هكذا تحدّث فانون
صبحي حديدي
يوم أمس، السادس من كانون الأوّل (ديسمبر)، تكون 48 سنة قد انقضت على رحيل الطبيب والمفكّر والمناضل المارتينيكي فرانز فانون؛ وهي، في الآن ذاته، السنة التي شهدت ولادة ذلك النصّ الفريد الذي كتبه الفيلسوف الفرنسي الوجودي الشهير جان ـ بول سارتر في تقديم كتاب فانون الأبرز ‘معذّبو الأرض’. وثمة، في المناسبتين، دلالات خاصة حول ما تشهده فرنسا هذه الأيام من سجالات حول مفهوم ‘الهوية الوطنية’.
والمرء، بادىء ذي بدء، لا يقاوم إغراء التفكير في مقدّمة سارتر على هذا النحو: لو أنها لم تُكتب سنة 1961، هل كان لها أن تُكتب بعدئذ، على يد أمثال ميشيل فوكو (أحد أبرز شرّاح العلاقة بين الخطاب والسلطة)، أو جان بودريار (فيلسوف ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية)، أو حتى جيل دولوز (أحد أعمق، وأخطر فلاسفة فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين)؟ واستطراداً: هل تغيّر المشهد الفكري الفرنسي، بمعنى أنه تراجع أو انحدر عن تلك الحقبة التي أتاحت لمثقف مثل سارتر أن يكتب تلك المقدّمة؛ أم أنّ الزمن، المتبدّل المتحوّل المتقلّب، طوى أمثولة فانون ذاتها، في قليل أو كثير؟
فلنقرأ هذه الفقرة من المقدّمة: ‘النُخَب الأوروبية عكفت على تصنيع نخب بلدية. لقد انتقوا بضعة فتيان واعدين، فشذّبوهم وهذّبوهم وطرقوهم، كما نفعل بقطعة الحديد الحامية، ثم أشبعوهم بمبادىء الثقافة الأوروبية، وحشوا أفواههم بعبارات صائتة، وبكلمات ذات تراكيب معقدة تكاد تعلق بين الأسنان. وبعد إقامة قصيرة في كنف الأمّ الأوروبية، أُعيدوا إلى بلدانهم وقد تمّ تبييضهم. هؤلاء، الأشبه بأكاذيب سائرة على قدمين، لم يعد لديهم ما يقولونه لإخوتهم، إذْ لم يعد في وسعهم غير ترديد الصدى (…) ذلك كان العصر الذهبي. ولكنه انتهى. الأفواه تنفتح اليوم بمحض إرادتها، والأصوات السوداء والصفراء ما تزال تتحدث عن إنسيّتنا، ولكن لكي تؤنبنا على انعدام حسّنا بالإنسانية’…
الأرجح أنّ هذه النبرة لم تكن تستوحي كتابات فانون فحسب، بل كذلك سيرة حياته الشخصية والفكرية والكفاحية، التي ستجعل منه مناضلاً ضدّ الإستعمار الكلاسيكي والحديث، ورمزاً للصوت الآخر الذي اعتبر سارتر أنه كفّ عن ترديد الصدى. لقد وُلد في فور دو فرانس، جزر المارتينيك، سنة 1925، وخدم خلال الحرب العالمية الثانية في ‘جيش فرنسا الحرّة’، قبل أن يلتحق بالمدرسة الطبية في مدينة ليون، ويتخصص في الطبّ النفسي. هذه هي الفترة التي ستشهد مسوّدات كتابه الهامّ الأوّل ‘بشرة سوداء، أقنعة بيضاء’، 1952، وتعيينه رئيساً لقسم الطبّ النفسي في مشفى بليدة ـ جوانفيل في الجزائر، حيث انخرط منذئذ في صفوف المطالبين باستقلال البلد عن فرنسا.
وتجربته تلك انطوت على ازدواجية حادة في علاج الجلاّد وعلاج الضحية، بيد أنها كانت حاسمة لجهة تحويل النظام العامّ لأفكار فانون، من ثنائية الأسود/الأبيض إلى ثنائية المستعمِر/المستعمَر، وكان من الطبيعي أن تتضح أكثر شخصية فانون المؤدلَج، الذي لم يعد يُعنى بالاعتلال النفسي الناجم عن سيرورات الإستعمار، بقدر تشديده على ‘الطاقة الإبداعية للثورة’. وفي عام 1965 لم يعد في وسعه أن يواصل المزيد من الإزدواجية، فاستقال من عمله، وانضمّ رسمياً إلى ‘جبهة التحرير الوطني’ الجزائرية، مؤكداً في رسالة الإستقالة على انعدام التوافق بين المهمة الإستعمارية والممارسة الطبية الأخلاقية. بعد ذلك غادر سرّاً إلى تونس، وعمل طبيباً في مشفى منوبة، ومحرراً في صحيفة ‘المجاهد’ الناطقة باسم الجبهة، كما تولى مهمات تنظيمية مباشرة، وأخرى دبلوماسية وعسكرية ذات حساسية فائقة.
وأثناء عمله سفيراً للحكومة الجزائرية المؤقتة في أكرا (غانا)، لعب فانون دوراً حيوياً في التنسيق المباشر مع كبار الزعماء الأفارقة آنذاك، من أمثال باتريس لومومبا وكوامي نكروما. وأثناء إقامته في أكرا أصيب فانون بمرض اللوكيميا، ونصحه الأطباء بالخلود إلى الراحة. لكنه دخل في سباق محموم مع الزمن لإنجاز مسوّدات كتابه الهامّ الثاني ‘معذبو الأرض’، حتى فرغ منه خلال عشرة أشهر، وعهد به إلى سارتر، الذي كتب مقدمته ودفعه إلى الطبع.
وتلك السنة الأخيرة بدت أشبه بمحاولة يائسة لمسح جغرافية العالم، تنقيباً ربما عن آخر الآثار الكفيلة بكشف المزيد من أواليات القهر. عاد فانون إلى تونس لكي ‘يرتاح’، ولكنه سافر إلى موسكو (وسط آمال عبثية بالعثور على علاج ما، ولكن أيضاً لاختبار ما تبقى في الكرملين من ‘رغبات’ في دعم حركات التحرر)، ثمّ قصد روما ليلتقي بتراث يساري إيطالي سحره طويلاً وظلّ مغلقاً أمامه، إلى أن ألقى عصا الترحال في مشفى المعهد الصحي القومي في ماريلاند بالولايات المتحدة، حيث توفي.
‘دعونا لا نضيّع المزيد من الوقت في ابتهالات عقيمة أو محاكاة باعثة على الغثيان. دَعوا أوروبا هذه حيث هي، لا تكفّ عن حديثها عن الإنسان، ولكنها تذبح الناس أينما ثقفتهم، في زوايا شوارعها، وفي زوايا شوارع العالم. هي أوروبا… التي خنقت الإنسانية بأسرها طيلة قرون، تحت ذريعة ما تسمّيه التجربة الروحية’. هكذا تحدّث فانون قبل 48 سنة، فهل تغيّرت الحال كثيراً، في أيامنا هذه؟
خاص – صفحات سورية –