حول أنطولوجيا الشعر السوري / هل انتقل الفيروس إلى عالم الكتاب؟
عبد الله الحامدي
ها أنا أقرأ “أنطولوجيا الشعر السوري” الصادرة عن احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية للعام 2008 بعد شهور من صدورها، وكانت متاحة للقراءة طوال الفترة الماضية، لكنها بصراحة لم تثر فضولي رغم احتمال وجود إحدى قصائدي فيها، وذلك لأسباب عديدة: أولاً لا رغبة لدي بقراءة أي مختارات، منذ “المفضليات” و”الأصمعيات” وصولاً إلى “الشوقي بغداديات”، نسبة إلى شوقي بغدادي الذي تم تكليفه باختيار “ربع القرن الأخير” من الشعر السوري المعاصر في “ربع الساعة الأخير” في مشروع “كتاب في جريدة” مؤخراً بعد اعتذار الشاعر الكبير بندر عبد الحميد عن هذه المهمة .. فإذا كان الأمر يتعلق بالاختيار فإن من حق كل قارئ أن يختار ما يشاء لذائقته، لا ما يختاره له الآخرون، خصوصاً في الشعر الذي يستدعي مزاجاً خاصاً، ثانياً: عوّدتنا المؤسسات الثقافية العربية الرسمية على الطابع الشِّللي في عملها، من أعلى الهرم إلى أسفله، ولأن التزلّف إليها، سواء أكانت اتحاداً أو جمعية أو مولداً أو احتفالية، هو مضيعة للموهبة وقتل للنبل في شخصية الشاعر، فإن النأي أسلم وقد لا يسلم إلا من رحمه ربي، وهذا يقودنا إلى “ثالثاً” وهو: اعتقادي أن الأنطولوجيات تخص الأموات أكثر مما تخص الأحياء، والشاعر ينتمي إلى الحياة، لا إلى التاريخ وما يكتبه المؤرخون الذين يسوّدون عشرات المجلدات أحياناً فلا يعود إليها أحد في أغلب الأحيان، (بالمناسبة لا يوجد مقابل عربي دقيق لمصطلح الأنطولوجيا الذي يعني علم الوجود وهذه مفارقة أخرى).
صدور الأنطولوجيا الشعرية السورية خلف وراءه عاصفة من الاحتجاجات التي لا طائل منها، وهي في الواقع ليست بتلك الأهمية، فلا أظن أن أياً من قراء الشعر سيلجأ إلى هذه الأنطولوجيا البائسة ليقرأ شعر نزار قباني أو أدونيس أو محمد الماغوط مثلاً!
بالطبع كان يمكن للأنطولوجيا أن تكون ذات أهمية قصوى لو أنها أنجزت عبر عمل مؤسسي، موضوعي وأكاديمي، حتى لو كان الزمن المتاح لها قصيراً، وكان يمكن أن يشارك في إعدادها نقاد موثوق بهم في الوسط الثقافي، مع الاستعانة بمن له تجربة جادة في هذا المضمار مثل الشاعر والناقد علي سفر الذي أخرج أول أنطولوجيا شعرية سورية معاصرة “ملف شعراء التسعينيات” وصدرت عن بيت الشعر الفلسطيني بأقل الأضرار، ولكن تم تجاهلها ولم يشر إليها لا من قريب ولا من بعيد.
شارك في إعداد الأنطولوجيا الجديدة بأجزائها الأربعة والتي امتد زمنها “مائة عام من الشعر” الدكتور سعد الدين كليب وشوقي بغدادي (مرة أخرى) ومنذر مصري ورشا عمران، وهم من مشارب مختلفة وهذا يحسب للأنطولوجيا، رغم أنه لا يكفي، ولست ألوم الشاعرة رشا عمران على ما وصلت إليه من نتيجة، وكان الله في عونها، فتكليفها بالجزء الرابع والأخير لا يخلو من شبهة الفخ الذي تنصل منه آخرون، فمعظم شعراء هذا الجزء لا يزالون أحياءً يرزقون، وإرضاؤهم جميعاً غاية لا تدرك إلا بعمل خارق، فلا الإقصاء والتهميش يرضي ولا الحضور بشروط رقابية يرضي .. مثلما حدث للشاعر السوري المقيم في باريس صالح دياب الذي ذبحت قصائده بسكين الرقابة، وهو محق في احتجاجه، علماً بأنه أصدر بدوره أنطولوجيا شعرية سورية سمّاها “نوارس سوداء” وصدرت على هامش احتفالية الجزائر عاصمة للثقافة العربية للعام 2007 ولا غرابة، فقد صدر خلال فترة وجيزة نحو خمس أنطولوجيات للشعر السوري (دون عد الأجزاء ودون حساب معجم شعراء البابطين)، وهذا ينذر بصدور أنطولوجيات أخرى إذا انتقل فيروس الأنفلونزا إلى عالم الكتاب لا سمح الله!
المهم أن الجزء الرابع من الأنطولوجيا والذي طلّع “الخمير والفطير” في المشهد يشكو فعلاً من الركاكة، ولعلها السرعة، فما معنى الربط بين فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ والرحابنة من جهة وبين “الشعر الجديد” الذي يبشّر به خضر الآغا في مقدمته؟ إلا إذا كان الآغا يشاهد “روتانا طرب” أثناء كتابته للمقدمة في أحد مقاهي دمشق العريقة! وربما لهذا السبب طالب أحد الشعراء ممن لم يرد اسمه في الأنطولوجيا الشعراء السوريين المغتربين في بلاد الله الواسعة طوعاً وكرهاً بالتردد على مقهى الروضة بدمشق (المطبخ الثقافي السوري) خلال إجازاتهم السنوية وكلما سنحت لهم الفرصة إذا أرادوا أن يحظوا بشرف الوجود في أنطولوجيات قادمة ..
أعجبني في كل هذه المعركة، والتي وصلت إلى حد تكسير العظام بين الشعراء، موقف الشاعر والروائي خليل صويلح المشرف على الأنطولوجيا بأجزائها الأربعة .. حيث توقّع بفرح مزيداً من الغبار المثار، ما سيذكّره بالبادية التي جاء منها ويعتز دائماً بالانتساب إليها، وإذا كان ثمة من رأي شخصي فإنني أقترح أن يعد كل شاعر “أنطولوجياه” الخاصة وقد يحدث هذا بعد أقل من مائة عام، عندما يندثر الكتاب الورقي ويلعب الجميع على الشبكة العنكبوتية .. العب!
الراية القطرية