الأزمة المالية العالمية

التكلفة الاجتماعية للأزمة المالية العالمية

قيس جواد العزاوي
لاريب ان انهيار البنوك وافلاسها وتدخل الحكومات الغربية لانقاذها بضخ مليارات الدولارات لم يأت لانقاذ مدخرات الفقراء من المواطنين او الحفاظ على ممتلكاتهم وعقاراتهم المهددة بالمصادرة بل جاء انقاذا لسمعة البنوك ورؤسائها ومدرائها الذين يتقاضون رواتب قدرت في الولايات المتحدة فقط بأكثر من 100 مليار دولار.
وبقدر ما عوض الرأسماليون انفسهم من صناديق الدول او بالاحرى من الاموال العامة بقدر ما خسر المواطنين من مدخراتهم وممتلكاتهم ومن تهديد البطالة التي ستطل شبحا مرعبا على حياتهم. وقد كانت الطبقات الاجتماعية الفقيرة دوماً تخسر ما تدفعه للدولة، وبالمقابل كان الرأسماليون يربحون ما لا يدفعون .. فعلى سبيل المثال واستناداً الى التقارير الاميركية نفسها فإن الحكومة الاتحادية الاميركية وفرت في عهد الرئيس كلينتون مثلاً من خلال الضرائب حوالى 82.2 % من مواردها، بيد ان دعم الدولة للفقراء والمسنين لم يتجاوز 5 % فقط. ومن الان يستشعر مواطنو الدول الصناعية القلق الشديد على مستقبلهم .. فالشركات الكبرى ستضطر الى الاستغناء عن آلاف العاملين وسوف يتوجه هؤلاء الى افراغ صناديق الضمان الاجتماعي والصحي بالطبع. والمعادلة بسيطة وواضحة كما تبين الدراسات الغربية .. ستؤدي الازمة الى تقليص الإنتاج ومن ثم البطالة وهو ما سيكلف خزانة الدولة كميات هائلة من المال العام.
وكل الدلائل تشير الى ان التكلفة الاجتماعية، بل والبيئية الناجمة عن الازمة المالية الحالية ستكون مرعبة في جميع الميادين .. ففي المجال الصحي، لم تكن حكومة الولايات المتحدة وطيلة عمر الرأسمالية الفوضوية وحتى عهد الرئيس جونسون تقدم رعاية طبية للاميركيين على غرار الضمان الصحي في اوروبا المطبق منذ الاربعينيات. ولم يقر هذا الدعم الا في عام 1965 فقط حين اعتمدت الدولة برنامج «ميدي كير للرعاية الطبية»، واذا كانت الدولة الليبرالية حريصة الى يومنا هذا على توفير الخدمات الاجتماعية في مجالات الصحة العامة والتعليم والسكن الاجتماعي، وحفظ الأمن الداخلي، وتحقيق بعض العدالة الاجتماعية، واستقلالية القضاء، فلاشيء يضمن ان تفي بعد هذه الظروف العصيبة بكل التزاماتها الاجتماعية ..
قليلة جداً هي الاقلام في الغرب التي كشفت بعضاًَ من المستور في الازمة المالية التي يواجهها النظام الرأسمالي والمؤثرة على العالم اجمع.. فمازال البعض يعتقد ان النظام النقدي الدولي هو سبب الازمة ومعالجتها لا تستدعي سوى فرض ضوابط وقواعد صارمة على هذا النظام .. بينما ذهب اخرون الى اقصى ما يحلمون بالقول ان عام 1989 شهد افول النظام السوفييتي الشيوعي بينما يشهد عام 2003 الافول التدريجي للنظام الرأسمالي العالمي! حتى ان بعض المسؤولين الالمان لا يتردد من الجزم بنهاية القيادة الانكلوساكسونية للسوق المالية العالمية، بينما يكتفي الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف بالاعلان عن انتهاء عهد هيمنة اقتصاد واحد وعملة واحدة على العالم.
وما بين هذا وذاك يتساءل بعض الاقتصاديين عن طبيعة هذه الازمة وهل هي ازمة سوق نقدية او اقتصادية ام ازمة نظام رأسمالي؟ فعلى مدى قرن ونصف من عمر سيادة النظام الرأسمالي فشل هذا النظام في ضبط وادارة دوراته الاقتصادية، ولم يكن العالم معولماً بالنحو الكافي لكي تمتد ازماته من عقر داره كما حدث في عام 1929 او عام 1933 الى بقية انحاء العالم .. بيد اننا لا حظنا جيداً ان انتكاسة النمور الاسيوية عام 1997 امتدت بفعل العولمة الى بقية المنطقة والعالم.
ومن الملاحظ ايضاً ان انتكاسة النمور الاسيوية كانت نتيجة مباشرة لأزمات افتعلتها المضاربات المالية على الأسواق والعملات، هذه المضاربات التي حولت الاقتصاد الرأسمالي من الواقعية الى الفوضوية. ويعترف اكثر الاقتصاديين الغربيين بأن الدروس المستفادة من الازمة الاسيوية هي ان المضاربين الدوليين من امثال جورج سوروس أثروا بنحو سلبي وفعال في بعض اقتصادات العالم من خلال تعويم العملات وتحرير اسعار الصرف.
إن العولمة لم تدع احدا يهنأ في مكانه، حيث تأثر العالم كله بما حدث في الولايات المتحدة، لم يقتصر الامر، كما قال الجميع، على درجة اندماج الاقتصادات مع اقتصاد السوق، بل تعداه الى المناطق غير المرتبطة بنحو مباشر بالسوق .. فالمنطقة العربية التي لا تساهم الا بـ2.5 % فقط من معدل النمو الاقتصادي العالمي دون احتساب عوائد النفط طبعاً، هي بعزلة عما يحدث من كارثة مالية دولية، ولكنها وعلى الرغم من ذلك تأثرت وستتأثر الى درجة كبيرة بالازمة وذلك للاسباب التالية:
ـ أدت الازمة الى انخفاض في اسعار النفط وستتسبب في انخفاضات اخرى وستؤدي الى ارتفاع أسعار السلع، وكالعادة فإن الأجور لن ترتفع بنحو كاف لتلبية الحاجات الاساسية من غذاء ودواء وسكن، وهكذا ستدفع الطبقات الفقيرة الفاتورة.
ـ ان الدول النفطية وبخاصة الخليجية خسرت حسب درجة اندماجها بالسوق العالمية مبالغ كبيرة نظراً لاستثماراتها في أسواق الأسهم المالية وسوف تؤدي خسارتها هذه الى انخفاض عائداتها، ومردودات ذلك سلبية على الاوضاع الداخلية حيث ستتوقف الكثير من المشاريع، وستقل القدرة الشرائية للمواطنين وستزداد الفجوة ما بين الاغنياء والفقراء.
ـ إن الازمة المالية هذه سترفع كما يؤكد مدير مكتب العمل الدولي خوان سومافيا من عدد العاطلين عن العمل في العالم عشرين مليون شخص الى 210 ملايين شخص في نهاية 2009. وسينعكس ذلك بالضرورة على منطقتنا العربية.
ومن المفارقة أن الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد للعام 2008 الدكتور بول كروجمان يشغله امر اخر اكبر من الكساد والبطالة والازمة، وهو ان اقتصاد السوق بات في مواجهة حدية مع المعنى الحقيقي للديمقراطية، فسوق أكبر يعني ديمقراطية أقل، فالعولمة اعتبرت ان الدول السائرة في طريق الديمقراطية هي تلك التي تشرع قوانين فتح الباب على مصراعيه أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة لنهب الموارد الوطنية للشعوب والمجتمعات المختلفة .. وهذه السياسات لم تعد مقبولة في العالم الذي لم يعد كما كان قبل الازمة .. وهكذا فكل ضارة نافعة!
عن جريدة أوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى