرت حديثاً، فيقول عنها قرب نهاية الحوار: “إنها رواية كالروايات!”. للوهلة الأولى بدا لي هذا الشعار غريباً بعض الشيء ومضحكاً، بل إنه درج على لساني لبعض الوقت. ولكن إذا أردتم الحق، فأنا لم أكن على جهل بما عناه الكاتب الشهير بعبارته تلك. فرغبةً منه في زيادة مبيعات كتابه، أراد كاتبنا أن يقول إن روايته تشبه الروايات التي سبق للقراء أن قرأوها، وإنها ذات بداية ونهاية واضحتين، وإنه لم يقحم فيها أي شيء لم يسبق للقارئ أن فكر فيه أو خطر في باله. عالم الرواية هو العالم الذي سبق للقارئ أن تعرف إليه في روايات الكاتب السابقة. التغيير الوحيد هو ما يتعلق بالديكور والحبكة القصصية. أعتقد أنه لا حاجة بي الى القول إن العالم المذكور هو عالم الرواية التقليدية أو رواية القرن التاسع عشر.
أرى اليوم أن هذا المفهوم قد أصاب الرواية التركية بالعقم. وربما هذا هو السبب الكامن وراء التشابه في العديد من الروايات التركية. إن بعضاً من روائيينا لا يرون في الرواية جنساً أدبياً من شأنه أن يفسر العالم، بل أن يمنحه المعنى. فتفسير العالم ومعناه بالنسبة إليهم، ناجزان وواضحان على كل حال، ويقتصر ما ينبغي عليهم فعله على وضع حكايات جديدة وأبطال جدد داخل هذا العالم المألوف. كتابة الروايات بهذه الطريقة، تبتعد عن البحث والتنقيب عن أشياء في العالم، لم يسبق لأحد أن قالها أو فكر فيها. يكفي ابتكار قصص وأحداث ومواقف جديدة، لتكون الرواية جديرة. ربما لهذا السبب يكتفي الكثير من الروائيين الأتراك بكتابة أحداث “مثيرة للاهتمام” عاشوها بأنفسهم أو شهدوا على وقوعها أو سمعوا بها. يضطر هؤلاء الكتّاب بعد ذلك الى تلافي القصور الفلسفي الذي يظهر في أعمالهم، بوساطة أبطال رواياتهم الذين يقومون بتحليل الأحداث اليومية التي تجري معهم ومن حولهم. وهكذا يقومون بكتابة روايات “غفل”، من شأنها أن تقرأ باهتمام لأنها تتطرق الى احداث راهنة أو مثيرة للاهتمام، لكنها سرعان ما يطويها النسيان لافتقارها إلى العمق.
لا أريد أن يساء فهمي، فأنا لا أقول إن روايات حديثة تسعى إلى فهم العالم بصورة أعمق لا تكتب البتة في تركيا. لقد كتبت روايات جريئة من هذا النوع ولا تزال تكتب. تخطر في بالي الآن الروايات الأخيرة لأحمد حمدي تانبنار وأوغوز آتاي ويوسف آتلغان ويشار كمال. ولكن عندما نتذكر أن للرواية التركية تاريخاً يمتد إلى مئة عام، يفكر المرء في عدم كفاية هذه الحفنة من الروايات.
إن أحد أسباب هذا القصور يعود إلى – ولا يطاوعني لساني لقول هذا – محدودية ما يتوقعه القراء من جنس الرواية، بمقدار محدودية ما يتوقعه الكتّاب كذلك. الكثير من هؤلاء وأولئك يعدّون محاولة الرواية قول أشياء جديدة عن العالم، وخوضها أنواع التجريب في الشكل والتكنيك، ونحوها منحى التجديد، حذلقةً صريحة. يضاف إلى ذلك أنهم يعدّون الرواية الحديثة رواية عسيرة القراءة. في حين أنه يكفي التذكير برواية “مئة عام من العزلة” للتدليل على أن الرواية الشخصية والحديثة ليست متحذلقة ولا صعبة القراءة. أظن أنه كان من شأن ماركيز أن يرى في تعريف روايته بأنها “رواية كالروايات” – لو حدث وعرّفها أحد ما بهذه العبارة – خداعاً وامتهاناً لها.
لا تزال أكثرية روائيينا ترى في إضفاء معنى خاص على العالم وفي السعي إلى الرؤية الخاصة الشخصية، سلوكاً وقحاً. من المؤكد أن ثمة نصيباً كبيراً في ذلك، لكون المرء يحيا في مجتمع يفرض عليه أن يخشى أفكاره الشخصية ويخجل منها. إن تركيا بلد يعدّ فيه الاختلاف والفردانية والتمايز، أموراً معيبة جداً، مهما بلغت الرأسمالية فيها من تطور. ما هو مؤلم أكثر، أننا نعيش في بلد يجرّم فيه الخارجون على المجتمع على أيدي الخلاّقين قبل غيرهم. (في كتاب وقعت عليه حديثاً بمحض المصادفة، قرأت عن الهجوم الذي تعرّض له سعيد فائق على أيدي زملائه الكتّاب، قبل سائر الناس، فقط لأن حياته لم تكن تشبه حياتهم!*). قديماً كانت كتابة رواية تتطلّب شجاعة يمكن وصفها بالسياسية، من المؤسف أننا نحتاج الى الشجاعة نفسها اليوم أيضاً. لكننا اليوم في حاجة إلى شجاعة من نوع آخر أيضاً، وأرى أنها أكثر أهمية: إنها شجاعة إنتاج أفكارنا الخاصة، والإيمان بها… علينا أن نبحث عن الطرق المؤدية إلى فهم أنفسنا، من غير أن نخشى أي شيء، وكشف ما نفهمه على الملأ من غير تهيّب… ليست هذه مشكلة الروائيين وحدهم، بل مشكلة جميع الناس كما يبدو لي. وأعتقد أنه عندما يتم حل هذه المشكلة إلى درجة معينة، فسوف يتفاخر روائيونا، لا بشبه رواياتهم بالروايات الأخرى أو بالرواية عموماً، بل بعدم تشابهها معها ¶
* يريد باموق التلميح إلى المثلية الجنسية لدى الشاعر والقاص سعيد فائق.
* نشر باموق هذه المقالة ضمن كتابه “الألوان الأخرى” الصادر في عام 1999، وإن كانت كتابتها تعود إلى زمن أسبق.
(ترجمة بكر صدقي)
النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى