صفحات ثقافية

خالد خليفة: أن تكون كاتباً… أو لا تكون

null
إيمان الجابر
عندما سألهم الأستاذ: «ماذا تريدون أن تصبحوا في المستقبل؟» كان خالد خليفة الوحيد بين تلامذة صفه الذي لم يعرف الإجابة. تأخرت إجابة صاحب «مديح الكراهية» حتّى أواخر العشرينيات من عمره، عندما حسم خياره وقرَّر أنَّه لن يكون إلَّا كاتباً. إجابة حفرت طريقها إلى وعيه ببطء. منذ كان طالباً في المرحلة الثانويّة، نُشرت له مجموعة من القصائد في جريدة «الثورة»، ووقف على منبر «جامعة حلب» في «ملتقى الشعر» ـــــ الحدث الثقافي الأبرز في حينه ـــــ ليُلقي قصائده. بعد سنوات من تعاطي الشعر، أدرك أنَّ كتابة القصيدة لم تكن إلا تمارين على كتابة الراوية.

اختار دراسة الحقوق «للحصول على وقت كي أقرأ، وأكتب، وأستمتع بحريتي، ولا أطالَب بالعمل من أهلي، وبذلك أملك عذراً للحصول على مصروفي وثمن دخاني منهم»، يُسرّ إلينا. أنجز روايته الأولى في السنة الجامعية الثالثة، لكنّها «ذهبت إلى سلة المهملات بعد الانتهاء منها. صوتي فيها كان مستعاراً من الآخرين». استغرقت رحلة البحث عن صوته سنوات من التجريب والكتابة والرمي في المهملات، إلى أن عثر خالد خليفة على ضالَّته في رواية «حارس الخديعة» عام 1990.
بعد إنهاء خدمته العسكرية في دمشق عام 1991، وجد نفسه أمام خيارين: إمّا البقاء في دمشق والعمل في الصحافة التي لن يكسب منها «سوى قروش قليلة، والكثير من الكراهية والعداوات»، وإمّا العودة إلى منزل العائلة في حلب. اختار الثاني، وجرّب في مسقط رأسه مهناً عدّة، قبل التفرغ نهائياً للكتابة، راضياً بعطايا الأهل القليلة، ونظراتهم المتهمة له بأنه «عاطل» من العمل. «لم أكن أرغب بممارسة أي عمل بعيداً عن الكتابة. لقد اتضح كلّ شيء بالنسبة إليّ: إما أن أكون كاتباً أو أنتحر». مزق أوراق انتسابه إلى «نقابة المحامين» أمام بابها ونثرها في الهواء وراح يخطّ مصيره إلى الأبد.
هكذا، عزل نفسه عن العالم خمس سنوات، وخلال ثلاثة منها لم يخرج من غرفته إلا للضرورة القصوى. ترافقت هذه العزلة الاختيارية مع ضغط مستمر من الأسرة للعمل في مجال المحاماة أو القضاء. «لم يشجعني أحد على الكتابة، بل كان محيطي يسعى إلى تكسير أحلامي وثقتي بنفسي»، يخبرنا. ذات يوم قرر صاحب «زمن الخوف» الخروج من غرفته ومعه ثلاثة مسلسلات تلفزيونيّة («سيرة آل الجلالي»، و«الوردة الأخيرة»، و«أحوال الرجل الصغير»)، ورواية («دفاتر القرباط»)، وألم في قلبه، إضافةً إلى فصول من رواية «مديح الكراهية» رُميت في المهملات وعاود صاحبها كتابتها لاحقاً، ومشاريع مسلسلات وأفلام سينمائية بعضها ما زال حتى الآن ينتظر الكتابة.
