صفحات ثقافية

المربـع الأسـود

null
حسام عيتاني
التفتت السلطات السوفياتية الى مجال الفنون والآداب في النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي. بعد وفاة لينين، نجحت في التخلص من خطر تروتسكي وقيد الفوز في الصراعات الداخلية لستالين الذي باشر في توسيع نفوذه ورؤاه الى الأطر كافة.
المدرسة الطليعية في الفنون (الافانغارديسم) التي كانت قد تأسست قبل ثورة عام 1919 وازدهرت بعدها على ايدي فنانين كبار من مثل كازيمير ماليفتش وفاسيلي كاندنسكي، نالت حصتها مبكرة من الوصاية السياسية للسلطة. منذ اواسط العشرينيات راح الحزب الشيوعي الحاكم يعتبر ان نزعات فنية مثل التكعيبية والتجريدية والسوريالية التي تنضوي في روسيا في إطار المدرسة الطليعية، تهمل تناول القضايا التي تهم الجماهير وهي، بالتالي، نزعات برجوازية تروج لهموم لا مكان او معنى لها في روسيا السوفياتية التي تبني الاشتراكية. كان المطلوب من جميع الفنانين الروس والسوفيات إيلاء اقصى الاهتمام بنوع من الفكر الغائي الذي يرى ان جميع اشكال الوعي يجب ان تخدم غاية ما، وهذه في التعريف السوفياتي ـ الستاليني ليست سوى انتصار الاشتراكية.
لا مكان، وفق هذه الرؤية، للهموم الفنية المحض التي تشوش على الوعي الطبقي. لا مكان في روسيا السوفياتية، لانشغالات تعيق عملية بناء الاشتراكية بأي ذريعة كانت، فنية او سياسية. شعر كاندنسكي مبكراً بالقضبة الحديدية تضيق الخناق على عمله، فغادر روسيا عام 1921 ولم يعد، وأنتج من منافيه في المانيا وفرنسا العشرات من الاعمال التي غيرت مفاهيم كبرى في عالم الرسم والفنون التشكيلية عموما.
لم يعتبر فنانون آخرون من المدرسة الطليعية ان في السجال الفكري ـ الفني مع السلطات الجديدة خطراً على إبداعهم. بل كانوا ينظرون الى السلطات السوفياتية نظرة ترحيب وإعجاب. انها تتلاقى معهم في سعيهم الى تغيير الواقع والفن، والتطلع الى المستقبل والعمل على بنائه على نحو ثوري. لا مشكلة، في رأيهم، في متابعة العمل في ظل النظام السوفياتي، سواء عبر التعليم في المعاهد او تنظيم المعارض، او حتى المشاركة في وضع ديكورات وتصميم ازياء بعض المسرحيات التي عرضت في تلك الفترة في مسارح موسكو ولينينغراد.
لم يكن هذا تقييم السلطة. كان الحزب يرى ان تقدم عملية بناء الاشتراكية يؤدي حكماً الى تصاعد حدة الصراع الطبقي. استخدمت هذه المقولة في العديد من المجالات لتبرير الإطباق العنيف والدموي على العديد من المؤسسات وعلى المجتمع برمته. والحال ان عقد الثلاثينيات في الاتحاد السوفياتي شهد ذروة الإطباق هذا الذي بلغ اوجه في الاعتقالات والإعدامات الجماعية التي بدأت في ذلك العقد.
بالعودة الى ماليفتش، كان الرسام قد انجز عام 1913، أي قبل اربعة اعوام من اندلاع الثورة البلشفية، لوحة غاية في البساطة: مربع اسود على خلفية يشكلها مربع ابيض. بيد ان البساطة هذه كانت تعلن شيئا آخر. كانت ترمي الى القول، بلسان ماليفتش، ان التجريد يمكن من خلال دفعه الى اقصى حدود التناقض، أي الرقعة السوداء على الخلفية البيضاء، ان يفتحا مجالات جديدة في التفكير والنظر والرؤى الفنية والقيمية. تابع بعد اعوام هذه الفكرة برسم اطلق عليه اسم «ابيض على ابيض» وهي لوحة لا تضم سوى مربع ابيض على خلفية… بيضاء. سعى ماليفتش الى الوصول الى «الدرجة صفر» من الرسم. اللوحة التي لا تقول شيئاً لكنها تحرض على التفكير المتعدد والمخالف للسائد.
لم ترق هذه الخزعبلات للسلطة السوفياتية التي كانت قد تبنت بحلول ذلك الوقت منهجاً محدداً في الفنون والآداب هو الواقعية الاشتراكية. في عالم الرسم، قررت السلطة والحزب ان اللوحة «الجيدة» لا بد ان تتبع الأسلوب التصويري (فيغوراتيف) وأن تعالج مسألة من واقع حياة العمال والفلاحين الذين يبنون الاشتراكية. عليه، جرت مصادرة اعمال ماليفتش وأبلغ بضرورة الامتناع عن الرسم بأسلوبه المرفوض والمعادي، في العمق، للطبقة العاملة ولسلطتها.
كان في وسع الرسام الذي بات من الإسماء المكرسة عالميا ان يهاجر الى أي من العواصم الغربية التي ستستقبله بحفاوة لا تقل عن الحفاوة التي قوبل بها زميله كاندنسكي. قرر ماليفتش ان يأخذ اتجاهاً آخر. رسم لوحة شخصية له، لكنه يظهر فيها مرتدياً زي معلمي الرسم من عصر النهضة، يعتمر بيريه احمر اللون ويرتدي قمصياً عالي الياقة، ويرفع كفه كمن يسأل او يقدم شيئاً. الناظر الى بورتريه ماليفتش الاخير، سيلاحظ من دون عناء الفارق الهائل بينه وبين بورتريه شخصي آخر رسمه قبل اعوام واستخدم فيه الالوان والظلال والخلفية المضطربة المعقدة. لكن في الزاوية السفلية من الرسم الجديد، وحيث اعتاد ان يترك توقيعه، ترك الفنان علامة على تمسكه بموقفه: مربع اسود صغير. تعرض العمل الى العديد من الانتقادات. قال البعض إن المعلم خضع في نهاية المطاف لضغط السلطات واستسلم. وقال آخرون إن اللوحة تمثل وجهة جديدة من تطور رحلة مالفيتش. لكن المربع الأسود الصغير في اسفل اللوحة كان يقول إن الرسام ما زال على قناعاته المعروفة.
تشبه هذه القصة، الى حدود التماهي، قصة غاليليو الذي رضخ في نهاية المطاف للتفسير الكنسي للكون. الارض الثابتة التي تدور حولها الشمس والكواكب والنجوم. قبل غاليليو قرار المحكمة الكنسية بأن يمضي ما
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى