مسرحية الدون كيشوت: إدانة للمثقف بوصفه مخادعاً
مايا جاموس
بإسقاط معاصر ولهجة محلية، قُدم عرض الدون كيشوت على خشبة المسرح الدائري في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق.
يبدأ العرض برثاء سانشو وندمه على قتيلٍ قتله، لكنه يحيا ويقدِّم خطاب الدون كيشوت التقليدي بالفصحى حول الفروسية والصراع الذي يجب أن يخوضه الفارس ضد الطغاة ولنصرة المظلومين في كل مكان من العالم، ويتجسّد هذا الصراع عبر البحث لإنقاذ صبية لا يعرفها ويكتفي بالتبرير أنه شمّ رائحتها، ثم تتجسّد لاحقاً في حلم يتحدث معه حول استحالة تحقق هذا الحلم، وأن الفارس مجرد حالم لا علاقة له بالواقع.
تبدأ الرحلة عندما يقنع الدون كيشوت سانشو الساذجَ بفكرة أن يرافقه ليدافع عن حقوق الناس المظلومين ويحررهم من الطغاة ويقوم بتغيير العالم. وستكون مكافأة سانشو أن يستلم منصب ملك (أي أنه سيحصل على سلطة)، وسينتقل نحو حياة أفضل يستبدل فيها زوجته بجوارٍ وأملاك وقصور… تسير الحكاية وفق مخطط رواية سرفانتس الشهيرة، إذ يبدأ الدونكيشوت بغزوة وهمية تتجلى بركوبه فرساً (أرجوحة تتدلى من سقف المسرح)، في دلالة واضحة على مراوحته في المكان وفقدانه لجذوره على الأرض، وانطلاقه من فكرة في السماء (حلم)، ويقوم بتأدية هذه الغزوة ضمن طقس احتفالي يشترك فيه الممثلون والرواة والموسيقيون في خلفية الخشبة، الجميع يهلل ويصفق للدون كيشوت وهو يطير في سماء المسرح بين الجمهور مردداً عبارات حماسية. يخوض أولى معاركه الوهمية ضد طواحين الهواء، وهنا يبدأ الفراق بينه وبين سانشو الذي يدرك أنها طواحين هواء، في حين يصرّ الدون كيشوت على أنها مردة يرمزون إلى الشرور في العالم، وعندما يختلفان في النقاش يقوم بصفع سانشو ويقول له: أنتَ لا تفقه شيئاً، أنتَ سانشو، في دلالة مباشرة لاحتقاره الداخلي له وعدم إيمانه به، ويقتحم المعركة وحيداً ويُهزم. يتلو ذلك مشهدٌ كوميدي حول رثاء الدون كيشوت الميت يشترك فيه سانشو والممثلون والجميع ضمن كوميديا، يشترك فيها أخيراً الدون كيشوت عندما يصحو. تستمر الرحلة ويتعمّق التناقض بين سانشو وسيّده. الدون كيشوت يبدو حالماً وفاقداً الأمل في بعض اللحظات بحلمه ويتجسد ذلك عندما تخاطبه حبيبته وتشرح له استحالة أن تكون حقيقةً، وتخبره أنها تطمح إلى عشق عادي وأن تكون محبوبة عادية دون أوهامه.
المعركة الثانية كانت مع أبناء الحي (المعارف والأصحاب) أو كما قال سانشو لسيّده (ناس نعرفهم)، لكنّ الدون كيشوت يصرّ على أذيّة مَن حولَه، وهنا يتعرّض لهزيمة إذ يخوض معركته وحيداً أيضاً، من خلال مشهد كوميدي يتمثل بعراضات شعبية يشترك فيه شخص يخرج من بين الجمهور. والدون كيشوت يصرخ ضد الجميع وفيهم الموسيقيون، عبر حل إخراجي لافت إذ يُنصب ما يشبه أسلاك الكهرباء تحمل قطعاً تتحول بالإضاءة إلى سهام مضيئة يتبادلها الدون كيشوت مع الناس، وبضمنهم الجمهور أنفسهم في مسرح المعهد الدائري، والذين يتحولون بالإضاءة إلى أشباح (أعداء للدون كيشوت) مستهدفين من قبله.
يُختتم العرض بمشهد يرتدي فيه سانشو رداء الدون كيشوت ويقدم نفسه على أنه الدون كيشوت، ويدخل في صراع مع سيّده ينافسه فيه على أحقّية الحلم، ويذكر فيه أنه قد استيقظ وقرف أوهام سيّده الكاذبة وخداعه له وللناس، ولن يكون تابعاً له، وسيقوم بتطهير العالم من الدون كيشوت وأمثاله. يتحدث سانشو هنا باسم الناس جميعاً لا باسمه الشخصي فقط، لينتهي الأمر به إلى قتل سيّده.
في هذا العرض يتحوّل التناقض من تناقضٍ بين قيم الفروسية النبيلة، والمجتمع الذي يخوض تحوّلات يبرز فيها الطغيان كسمة أساسية. إذ يتجلى صراع الدون كيشوت بصراع ضد الطاغية، لينتقل هنا إلى صراع بين المثقفين والناس البسطاء الذين لا يعانون الظلم أو الطغاة (كما يقدم العرض)، ولتقدم المسرحية إدانةً شديدة للمثقفين، إذ يظهرهم أشخاصاً معزولين عن المجتمع مغامرين مُورِّطين للناس وكذّابين ومخادعين ومتاجرين بالأوهام، ومؤذين للناس. ويبرّئ العرض ضمناً الطغاة، إذ إن مشكلة المجتمع تكمن في هؤلاء المثقفين الذين يتاجرون أيضاً بالأخلاق والشعارات حين يشجع الدون كيشوت سانشو على طلاق زوجته ويعده بالجواري. وهنا يكمن التساؤل: هل المثقفون حقاً هم سبب بلاء المجتمع بسبب خداعهم للبسطاء واستغلالهم لهم؟ وهل هذا العالم فعلاً دون طغاة أو استبداد؟ وما يتحدث عنه الدون كيشوت من معارك الحرية هو محض وهم من خياله؟ أليس هذا الطرح نوعاً من التعمية، أم هو جَلد للذات في أحسن الأحوال، على اعتبار أن فريق العمل من النخب الثقافية؟ وفي هذه الحال أين يمكن تصنيف كل الجهود المسرحية وبضمنها هذا العمل نفسه ورواية سرفانتس؟
يمكن القول إن فريق العمل قدّم لنا عرضاً جميلاً ممتعاً لافتاً للنظر من حيث الإخراج والأداء ومجمل العناصر، تميزت بعض المشاهد والحلول الإخراجية مثل الفرس- الأرجوحة المدلاة من السقف أو مشهد محاربة طواحين الهواء التي جُسِّدت في العرض براقصي مولوية بأردية ملونة ومضاءة بأضواء صغيرة، وحتى مشهد المعركة مع أهل الحي (إطلاق السهام صوب الجمهور)، هي حلول إخراجية تنسجم كثيراً مع الرؤية الدرامية (وجهة نظر العرض) للدون كيشوت السوري المعاصر. ومن العناصر اللافتة كانت السينوغرافيا إذ شكّلت خشبات العرض المتعددة الضيقة مكاناً يشبه خشبات عروض الأزياء (أي مكاناً للمسرحة أو اللعب- العرض) وفي الوقت نفسه توحي بالوقوع في الهاوية في أية لحظة، وهي أيضاً منسجمة مع توجه العرض لإدانة الدون كيشوت. يتكامل مع تلك الخشبات الجمهورُ المحيط بالعرض من كل جهة، جمهور مقحم في اللعبة إذ يجلس قسم منه في حيز التمثيل، وأيضاً الموسيقيون في خلفية الخشبة، وهنا كانت الموسيقا جميلة ممتعة لعبت دوراً درامياً أيضاً، استُخدمت فيها آلات كهربائية ونفخية وإيقاعية، مع حضور موسيقا تراثية أحياناً عبر المواويل واقتباسات من موسيقا عالمية.
كان أداء شخصيتي سانشو والدون كيشوت بشكل خاص متقناً، وقد قدّم نموذجاً تهكمياً لشخصية المثقف الحالم الواهم البليد السمج. وحتى الأزياء غير المتكلّفة مزجت بين القصة التقليدية للدون كيشوت وبين توجّه العرض المعاصر، وكانت أحياناً ذات بعد درامي، إذ إن ثوب الصبيّة الأبيض هو نفسه (القماش نفسه) وشاح الدون كيشوت الذي بدأت المسرحية والدون كيشوت مكفَّن به، إنه يرمز إلى الحلم الميت، والمستحيل، وحين تخلعه الصبيّة نجد تحته رداءً أسود، مع ذلك يصرّ الدون كيشوت على إعادة الثوب الأبيض إليها حتى وإن كان مقصوصاً مشوّهاً.
عرض الدون كيشوت لفرقة كون المسرحية، إعداد كفاح الخوص، سينوغرافيا وإخراج أسامة حلال، تمثيل معن عبد الحق، جلال الطويل، لينا أحمد، شادي علي، محمد شباط، إعداد وتأليف موسيقي خالد عمران.
خاص – صفحات سورية –