صفحات ثقافية

في الذكرى السابعة والعشرين لرحيل رياض الصالح الحسين : وعل في الغابة

null
أمجد ناصر

(أنا رياض الصالح الحسين
عمري اثنتان وعشرون برتقالة قاحلة
ومئات المجازر والانقلابات).
لعل هذه اول مرة يذكر فيها شاعر عربي اسمه كاملا في قصيدة له.
ذكر الاسم ليس انفلاتة نرجسية من (أنا) متضخمة، ولا تنفجا فجا، انه الدمغة الشخصية التي يحيل الشاعر، من خلالها، عمله الى شخصه المتناهي وحياته التي ينهبها اليومي، فيما يتكفل المقطع الذي يليه بالاحالة الى ما هو أعم، وما كان شغل النخبة الثقافية اليسارية العربية الشاغل، في سبعينات كانت فيها الانقلابات (اصطلاحا أو مجازا) ممكنة.
هذه الخلطة المحكمة بين الشخصي والعام هي التي قدمت قصيدة الشاعر السوري الراحل رياض الصالح الحسين الى قارئه، على خلفية غنائية متأسية خفيفة، ولكن غير متفجعة ومنثالة. سيترك الزمن ـ الحاصد رياض الصالح الحسين يتم أربع مجموعات شعرية ثم يختطفه، تاركا كثيرين غيره، يواصلون (ضعف عمر الشاعر الراحل تقريبا) بناء قصائدهم سطرا سطرا، وقد لا يبلغون، بمسعاهم المثابر، شباب رياض الصالح الحسين الشعري المغدور.
***
في العام 1979 صدرت في بيروت مجموعتي الشعرية الاولى (مديح لمقهى آخر)، وفي دمشق صدرت مجموعة رياض الصالح الحسين الاولى (خراب الدورة الدموية). قبل ذلك زرت دمشق أكثر من مرة، وفي كل زيارة كنت أرى رياض الصالح الحسين في (اللاتيرنا) أو غيره من مقاهي العاصمة السورية. كان الشاعر السوري أصم. لكن بقايا أغان قديمة، من عمر سابق، ظلت تتموج في أذنيه اللتين فقدتا السمع بيد أنهما، مع ذلك، قادرتان على التقاط رفيف جناح فراشة. بوسعه قراءة حركة الشفاه الضاحكة أو المزمومة، تأوهات القلوب الجريحة، ولكن عندما يتعقد الكلام (الثقافي) ولا تعود الشفاه قادرة على نقل ادعاءته يدون له الاصدقاء ملاحظات مكتوبة. كان رياض الصالح الحسين ظاهرة. له قصيدته اليومية الغنائية اليسارية الطالعة من ارث الماغوط، الذاهبة مباشرة الى يوميّ ملموس ومتعيّنٍ، أكثر مما هي عليه قصيدة الماغوط.
لم تنعقد بيني ورياض الصالح الحسين صداقة سريعة كما حصل مع عدد من شعراء وكتاب جيله (جميل حتمل، بندر عبد الحميد ، بشير البكر، عادل محمود، خليل صويلح، حسان عزت، وائل السواح). لا أعرف سبب بقاء علاقتنا على هامش لقاءاتي بالشعراء والكتاب المذكورين الذين تحلق بعضهم حول كراسات سرية خطرة، كان يشرف على اصدارها جميل حتمل. لعل اعاقة السمع هي السبب. لعله خجله. لكن ذلك لم يمنعني من رؤية ألمعيته الشعرية، بل تفوقه علينا في بناء قصيدة تشبه حياته.
جئت شعريا من الوزن (التفعيلة) وجاء هو مباشرة مما يسمى عربيا (قصيدة النثر). حمل ديواني الأول الصادر في العام نفسه الذي صدر فيه ديوانه الأول التباس (التفعيلة) بـ (النثر)، فيما كان عمله الأول صافيا في رؤيته الشعرية والاسلوبية. كانت قصائدي (بروفة) لقصيدة لاحقة، فيما تجاوزت قصيدته التدريب الى عرض فوري ناضج.
وعندما كنت أزور أهلي في الامارات، بعد حصار بيروت، توفي رياض الصالح الحسين بـ (خطأ) طبي في مشفى (المواساة) الذي سيموت فيه بـ (خطأ) طبي، بعد سنين قليلة، غالب هلسا.
***
نحن أبناء جيل واحد. تفصل بيني وبينه سنة. مات هو في أواخر عام 1982 عن أربع مجموعات شعرية وثمان وعشرين سنة وأذنين تصغيان، من دون شبهة رومانسية، الى رفيف جناح فراشة، ووصلت أنا الى الخمسين بشعر رمادي وسحنة مكفهرة وأذنين معبأتين بضجيج المدن وتقصف الأحلام وشهقات الأوطان في نزعها الأخير.
***
أعادت إلي دواوينه، التي جمعها وقدمها، الكترونيا، الشاعر السوري خلف الخلف المشرف على موقع “جدار” الالكتروني، ذكرى الشاعر الراحل باكرا وأعماله التي لم تطبع ورقيا مرة ثانية، رغم أنه الموهبة الأبرز، على ما أظن، في شعر أواخر السبعينات السوري.
أما لِمَ المقارنة بيني وبينه؟
انها المفاجأة التي طلعت الى طازجة من أواسط السبعينات أثناء مطالعتي هذه الأعمال مجددا بعد انحسار ضجيج صراعات التفعلية والنثر، اليومي والميتافيزيقي، التفصيلي والجوهري، ولم يبق، على ما أظن، من كل ذلك سوى الشعر في أي شكل كان.
كان علي (وربما على غيري من شعراء جيله) أن يصلوا الى الخمسين ليزعموا امتلاك قصيدتهم، بينما امتلك رياض الصالح الحسين قصيدته، دفعة واحدة، قبل أن يبلغ الثلاثين.
هناك شعراء يرأف بهم الزمن. يعطيهم فرصة بناء قصيدتهم سطرا سطرا، فيما هناك شعراء يتحققون، بمواهبهم الفذة، من أعمالهم الاولى. أنا (وكثيرون مثلي) من الذين يحظون، بزلفى ماكرة، بنفحة من رأفة الزمن القاسي، بينما لم يكن رياض الصالح الحسين ممن يتزلفون الى الزمن. لم يكن يحتاج الى رأفته، فقصيدته جاهزة وبصمته حاضرة منذ توقيعه الأول، وليركب الزمن أعلى خيوله.
***
تنتسب قصيدة رياض الى الماغوط. هذا، تقريباً، لا شك فيه. لم ينج شاعر في جيله من (حزن في ضوء القمر)، لكن هذا النسب الأول لم يكتف بملامح الماغوط الساخطة ، برومانسية متأخرة، على الواقع، بل أصغى الى ما يحفل في قلب اليومي (الصاخب عند الماغوط) بأذن أكثر رهافة وعين أشد دقة، وأضاف، الى اليومي الحار والمتحرك، رؤيا تنفذ الى ما ورائه.
رياض الصالح الحسين، عندي، مزيج من نزعتين: احتجاجية ماغوطية وتأملية ريتسوسية.
هناك اكثر من نموذج يشير الى هذا الامتزاج البارع والشخصي. قصائده عن الموت، مثلا. قصيدته (الخنجر) تحديدا:
(الرجل مات
الخنجر في القلب
الابتسامة بين الشفتين
الرجل مات
الرجل يتنزه في قبره
ينظر الى الاعلى
ينظر الى الاسفل
ينظر حوله
لا شيء سوى التراب
لا شيء سوى القبضة اللامعة للخنجر في صدره
يبتسم الرجل الميت ويربت على قبضة الخنجر
الخنجر صديقه الوحيد
الخنجر ذكرى عزيزة من الذين في الاعلى).
هذه ملامح ريتسوسية بامتياز: الموت العادي، العنف غير المدوى، الهجران، الأموات الذين يتجولون في أمكنتهم الاولى أو الذين ينظرون، باشفاق، الى من لا يزالون يدبون فوق التراب.
لا تتسع هذا الوقفة السريعة أمام شعر رياض الصالح الحسين الى تقليب أوجه منجزه، إنها تحية لشاعر حيٍّ من جيلنا، والى وفاء جميل أبداه شعراء لاحقون حيال هذا الشاعر الذي لا يذكر الشعر السوري السبعيني من دون أن يكون في قلبه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى