رجال المال “الفقراء” والثقافة
أبي حسن
سبق أن توجّه أحد المستثمرين اللبنانيين بدعوة للأديب ميخائيل نعيمة, آملاً حضوره حفل افتتاح مطعم كان قد بناه في منطقة سياحية في لبنان. وكي يضمن ذلك المستثمر استثماره للأدب والفن إلى أبعد أحد ممكن, كان أن وجّه الدعوة ذاتها للمطربة الراحلة نور الهدى, وكانت في بداية مشوارها الفني. اعتذر الأديب نعيمة عن قبول الدعوة, كونه شعر أنها تدخل في إطار تسليعه, أو تسليع شرف المهنة في الحد الأدنى. ويذكر في إحدى رسائله إلى صديقه في الرابطة القلميّة اسكندر معلوف, بلغة استنكار: “تصور أن أخاك ميخائيل يحضر حفلاً هكذا؟!”.
ويروي المُربي إبراهيم كيلاني, حادثة طريفة وقعت بين الأديب الراحل محمد كرد علي, وأحد المتنفذين الذين حاولوا فرض أنفسهم عليه, بغية قبولهم في المجمع العلمي العربي. وقد كانت واسطة ذلك المتنفّذ, أحد وزراء سوريا حينذاك. فما كان من كرد علي إلا أن طرد المتنفّذ, من بعد أن أسمعه عبارات نابية وقاسية بحقه وحق رئيس وزراء البلاد, ناعتاً الأخير بالجاهل الذي يتطاول على أهل الفضل والعلم!.
طبعاً, وان كان من باب الجنون توقع حدوث مواقف مشابهة لتلك في راهننا, غير أنه ليس من الصعب معرفة الأسباب التي مكّنت اثنين من فحول الأدب في القرن العشرين, أعني نعيمة وكرد علي, من اتخاذ مواقف تنسجم وبعض طبيعة الأدب(وحتى الأديب) وفقاً لقناعاتهم وتصوراتهم باعتباره رسالة ساميّة. قد تكون من جملة هاتيك الأسباب: إن مهنة الأدب والتأليف كانت, إضافة إلى سلطتها المعنويّة(النابعة –ربما- من قلّة عدد الكتّاب, وسعة اطلاعهم, سابقاً), مصدر دخل مهم للمتفرّغ لها, ما جعل الكاتب يعيش حياة معقولة ولائقة وفقاً لمتطلبات ذلك الزمان. وللتدليل على صحة قولنا, نذكر أن مؤلّف رواية “سيد قريش” الراحل معروف الارناؤط, قد استطاع بناء “دارة سيد قريش” المعروفة في دمشق, من مبيعات تلك الرواية فحسب!. وقد نشر المذكور راويته تلك عام 1929.
ما يعنيني قوله, إن الاستقلال المادي للكاتب الذي وفرّه له قلمه, كان من شأنه أن جعل هذا الكاتب أو ذاك حرّاً في مواقفه وخياراته, لذا لم يخطر ببال أحدهم المتاجرة بالقلم أو الموقف. ناهيك عن كون رجال المال لم يكونوا قد تعدوا على المهنة بعد!, باعتبارها ترضي غرور بعضهم, وقد تكون نوعاً من “البرستيج” لبعضهم الآخر.
من الطبيعي, إن الصورة الآن قد تغيرت, فالقلم الحرّ لم يعد يُطعم خبزاً, والأدب مهما ارتقى لا يفي بثمن مازوت الشتاء ولا يغني عنه. والكتّاب (مهما بلغت قاماتهم) يكادون يفقدون سلطتهم المعنويّة في المجتمع لصالح الممثلين والمغنيين وكل ما من شأنه المساهمة في تسطيح المجتمع وأبنائه. نعطف على ما سبق أن عدد الكتّاب زاد قبالة تراجع مهول في أعداد القرّاء. وإمكانيّات الكثير من الكتّاب اضمحلت, وإن ظهر عدد لا بأس به من المتخصصين والأكاديميين الناجحين في حقولهم. ويمكن القول, إن الكتابة تكاد تصبح مهنة من لا مهنة له.
كان من شأن الظروف غير السويّة, التي يعيش في ظلها جلّ كتّابنا, أن فتحت باب المتاجرة على مصراعيه, فبتنا نسمع بتجارة المواقف وتدبيج المقالات بما يخدّم هذه الفئة أو تلك؟ ألم يسبق لغسان كنفاني وعبد الهادي البكّار أن لفقا كذبة زيارة كوهين إلى الجبهة السوريّة 1964, بما من شأنه الإساءة للنظام السوري سنتذاك على أكثر من صعيد(البكّار من كتب الحادثة في أكثر من مكان, وقد استشهد فيها الرئيس السوري الأسبق أمين الحافظ على قناة الجزيرة”شاهد على العصر” عام 2002, وكذلك استشهد فيها الأستاذ مروان حبش في إحدى مقالاته على صفحات “كلنا شركاء” منذ فترة ليست بعيدة)؟. ولو يتسع المقام لتحدثنا عن المتاجرات بالمواقف والتمسّح بالمبادئ لكل من سعيد فريحة مؤسس دار الصياد, وسليم اللوزي صاحب مجلة الحوادث في لبنان. وعلى الصعيد الشخصي أعرف متموّلاً, لديه عشرات الكتب باسمه(بعض كتبه تعتبر مراجع تاريخية هامة), يكتبها بالنيابة عنه كتّاب ضاقت بهم سبل الحياة. ولعل الكثيرين في وسطنا الثقافي يسمعون بما يُحكى ويُشاع عن الكتب التي وضعها العماد أوّل السيد مصطفى طلاس نفعنا الله بواسع “علمه”, ولم توفّر الشائعات ذاتها أسماء كتّاب وكاتبات “كبار” ساهموا في وضعها. والشائعات ذاتها تطال روايات محمد إبراهيم العلي, القائد الأسبق للجيش الشعبي.
ولم تعد الكتابة فقط مهنة من لا مهنة له, بل بتنا نشهد عدداً من أصحاب رؤوس الأموال قد دخلوا على الخط, ربما من باب الوجاهة أيضاً!. ورجال الأعمال هؤلاء, لم يكتفوا فقط بالأدب! فالصحافة بأنواعها لم تسلم منهم ومن “مواهبهم”, وكذلك دور النشر والإنتاج الفني… الخ.
ولوج بعض رجال الأعمال عالم الكتابة والتأليف, أخذ أكثر من وجه, فمنهم من اكتفى برعايات متباعدة لأعمال بعض الكتّاب بغية تسويقها, وذلك من باب العلاقات العامة لشركة هذا المتموّل أو ذاك, وحقيقة يشكرون على هذا الموقف, وان كانت غاياته دعائية بالنسبة لهم, مع العلم أنهم لا يقرأون حتى لمن يسوّقون له!.
ومنهم من ولج الباب من خلال إصداره لعدد من الصحف والمجلات. وليس سرّاً أن تلك الطبقة من الناس هي وحدها(إضافة إلى الأحزاب والمؤسسات الرسمية) من تقدر على إصدار مطبوعة وتمويلها, وكان من شأن ذلك كله أن استُرخص نتاج الكثير من كتّابنا(والاسترخاص[1] هنا يتحمّل أسبابه الطرفان), فباتوا لقمة سائغة في أفواه أولئك المتمولين الذين نشكّ في إعجاب أحدهم بالفكر والثقافة. وإلا كيف لنا أن نفسّر أن يفكّر عدد من الكتّاب برفع دعوى قضائية ضد السيد نبيل طعمة(وللعلم هو كاتب كبير, وموهوب جدا, وأعماله ذائعة الصيت, يكاد لا يضاهيها شهرة وقيمة معرفيّة سوى أعمال الشاعر الألمعي والأديب المجلي مصطفى طلاس!), فكما ذكر موقع “المنبر العربي” بتاريخ 17/11/2009 أن مجموعة من الكتاب والصحفيين تستعد لرفع “دعوى قضائية ضد رجل الأعمال السوري نبيل طعمة صاحب مجلة الأزمنة على خلفية عدم سداد مستحقاتهم المالية وتعويضات أجور الاستكتاب لمواد تم نشرها وأخرى وُعد بنشرها”.
ليس نبيل طعمة استثناء, فقصة السيد أكرم الجندي, ما تزال هي الأخرى حديثة العهد, وبحسب حدود علمنا أن بعض الزملاء, ما يزال لهم في ذمته مبالغ ماليّة لم يقم بتسديدها(قد يكون الرجل معذوراً, فرفاهية أبنائه, من خلال اقتنائهم أحدث أنواع السيارات من أموال القرض المعروف والذي أثار الشبهات, أهم بكثير من تسديد حقوق أولئك “المرتزقة”).
ليس بعيداً, عما سلف, حدث لصديق لنا, العام الجاري, أن بقيّ له مستحقات ماليّة في ذمة دار نشر معروفة و”محترمة” عمل فيها طوال سنوات بصفة مخرج فني, والدار تخصّ أحد المتمولين الكبار. وعندما كان يراجع مدير الدار وهو مثقف معتبر مع الأسف, كان يتمنّع الأخير عن الاعتراف بأية حقوق ماديّة له, فكان أن لجأ إلى صاحب الدار عن طريق صديق مشترك بينهما, فوافق المتمول دفع هاتيك المستحقات على مضض, وعلى ثلاث دفعات, علماً أن المبلغ المتبقي لصديقي لم يكن يتجاوز الثمانين ألف ليرة! أي ما يمكن أن يصرفه ابن أو حفيد أي متموّل في سهرة واحدة, من دون وجود غانية!.
أخيراً: ماذا كان سيفعل محمد كرد علي أو ميخائيل نعيمة لو كانا في زماننا البائس هذا؟. الله أعلم!.
[1]- من المؤكد أن للسلطات السياسية, في بلدان العالم الثالث ومنها سوريا, دوراً في نشوء ظاهرة الاسترخاص. فمثلاً, سبق أن قال وزير الإعلام السوري الأسبق أحمد اسكندر, لبعض المثقفين السوريين المتمردين على النظام: “لا تريدوا العمل معنا؟!.. حسناً, يمكننا أن نصنع مثقفين خاصين بنا”, وكان له ذلك.
كلنا شركاء