صفحات الشعر

الرجل الذي كان ها هنا

null
عماد فؤاد

في العودة إلى الأصل
كلُّّ شيء ينسحب إلى أصله،
عائداً من شيخوخةٍ مفاجئة
كلُّّ شيء
يرجع إلى الخلف…

تصوّروا معي
مطراً يتجه إلى السماء في زخّاتٍ ثقيلة تدفعها الأرض إلى أعلى
كفَّ أمّي المغضنة بالأخاديد ترجع، رويداً رويداً، ناعمةً، بضّةً، دافئةً، وخفيفةً، وهي تلمّ شعرَها الذي يزداد ثقلاً ولمعاناً
النبتة في الظلّ
تصغر وتنكمش على نفسها ململمةً أوراقَها العريضة
لتُدخلها في الساق التي ترقّ ببطء
حتى تبتلعها الأرض الترابية.

صوتي المحفوف برائحة الدخان
رئتيَّ المسوّدتين ببقع القطران التي خلّفتْها أنواعٌ عديدة من التبغ
التجاعيد الغائرة أسفلَ عينيَّ الضيّقتين
كلُّها تختفي وتذوب كما لو أنّ موجةً صغيرة طالت الرمل الذي دهسته أقدامٌ لاهية، فأعادته من جديد مستوياً ورائقاً
كأنْ لا قدمَ مسّته
ولا بعثرَ عَدْوٌ حبّاته

كلُّ شيء
ينسحب إلى أصله

كلُّ شيء
يرجع إلى الخلف.

أرملة
الواقفةُ الآن
تتأمّل فراشها بذراعين مغروستين في الخاصرة
البيضاء كالثلج،
الطويلة، النحيفة
التي عادت للتوّ
أرملةً من المقبرة
تقف كلبوةٍ على مشطي قدميها
كأنها تهمّ بالدفاع عن صغارها
بعد أربعين سنة
ستتمكّن أخيراً من قلب المرتبة على ظهرها
حربُها الطويلة الخاسرة
تُحسَم الآن بضربة حظّ
على الأقل
ستكون رقدته للمرّة الأولى
تحتها!
أبواب مغفرة مؤجلة
الجسد…
تعالي نبدأ من الجسد
فالروح أمرُها صعبٌ ومعقّد،
الجسدُ أسهلُ
قطعان الخراف المهرولة خوفاً من سكينة الذبح
خوفاً من ماكينة جزّ الصوف المشهرة في أيدي الغرباء وتركها ببشرة مكشوفة في ليالي الشتاء الباردة
هذا الجسد الذي أحمله أينما سرتُ، أو قولي الجسد الذي يحملني، ما عدت أعرف أيّا يحمل الآخرَ أصلاً، أبدو أمامكِ الآن كأَنني من يسوقه، مثل راعٍ فقير في الصحراء يهشّ بعصاه على عنزة واحدة، وعصاه طويلة كأنه يمنّي نفسه بعنزات أخريات
تعالي نبدأ من الجسد، جسدكِ أو جسدي
الأمر سيّان
جسدانا الآن يشبهان عملة نقد ترفّ على جنبها
دون أن تسقط
وتنحاز إلى ملك أو كتابة

جسدانا
بكلّ ما فيهما من قرف وعصارات وأنزيمات ودم وتقيّح ودمامل وبثور وشعيرات قابلة للنتف وأخرى تستعصي على النتف
بروائحه وإفرازاته ودموعه وعرقه ودهونه وشحومه
شيءٌ مقرف فعلاً أن أتحدّث الآن أمامكِ عن جسدينا بهذا الشكل، ههههههه، لا بأس، ستتعوّدين على كلامي الغبيّ، يا ما تعودتُ عليكِ وعلى أفكاركِ الغريبة، ثمّ من قال إنني بهذه الطريقة في الحديث أحطّ من قيمة الجسد، أبداً، أحبّ جسدكِ كما أحبّ جسدي، ألم يكن جسدكِ هو البوّابة الأولى لي كي ألجَ إلى روحكِ، تصوّري مثلاً لو أنكِ كنتِ قبيحة ودميمة ومنفوخة الأنف وتتمايلين كإوّزة حين تسيرين، هل كنتُ سأحبّكِ؟ طبعاً لا، المسألة ليست بهذه البساطة، تحتاج عيوننا أيضاً إلى الجمال كي تسكر، بعدها يسكر القلب، ثم تسكر العواطف، أرأيت كم جميلةُ كلمة “العواطف” هذه، كلمةٌ من أفلام الستينات لكنها جميلة ونحن نقولها اليوم فنشعر بغباء النوستالجيا، ثم من قال إن حديثي هذا يضايق أحداً؟

قلت لكِ
الجسد بوّابتنا الأولى
باب الخطيئة
وأبواب مغفرة مؤجلة
أمرُه أسهلُ من الروح بكثير
وإلا لماذا كلما وقعتُ تحت قدميكِ كما أنا الآن
تألمتْ روحي
واكتفى جسدي بنوّارٍ أحمر من الدم؟!

اقتل شبحاً
رجلٌ هشّ صغير
متهم بخنق حبيبته
وامرأةٌ أضعف من أن تحمل سكيناً
متهمة بطعن حبيبها
حتى صار مصفاة بين يديها
كلاهما لا يعرف الآخر
لكنهما حين كانا يدافعان عن نفسيهما
كانا يؤكدان أنهما بريئان
يقول: لم أخنقها
كنت أنتقم من محبتي فيها
وتقول: لم أطعنه
كنت أحاول أن أفصل قلبي
عن محبّته!

قبلة
أمٌّ…
بعينين دامعتين من الفرح
تغسل بقعةَ المنيّ الغامقة
فوق ملاءة ابنها الوحيد.

أختٌ…
بتقزّزٍ فضوليّ شره
تزيل البقعة ذاتها

زوجةٌ…
بحرقةٍ في القلب
ستترك له البيت
بعد مشاجرة

حبيبةٌ…
ستكون أكثر طيبةً
وهي تتحسّس شعره
قبل أن توقظه بقبلة
على الجبين.

طاعة
محجّبةٌ
كلّما ضربها هواء الصبح
تكورتْ حبّتا كرز صغيرتان
تحت سوتيانها الرقيق
كأنّ حبيبها البعيد
همّ بمدّ أصابعه النحيلة
أو حتى
اكتفى بالنظر.

تسامح
الصائد الذي كان يتباهى بسرعته في اقتناص الفرائس
الذي لم تضنّ عليه الحيلة باللامع والجديد والمبتكر
الجالس الآن في الركن يمسح ضوء عينيه من مياه غامضة
كبُرَ…
لم تعد سرعته كافية لمباغتة الضحايا الجدد
صغيراتِ السنّ وبريئاتٍ
لكنهن يملكن فطنة الحرص
يحتمين من فخاخه وأسلحتُهنّ مخبأة في الملابس
لا يملكن خبرة الهروب من شباكه
فهنّ أصلاً لا يقتربن منها
لكنهن رحيمات به
يدعنه رغم ذلك
يمرّ جوارهنّ في سلام

الصائدُ
الذي كان يتباهى بسرعته في اقتناص الفرائس
أصبح متسامحاً
بل وامتلك بعد كلّ هذه السنين
ابتسامةً راضية
بعد كلّ هزيمة.

ها هنا رجلٌ
ها هنا رجلٌ
يحمل جاروفاً ويحفر الأرض، فيُخرج الجذور والعظام والمفاصل المهترئة والخطوات ودود الأرض، يحفر فيصطدم سكين جاروفه بقطع حجارة مسننة وورق شجر معطّن وأغصان ناشفة وشظايا زجاج وأغطية معلّبات وأعقاب سجائر، يعرق فتسقط قطرات عرقه فوق ساعديه فلا يشعر ولا ينتبه، لكنه يضرب بسكين جاروفه حتى يكمل مستطيلاً يكفي لإدخال الجسد المسجى خلفه، ملفوفاً في ملاءات بيضاء، وحين يلتفت لا يعثر على الجسد ولا على الملاءات ولا على المستطيل ولا على الأغصان ولا على قدميه.

الرجل الذي كان ها هنا
صار تحت عيني الصقر الذي يحوّم الآن بجناحيه في الأعالي
مستطيلاً محفوراً في الأرض
ينظر الصقر فيقول في نفسه:
هذا قبر حيّ يسير على قدمين
وما من شاهد واحد
يدل العابرين الطارئين
إليه ¶

* النصوص من مجموعة شعرية تصدر قريباً في بيروت.

النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى