السوريون و مئة عام من الإصلاح السياسي 1909 – 2009
زينة الحسن
كان الدستور و ما زال عنوانا لقيام دولة وطنية ما (كيان سياسي ) ، كما الدستور السوري الأول 1920
أو لشرعنة سلطات غير شرعية ، فرضها بسطار عسكري ، كلما حدث انقلاب عسكري في بلد ما . كذلك قد تكون الدساتير عنوانا لإصلاح كيان سياسي قائم نخرته ممارسات قيادة مستبدة حتى وصل حد الانهيار ، فصارت أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الإصلاح أو الانهيار.
تقوم بالإصلاح إرادة سياسية مختارة أو مضطرة، كما القانون الأساسي (الدستور) في السلطنة العثمانية لعام 1876، و إلغاؤه بعد عام في نكوص غبي مألوف لكل تسلط و استبداد، مؤجلة انهيارها إلى العام 1908 وتطبيقه جبرا 1909، بعد محاولة نكوص أخرى.
على أساسه انطلقت عملية إصلاح سياسي واسعة النطاق في كافة أنحاء السلطنة، و من ضمنها ولاية سوريا. وعت النخب السورية منذ كانت نخبا عثمانية مصيرية الإصلاح السياسي، فانخرطت بداية في الجمعيات الإصلاحية العثمانية، وكان منهم أعضاء بارزون في جمعية الإتحاد والترقي التي كان مطلبها الأساسي الدستور، مدركين أن أي إصلاح لا يبدأ بالإصلاح السياسي وتحديدا الدستوري، هو عبث لا طائل منه ، يمكن التراجع عنه في أية لحظة .
بتوفر الإرادة السياسية مهما كانت أسبابها، كان الإصلاح عملية سهلة بسيطة و سريعة. ففي 10 تموز 1908 أعلن السلطان عبد الحميد إعادة العمل بالدستور مع الدعوة لانتخاب مجلس المبعوثان.
في 14 منه صدر عفو عن جميع المعتقلين السياسيين وغيرهم . أما في 16 منه فقد صدر القرار الأهم من قبل مجلس الوكلاء ( الوزراء ) بإلغاء منظمة الخفية وتعليله ” أنها كانت السبب في سوء التفاهم بين السلطنة و “الملة ” ( الملة تعني الأمة و الخفية تعني المخابرات )؛ من المفهوم أن حل المنظمة لم يعن إلغاءها بل إصلاحها وكف يدها عن التسلط على الناس، فكان لها أن تراقب وتسجل دون أن تتدخل خارج القرار السياسي الحكومي.
كما ألحق بذلك قرار بإلغاء المحاكم الاستثنائية. في 18 تموز كان اليوم الأهم الذي أعلن نهائية القرارات السابقة، بإصدار الخط الهمايوني بإعادة العمل بالقانون الأساسي لعام 1876 معدلا ب 13 مادة منه. أهمها ما يتعلق بصلاحيات السلطان وبعلاقته بالمجلس العمومي. فقد كان يعين ويصرف من الخدمة رئيس الوزراء والوزراء والسفراء والولاة وقادة الجيش، والجميع مسؤول أمامه؛ ويعقد الاتفاقيات كما الحرب والسلم، إضافة لتعيين كافة أعضاء مجلس الأعيان، وحصر شرعية اجتماع المجلس العمومي بدعوته، فهو من يدعوه للانعقاد و ينهي دورته كما يمكن له حله.
قيدت هذه الصلاحيات بتعيين رئيس المجلس ووزير الحربية مع قادة الحربية و البحرية، وصلاحية إعلان الحرب و السلم، مع حق تعيين ثلث أعضاء مجلس الأعيان، و شروط واضحة لحل مجلس المبعوثان . وكذلك عدم عرض المطبوعات على الحكومة قبل صدورها. و ربما الأهم، تحريم إخضاع الموظفين لأية أوامر خلافا للقانون، بحظر مراجعة أي موظف شفهيا أو تحريريا لغير الموظف الأعلى منه مباشرة في الرتبة، كما حرم على أي مرجع كان إعطاء أي أمر شفهي أو خطي لغير الموظف التابع له مباشرة.
في 20 أيلول لنفس العام صدر قانون الانتخابات معتمدا الموطن الانتخابي وجداول الشطب كما سرية الاقتراع، متضمنا العقوبات اللازمة على من يخرقه. استنادا لهذا الدستور و بعد القضاء على محاولة النكوص الأخيرة عنه من قبل السلطان عبد الحميد، صدرت عدة قوانين وسمت الحياة السياسية السورية بطابع من الحريات العامة خلال النصف الأول من القرن العشرين عدا بعض فترات تعليق في مرحلة الانتداب.
بدأ صدورها في 13/8/ 1909 بقانون الجمعيات المشهور بقانون العلم والخبر والذي لا يشترط موافقة الحكومة لقيام الجمعية بل يخضعها للقانون فقط، تلاه قانوني الاجتماع و التجمع ثم تعليمات النقابات والتبرعات وقانون منع النخاسة في البلدان العثمانية.
استقبل السوريون الدستور وقوانينه بفرح مشابه تماما لفرح الأطفال بالعيد، عبر عن ذلك لطفي الحفار في مذكراته في رسالة مطولة لصديقه محب الدين الخطيب جاء فيها “تنظرني في الشوارع أركض و ألعب وأصيح كالمجانين.. فلتحيا الحرية و ليحيا الدستور….أخي ما هذه الحركة القائمة القاعدة؟ ما هذه الأنوار المتلألئة في شوارع دمشق وفي جميع أنحاء سورية ؟ ما هذه الاحتفالات العظيمة وهذه الخطب الرنانة في التجمعات؟ ترى هل أنا في حلم أم أنا في جنون؟ …. أظن أن جميع السوريين في الخارج سيعودون لمتابعة عملهم الصحفي ودعواتهم الإصلاحية …”.
تكرس الوعي بالدستور عميقا في الحياة اليومية للعامة و أصبح مفردة متداولة في لغتهم اليومية. فيقولون دستور عند طلبهم الإذن لعمل ما، وخصوصا عند الدخول لبيت غير بيتهم. استمرت هذه الكلمة متداولة ومألوفة حتى الستينات، و ربما في بعض الأماكن حتى الآن. هذا التكريس للوعي بالدستور لدى السوريين مسألة طبيعية فهم نالوا حرياتهم لأول مرة بقوته. كما عبروا عن إرادتهم بدولة سورية تخصهم أيضا بإعلان دستور (1920)، و كان محور نضالهم من أجل الاستقلال دستور 1928 و رفض التنازل عن المواد السيادية منه.
ترى هل غاب هذا الوعي أم غيب عن السوريين بقوة الطوارئ و المحاكم الاستثنائية؟ أم أنهم يعون أن الدستور الذي يحكم حياتهم متخلف عن دستور 1876، و تسيطر على وعيهم ثقافة الخوف من تسلط منظمات الخفية الحالية على مجريات حياتهم اليومية. يراقبون محاولات الإصلاح المتهربة من الإصلاح السياسي باللامبالاة، بل بالاستياء البالغ والإحباط. لأن كل النخب السورية من خارج النظام و بعضا من داخله تدرك مصيرية الإصلاح السياسي. و موضعه الأساس الدستور. فمتى تنضج الإرادة السياسية له ؟ ؟ ؟
النداء