من هنا كانت البداية. بداية الحياة التي أرادها وناضل لأجلها. «الكتابة جزء من الحياة، ولاحقاً تصبح هي الحياة»… ولممارسة الكتابة/ الحياة، كان لا بد من الخروج من حلب بأمر من طبيب القلب الذي أنذره بجلطة أكيدة، إن لم يغادر هذا المكان. «كل شيء كان معادياً لي: الهواء والناس والأهل والأصدقاء، حتى الروائح». يتابع وهو يغالب شوقاً دفيناً: «كلَّما زرت حلب، أشعر بالحزن على هذه المدينة العريقة وهي تزداد عنفاً وانغلاقاً على مجموعة من الأفكار الأصولية. حب دمشق لم ينهِ حب حلب في قلبي». من مدينته، حمل خالد خليفة حكاية جيل شَهِد الخراب والعنف، ليرويها في «مديح الكراهية» التي رُشّحت «لجائزة بوكر العربيّة» عام 2007.
في عائلته الكبيرة، كان خالد الابن الحادي عشر بين ست بنات وتسعة صبيان، تشاركت في إنجابهم امرأتان لم يكن خالد يفرِّق بينهما. «أمي وأمي الثانية صنعتا عالمي الأنثوي الجميل»، يقول. أمّا جدته لأمه الشيخة مريم المتصوفة، الرمز الديني الكبير في قرية مريمين (شمالي حلب)، فتركت الأثر الأكبر في حياته. «كنت أرى رجالاً أقوياء ونساءً وأطفالاً يقبِّلون يدها تبركاً وهي تكتفي بالصمت وابتسامتها لم تفارقها. كانت تؤوي كل المشردين، وشخصيتها نبع لا ينضب لعالمي الروائي. أم مسعود في «دفاتر القرباط» فيها شيء منها». لقد علَّمت هذه الجدة خالد أن يكون متسامحاً ومقدّراً على نحو خاص لحرية الخطأ. حريّة نظّر لها مع رفاقه في مجلة «ألف».
كانت لوالده صيغة مختلفة في التواصل مع أبنائه. «العطاء على قدر الولاء»، هكذا كانت العلاقة مع الأب، المزارع والوريث لملّاك أراضٍ كبير، إضافة إلى عمله السابق دركياً. ويصف خليفة والده بأنَّه تاجر ينشد الخسارة. «لم أكن معجباً بوالدي. العلاقة معه كانت تمريناً في القدرة على رفض المكاسب مقابل الولاء». آمن خالد خليفة بأنَّه لا يمكن أن يعيش ما يكتبه خارج التمرد. من هنا، نبع قلقه الدائم في البحث عن قيم العدالة والجمال والحق في أعماله. أما طفولته فتوزعت بين قرية مريمين التي تنتقل إليها العائلة في الصيف للعناية بأشجار الزيتون، وحلب في الشتاء. «كنا نسكن في حي الهلك الذي كان مرتعاً حقيقياً لليسار، يقطنه الأكراد والتركمان والأرمن والقرباط والفلاحون الآتون إلى المدينة بحثاً عن حياة جديدة»، يتذكّر.
في دمشق، جمعه «الحظّ» بهيثم حقي، ونشأت بينهما صداقة متينة، تكلَّلت بمسلسل «سيرة آل الجلالي» (1999). حصد خليفة النجاح المهني والمادي. وقبل كل شيء، أثبت للأهل والأصدقاء ولنفسه أنّه قادر على تحقيق حلمه. ««سيرة آل الجلالي» أنقذ حياتي وحررني من تهمة المثقف الكسول. خرجت من حالتي المادية القلقة، إلى قلق إبداعي أكثر استرخاءً». لكن الفرحة لم تكتمل، إذ توفيت والدته قبل بثّ الحلقة الأولى من العمل الدرامي الشهير. يخبرنا وقد علت ملامح الحسرة وجهه المبتسم دائماً: «كان يوم وفاة أمي الأقسى في حياتي. رأت اسمي على الشاشة في الحلقة الأولى في المستشفى، ودخلت في غيبوبة لم تعد منها، كأنها أجّلت موتها حتّى اطمأنت إليّ».
الاخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى