بين المقهى والمنفى
محمد كتيلة
لا نكهة للمقهى في المنفى، لا ماء يزهو في الكؤوس، لا هواء يلعب بين الطاولات، لا نوافذ مشرعة على صخب الحياة، حيث تختلط أصوات باعة أوراق اليانصيب والصحف مع صنوج التمر الهندي المدلل وعرق السوس الطافي للظمأ. لا أصدقاء، بل حرقة موجعة دفينة هائلة، يضاعفها خلو المقاهي من مذاق القهوة ورشاقة الهال في مصافحة الروح، وذلك الزبد النحاسي الذي يطفو فوق الفناجين البيضاء، المقصبة بخيوط الذهب، فرحة لنداء الشفاه المبتلية بالتوق العتيق للقهوة العربيدة، والشاي المخمر أو المعطر بالميرمية والنعناع.
المقاهي هنا، كما البيوت، طافية على المكان ولاهية عن الزمان، ولا فرق بينها وبين مستودعات السلاح وثكنات الجيش، ولا تختلف في مظهرها الخارجي عن المدارس والكنائس، كما لا يمكنها أن تغري أو تغوي بشراً مثلنا إن لم تكن مصحوبة برائحة استثنائية متماسكة، ينصهر فيها الهال والتبغ، وهسيس الجمر فوق أعناق االنراجيل المشرئبة، ولب الجوز والبخور، واليانسون مع ما يسمى ‘الزهورات’ وبقية الأعشاب، وتلك الضوضاء المجدولة بالهمهمات والحشرجات، والهمس المسموع والضحك الليلي الصاخب، ناهيك عن بعض المواويل والآهات المتقطعة المتطايرة من فوق الرؤوس والطاولات، مصاحبة لأغاني طربية أصيلة تصدح، من الزوايا والرفوف الخشبية، وربما خُطت كلماتها على قرقعة الماء في النراجيل أو لُحّنت على إيقاعات النرد المتراقص اللعوب.
حرقة لا يكابدها ولا يعاني منها إلا من تعلم منذ بداياته وريعان الصبا والشباب والفتوة والتمرد والعصيان، كيف تسرد الحياة ومعنى الليل، في مقاه هناك، مفعمة بالفن والأدب وأعلام الصحافة والمطبوعات، ونثر الحياة وسيرها اليومية،التي تبدأ بالسياسة والهموم العامة، وقد تنتهي في السجون والمعتقلات.
المقاهي هنا، وعلى كثرتها، بلا أسماء تذكر أو عناوين تربطها باسم البلد، ولا من دخلوا التاريخ بإنجازات عظيمة ومميزة، بل محمولة على أسماء عائلات وأفراد لا شأن لهم إلا بتربية المال وحفظ الفوارق الاجتماعية عن غيرهم من البشر. بلا مذاق، بلا هوية، ولا نوادل تحفظ وجوه الرواد الدائمين المسكونين برعشة الحياة في الليل والنهار، النوادل الذين يتمسكون بأسماء وألقاب سكان المقاهي المياومين إلى آخر العمر، من كتاب وفنانين ومن ينتظرون آخرتهم على مهل، ولا غرابة في أن تندرج وتندمج هذه الأسماء مع مرور الوقت والزمن في لوائح عوائلهم وتقيم في الذاكرة للأبد، فإذا ما ارتاب نادل ما من خطوات زائر عابر، لربما يكون من عسس المدينة ورعاتها، فقد يصيبه الهلع، مما قد يعني أن أحد رواد المقهى الدائمين أو أحد سكانه، سيختفي في اليوم التالي وربما سيمحى من الوجود!
مقاه غريبة وعجيبة، مترادفة على الأطراف وفي قلب المدن الرئيسية وتفرعاتها، ومترامية على الأطراف باسم واحد، لا حياة فيه ولا نكهة أو مذاق، جامد وبارد وبليد. مقاه، تحاصر المدن والضواحي وتلتف عليها من كل الجهات، كما تحاصر حرية البشر وتغلق عليهم أبواب الاختيار ونوافذ التشوق لرؤية مقهى يحمل عبقهم وأثرهم في الماضي البعيد.
مقاه مبنية على عجل، كمدنها الناتئة كالفطر من غير برق أو رعد، بعيدة كل البعد عن عتي الزمن، غارقة في حاضر مؤبد لا مواعيد له في المستقبل، شاخصة فيه بلا قيمة ولا شأن، فهي محسوبة على سرعة الرياح العاتية وقوة البرد والزمهرير في ابتلاع زبنها، وعلى الثلج الأرعن والمطر المجنون، ولا يمكنها أن تومئ بأغنية تتحدث عني وعن غيري من الغرباء والمبعدين.. سلسلة لا متناهية في شبه أخرق!
لا خصوصية تذكر ولا هوية، للأسياد والمعوزين، للقضاة والطهاة، للجيش وقطاع الطرق، وسائقي الشاحنات الضخمة والدراجات الهوائية والنارية، للقوادين والعاهرات، لحراس المدينة وأمراء الشركات والمؤسسات، عمال المصانع، لطلبة المدارس والجامعات، للذين يدخلون بالبيجامات والياقات الحمراء والبيضاء، للأطفال وكبار السن والمراتب، للعجز والمسكونين بالخوف، والمشعوذين، لمن يركنون كلاب الصيد أو البيت أو الاستعراض في الخارج،والتي تنتظر بفارغ الصبر والجوع الذي لا يتوقف، لاهثة مستفزة، لقطعة من الحلوى من معيلها، يشتريها خصيصاً لها، كرشوة مؤقتة، لكي لا تنبح أو أن تعترض على من يدخل ومن يخرج. فإلى أين يذهب الغرباء مثلنا، إذا ما انقطعت بهم السبل والدروب، وإذا ما اشتد بهم الحنين للقاء ما يشبه الأهل والأصدقاء القدامى، على قلتهم وندرتهم، ماذا عسانا أن نفعل، نحن الذين لنا عداوة شخصية وعامة مزمنة مع الكلاب وغيرها، ولا نتقن من آليات التعامل معها، سوى الضرب وكيل اللعنات، وكيف لو صادفناهم عند مداخل المقاهي والحدائق والبيوت ؟!، بأية قشعريرة سنقف، وبأي خوف سندخل أو سنخرج من الأبواب!
في كل مرة، أو في أي صباح شارد أدخل المقهى – أي مقهى – أشعر بالصقيع والوجع، وبقسوة الحياة اللامنتهية بشيء، تحضر الغربة بكامل عريها، ومع كل خطوة أخطوها أو أجرها عنوة إلى الداخل الذي يبتلعني ويطردني في نفس اللحظة وبلا هوادة أو مهادنة.
المقاهي في تلك البلاد، والتي أصبحت بعيدة وغريبة علينا، وكما تعودنا وكما هي العادة القديمة الدائمة، هي أيضاً للغرباء والضالين والشاردين والفارين من أنفسهم ومن واقعهم، ومن الزمن الغادر، والمغدورين به، وللمثقفين الهاوين والمخضرمين أو الذين في قيد النشوء، وعلى سكة التطور، وللكتاب والأدباء والفنانين والصعاليك، لكن، لك الحرية الكاملة في أن تختار المقهى الذي على مقاسك وذوقك وبكافة التفاصيل، الظاهرة أو الباطنة، المعلنة أو المخفية، وحتى بالأحاسيس والمشاعر والمنزلة الاجتماعية الخرقاء،أما هنا في اللاهنا، فلا خيار لك، في بلاد الحرية العمياء، ولا يشبهك أحد، ولك دينك واسمك والبلاد المنفي عنها أو المهاجر منها، وإن وجدت من يقاسمك هذه الصفات وهذه الهموم، فهي لا تعني سوى زيادة في الغربة، وما أنت وحدك. لا أصدقاء مقاه هنا، ولا كتب ولا ثقافة، ولا حديث في السياسة وما يتزلزل في بلادك، ومن يشقى ومن يموت، بسبب الاحتلال الأجنبي أو المحلي، أو نتيجة مقاومة المحتل الخارجي أو الداخلي، صمت مريب وكياسة عامة، تنعدم التحيات وتختفي الإشارات والابتسامات المصنوعة من لغة حية وطازجة، ولا أحد ينتظر أحداً، وكأنك على قارعة الطريق أو في مضيق خانق مظلم، لا تُرى ولا ترى، مجرد شبح في لغة مختلفة وثانية، لا تجيد منها سوى دفع النقود واحتساب الباقي على الله.
