“ليس من أجل الموناليزا” لبشير البكر
مازن معروف
بـحّـــــار فـــوق مــركــــب مــحـــطّـــم
يؤسس بشير البكر، في مجموعته الشعرية “ليس من أجل الموناليزا” الصادرة عن “دار النهضة العربية”، للغة تعتمد على بكرة الذاكرة الشخصية، يتنازع فيها العاطفي والسياسي بشكل أساسي لتصب القصيدة بلورياتها داخل إحدى الخانتين، أو كلتاهما معا. اختزان اليومي، بتفاصيله، وحركته الحياتية، التي يتغلب إيقاعها الجماعي على إيقاع الفرد، لا يشكل مانعا أمام صوغ لغة مختلفة إذا لم نقل أصيلة، وإن بلغ عمقها مستوى لا يمكن التنبؤ معه ببوح الشاعر النهائي. لكنها تبقى لغة تدور في فلك الارتحال الشخصي للشاعر، في زمن سابق، ومحاولته القبض على المكان من خلال استخدام نوستالجيا الذاكرة، وإعادة تفعيلها في الزمن الحالي. هذا ما يجعل للشاعر مساحة مفتوحة، غير مضبوطة الملامح، تتملص من الزمن الأحادي، وتفر من الوقت، لأن السؤال عن الحياة السابقة، يجب أن يتم تجريده، ليصير مسألة القارئ وحده. ليس سهلا بالطبع على أي شاعر أن يبدأ بهذه القوة، من حيث مكانه المفقود، أو المنفي، ليحول هذه الإشكالية القديمة بين الانسان والمكان، سؤالاً فردياً معمماً في ما بعد على الجميع. لماذا يكتب البكر عن أمكنته وعن حياته بالشعر؟ أو لماذا يتوج قصائده بإهداءات إلى أصدقاء لا يعرفهم القارئ بشكل عام؟ مع أن هذا الامر يجعل للقصيدة احيانا ماهية محددة وسرية، تتحرك بين الشاعر والصديق، إلى أن تتجاوز حالتها وظروف كتابتها لتدب على جلد قارئها، مرغمة إياه على تأمل عناصرها، وإطلاق الرغبة في معرفة المزيد، في ما يشبه ردود فعل تلقائية. لماذا يستجمع البكر هذه العناصر، لتشكيل هذا المعنى، وكيف يخطر له أن يزاوج بين مفردتين ذات إيقاعين وبيئتين مختلفتين ليبني عبارته؟ الأكيد أننا في معرض طرحنا لهذه الأسئلة، لسنا مرغمين على إيجاد الإجابات المفترضة حولها، لأن مسألة كتابة القصيدة، عملية لزجة، لا تستطيع حتى أصابع الشاعر، ضبطها. لذا فإن السؤال يبدأ حول تقنية كتابية، ولا يتقدم أكثر، لينتهي في تحديد جماليات القصيدة عند بشير البكر.
المفاتيح التي يكتب فيها الشاعر، تختصر في جثة الأنا المكسورة، والمتحركة. يتأخر حضور المرأة أو يتأجل في النص، لتصبح أحد أشكال الفجيعة، أو أحد أسبابها ونتائجها ومتمماتها في الوقت نفسه. الغلبة هنا، للاغتراب، لحالة وجودية مطوقة بالأسئلة، تمتد شظاياها نحو الوقت والطبيعة والفضاء. لذلك، فإن الخسارة، لا يمكن ان تكون قيمة مطلقة في القصيدة، بمعنى ان مقوماتها تتمازج بعضها مع البعض، فلا يأتي المكان معزولا عن حاجات الأنا العاطفية، ولا تنفصل الجغرافيا كهوية، عن الحاجة إلى مساحة عاطفية أبسط بكثير من الأولى. فالأنا التي تبدأ بالكلام، لا تسيطر على العالم المحيط بها، من خلال الجملة أو الاستعارة، بل تبدو كأنها الأنا الضعيفة والمتسائلة والمتشككة. تالياً، فإن لحاق المكان بالذات، او إلحاقه في مرحلة ما بالقصيدة، يتم في ما يشبه التمهيد. فأولا تكون أنا الشاعر، عبارة عن تجرد مقصود من أشياء العالم، ليتم كسوها شيئا فشيئا بسوداوية السؤال، ومن ثم نقلها إلى حيوات سابقة، وأزمنة ولّت ولم يعد لها وجود، مما يستدعي مناداة المكان، الذي يشبه صوغه مرحلة بعد أخرى، صوغ سكين صدئ بين أضلاع القفص الصدري. هنا تتمكن حساسية الشاعر من الإيقاع به، وكسر أرجله لمنع أيّ محاولة للخروج من الإناء الهائل لحياته الشخصية. وعلى الرغم من أن الشاعر لا يقف في نقطة الوسط، بين المرأة والمكان، إلا أن هناك دوما إمكاناً لصهر خسارة المكان بخسارة المرأة، ودمج نتائج كل خسارة على حدة، لتضخيم المأساة بطريقة رياضية، أي بزيادة الخسارتين، وللإضاءة على الألم، بشكل أوفى، كأنه في تصفية حساب مستمر مع الزمن، والحوادث السابقة: “أنا في بيروت/ في كازابلانكا/ في عدن/ بحار يستلقي فوق مركب محطم/ أحيانا قبل أن أمد قدمي المثابرة/ على الخسارات/ أتبع ظلي وراء القصيدة/ أنت التي/ في أسراب الطيور/ تعبرين الفرات/ إلى ما وراء الأهل/ تحدثني أغانيك/ عن سنوات البوادي البعيدة”. إنها القصيدة التي ترتقي بالقارئ شيئا فشيئا إلى أن يتبين كأنها سلّم عمودي يتحرك نزولا أو صعودا. من هنا يكون البحث عن مربّع الذات، هو الشغل الأول لصانع النص. هي الذات المملوءة بالهواجس، ولا يمكن عزلها أو تجريدها عن الصور المتراكمة، والأزمنة المهملة، التي بعد كتابتها، نكتشف مع الشاعر، أنها لا تزال مقيمة بصحة جيدة في الذاكرة.
قصيدة البكر، تشبه الاستشراق المتطرف، لأن الشاعر الذي عاش قسما كبيرا من حياته في باريس، ومدن أوروبية أخرى، لا يبدو منزاحا عن سؤال الهوية، الذي يرده إلى ضرورة ابتكار المعنى، ونفض كل إمكاناته الشعرية، في وجوهنا، ليصيبنا رذاذ تأمله، كدبابيس غير مرئية. لكن هذا كله لا ينشأ بأسلوب ميكانيكي، لأن تعدد أصوات الشاعر في القصيدة الواحدة، يتخلله تعدد لأصوات مكانية، ويكون الانتقال من صوت إلى آخر، مرفقا بهارموني، أو خيط يشد الصوتين أحدهما الى الآخر. وإذا اعتبرنا ان البكر، شاعر يستشرق نفسه، فهذا لا يؤدي إلى خلاصة مفادها أن مزاج الشاعر غربي. الشعر هنا، مفتوح على الهويات، وهو غير مخصص. بالشعر يستشرق البكر، وليس بالإيديولوجيا او النظريات او النصائح. هذا الأمر ضروري، لتفسير مكمن الحساسية العالية لدى البكر، والتي يبدو كأنها اختزنت في ذاكرته كالنبيذ، خلال تنقله، ورافقته كنظارته الطبية، ليرى بها إلى مكانه الأصلي: “بأي نسيان/ أمحو ذاكرتي؟/ كان يراودني أن أرمي زمني للهباء/ وأنسى الجرح الذي طعنني/ وأعادني إلى طفولة نازفة/ ورحيل طويل/ في أيام فائتة/ لم أحْيَها/ كالمطرود”. ذلك أن هذا المستشرق شعريا، هو صاحب المكان على رغم التباس الأخير عليه، وهو مالكه الأصلي، وحافظه عن ظهر قلب. لذلك هو ليس معنيا بطرح الأسئلة، بل باستخدام كل أدواته الممكنة، لغويا ومعنويا وثقافيا، لإعادة حفر وجوده كإنسان في المقام الأول. تشي القصائد بأن شخصية المكان الأصلي، هي شخصيته الاولى والنهائية. لا تنفذ إليه رياح الأمكنة التالية، والمنافي التي اختارها الشاعر طوعا أو قسرا. يتم تطعيم المكان الأصلي (بإسقاطاته الزمنية) في نصوصه بالأمكنة الحالية. نرى ان هناك خلطا مقصودا بين الصحراء وملامحها وجيولوجيتها، وطبيعتها الفجة والقاسية، ولزوجة المدن الثابتة والكبيرة كباريس أو برلين، وبدعها التكنولوجية: “لست سوى الناجي/ من حروب الأمس/ الواقف في دعوة الشوق/ قرب شجرة الرفاق اليابسة”.
ما يلفت في أسلوب بشير البكر، قدرته على تكثيف العبارة، وتشعب المعنى من خلال اختزال الجملة الشعرية، وقصقصة ثوب القصيدة الفضفاض. كأن هناك ثنائيات أو ثلاثيات في قصيدته، مشغولة بإيقاعات مستقلة بعضها عن البعض الآخر: “ماركو بولو/ كلام على بدء/ وطرق طواف/ العاشق المنسي/ في صوت برشلونة المكسور/ على طريق الإبل/ في الربع الخالي/ فلامنكو/ في صرخة الرخام/ يجرح النعاس/ وينام في خزانة الوقت”. يتأكد هذا التذبذب في الأصوات الثانوية المنبثقة من صوت الشاعر الأساسي، من خلال حضور المرأة، ككائن متحرك، عصي على الضبط، وخارج عن السيطرة. وهي بتحركها في القصيدة، تؤمّن للشاعر بوصلة لمشاعره، وقلقه المتنامي “على شوق/ يكبر إسمك/ منقوش على حجر الأنفاس/ يأخذني من الوقت/ أقف على العتبات/ بلا خطى/ مثل شحاذ/ فوق جناحي طائر/ لم أعد أدرك/ لا أرى ما في الكينونة/ لو أنك لا ترين/ في المرايا/ لو أن المرايا/ انكسرت في نظرة/ كيفما كان”. إلى جانب تكوينها في القصيدة كشظايا مرآة، إلا أنها توازن المكان، وتدفئه، مما يجعل للقصيدة نظاما بطيئا متأملا، وواثقا، لا ينجرف في الجملة من ناحية الإسلوب، كما لا يتفلسف في المعنى. فالمرأة هي العشق، وهي المفقود، وهي التخييل، وهي حجر الطبيعة الأساس، حجر العاطفة، الذي لا يقف على شكل نهائي واحد، بل يكمن سحره في قابليته على التحول: “لا ألمسك/ من مكان بعيد/ أدنو منك/ ولا أصل/ أسماؤنا ضائعة/ لا أدري من أنت/ ولا ترين من أنا”.
النهار