مقابلات عاجلة بين وكلاء التوظيف والحروب ـ سماسرة العقارات والنفايات والعقول والعضلات والجسد جملة وتفصيلاً – وبين من ينتظرون أية وظيفة طارئة أو عابرة مستعجلة، تفي بمتطلبات كفاف الحياة، وما سيشربونه في القادم من الأيام الموحلة الباردة، ضمن عملية بيع وشراء مبتذلة، وحسب حاجة السوق السوداء التي تفرغ البشر من أي معنى وتجبرهم جبراً وغصباً على الوهم وصناعة حاضر مزيف.
هنا، في هذه المقاهي، يختصر الزمن إلى الحد الذي لا تعود تراه أو تحس به، ولك أن تفر من نفسك أو أن تختفي فيها، أو أن تعلن إفلاسك من الحياة الاجتماعية ومن اللاأصدقاء. نظرتك عن نفسك تضيع مع زحمة الصبوة المتشابهة والمترفة في توزيع الابتسامات المسبقة الصنع، والهمهمات الضاحكة التي تضيق بفراغها وبالعبث، كلما سمعت من مجهول ما يقول لك : يوم جميل أو ماطر أو عاصف، بارد، ثلجي أم مشمس، ونادراً ما ينسى أحدهم أن ينهي الكلام بتلك الجملة المموسقة، الخافتة، الفارغة من مضمونها ومحتواها، حيث لا إيقاع فيها ولا حس من أي نوع : تمتع بنهارك أو بالبقية منه، أو بليلك قبل أن يبدأ، فأنت لا تعرف من أخبار الطقس وأحواله وتبدلاته إلا من المارين والداخلين إلى المقاهي والخارجين منها، فإما أن تؤكد، أو أن تطأطئ الرأس ساهماً واجماً، قرفاً من هذا الكرنفال المجاني والثغاء الذي لا يتوقف أبداً، ليل نهار.
تلتقي في المقاهي بالراغبين في الموت نتيجة الملل أو العطالة الدائمة والبطالة المقنعة، وبالفضوليين اليائسين من لونهم وعرقهم وأديانهم وأصولهم وأوطانهم، أو الذين ابتعدوا عنها مرغمين وملاحقين، أو فارين مطاردين.. ويتكرر السؤال الدائم الحزين، وهو واحد لا يتغير ولا يتبدل إلا بتبدل وتغير الفصول والمشاهد الحية واللحظية للطقس. أما السؤال الآخر فله علاقة بفضول جمعي لدى من ابيضت ملامحهم وازرورقت عيونهم أكثر، مذ رأوك غريباً على بلادهم ومقاهيهم وأحوال طقسهم العجيب، شتاء في الصيف وثلج في الربيع: من أين أتيت؟ ومتى أتيت؟، وكم صار لك من العمر في هذه البلاد الساحرة – مع نسيان كامل أنها ليست كذلك -، وما رأيك، هل لديك أولاد وهل هم سعداء ؟
بمثل هذه الأسئلة المريبة تبدأ طقوس التعارف العاجل وعن قصد متعمد ومن دون براءة، والذي قد ينتهي بدقيقة أو اثنتين إلى أبعد حد. أما السؤال الفضولي الملحاح: هل أعجبتك كندا؟ فهو من أشد الأسئلة غرابة وإثارة ً للشفقة، لأنك لا تعرف ما هي الإجابة الصحيحة ولا من أين تبدأ، فقد تكون إبناً لهذه البلاد لبضعة أيام أو أسابيع معدودة، وأحياناً لعشرات السنين!! والأغرب، أن من يسألك هذا السؤال لا يتوقع منك إجابة ولا يريدها، أما لماذا يسأل فلن نعلم أبداً ومهما بقينا في هذه البلاد، ربما لأنه يشكو من الوحدة، وقد يجد فيك شبهة تجهلها أو ريبة ما، فهو وبكل الأحوال ليس لديه الوقت ليعرف أو ليتعرف، بل ليقنع نفسه، أنه اخترق إحدى المحرمات المفروضة عليه، وسجل في يومياته يوماً جديداً شديد الالتباس.
كاتب فلسطيني يقيم في كندا
القدس العربي