لمناسبة معرضه الجديد في غاليري ‘الأندى’ في عمان: سكين على نصلها تلمع غواية العالم!
أسامة غنم
خلال الثمانينات كان يوسف عبدلكي مغرما برسم طاولة الفطور. طقس الالتهام الصباحي هذا يبدو حاضرا في كثير من اعمال الحفر التي انجزها في تلك السنوات والتي (أنجزت) سمعته بمعنى ما.
كان يوسف منفيا في تلك السنوات، استأجر مع هالة بيتا في الشومان فير (الطريق الاخضر)، بقي هذا البيت بيته حتى اليوم، في هذا البيت الضيق هناك منضدة خشبية واطئة غير متسقة، فيها فجوة وتضاريس كأي جذع شجرة حقيقي. أمام هذه المنضدة هناك مكتبة عليها التلفزيون تقسم حجرة الجلوس الى غرفتين: مرسم طاولة يوسف وراء التلفزيون والمنضدة الشهيرة خلفه. على هذه المنضدة وحولها مر الكثيرون عبر ثلاثين سنة، كبرت طفلة حولها، تغيرت بعض اللوحات المرصوفة على الجدران الضيقة حولها.
كانت تلك الطاولة طبعا طاولة غداء وعشاء ايضا لكل من مر.
كنت معه مرة على طاولة الفطور هذه عندما رن الهاتف وقام هو ليرد، أخبرته اخته ان أخاه مات.
نظرت الى الطاولة: كان هناك بيض مسلوق (أهميته انه ساخن كان يحلو ليوسف ان يقول لكل ضيوفه المفلسين في بيته ومرسمه) زيت وزعتر، مربى صنعته الام في دمشق وأتت به في الطائرة (هل لاحظتم كيف ان هناك ثلاثة اطنان من مربى المشمش في كل بيت سوري).
جبنة بيضاء مغلية فيها دسم وملح لا يشبهان شوارع باريس السوداء الممطرة صباحا في شيء، لبنة مرشوش عليها زيت زيتون (أتت به هالة) ونعنع وفليفلة حمراء مجففة ومطحونة (يحلو ليوسف ان يرشها على كل شيء)، وزيتون أسود معلب (هذا من اليونان او اسبانيا، يباع في السوبر ماركت الكبير) وطبعا ابريق الشاق الازرق (الشاي داخله خمير: من الهند، كثيف، غامق ورخيص يبيعه الاتراك هناك) السكرية، كاسات الشاي الصينية والملاعق بالطبع.
في الليلة قبلها استعار يوسف من اصدقاء لبنانيين شريط مسرحية (مدرسة المشاغبين) ولم يشتغل الشريط. وها نحن ذا في الصباح، وأمامي طاولة الفطور التي رسم يوسف مفرداتها كثيرا.
قرب تلك المفردات كانت أكوام من الجرائد والمجلات واشرطة الفيديو والعاب ليلى الصغيرة وجواربها.
تحدث يوسف مع والدته، بدأ الكلام ب (صباح الخير).
عاد يوسف بعدها بخمس سنوات الى سورية.
في استعداداته لتلك العودة، رسم يوسف قبضة مقطوعة، (تحية الى جيل السبعينيات).
المهم في ما جرى هو انه ولكي يثبت لوحة الفحم هذه يجب عليه ان يستخدم بخاخا اقل ما يقال فيه انه قاتل، تعاونا في اخراج اللوحة الكبيرة الى فناء البناية التي يحتل مرسم يوسف جزءا من طابقها الارضي المطل على الشارع، في ضاحية بانتان الباريسية المترعة بالزنوج والمغاربة والصينيين والبولونيين، تجول يوسف امام لوحته جيئة وذهابا وهو يبخ ذاك الرذاذ الكيماوي، كان العصر قد اقترب. رفعت رأسي الى بنايات الضواحي السيلينية تلك.
مجزرة اسلامية، هؤلاء مغاربة. حانة جزائرية بلا اي صورة وفيها اقدم جهاز فليبير في العالم. مطعم بيتزا برتغالي بعرض مترين يوصل الى البيوت، مشاوي تركية، فرنسيون مقدودون من البلاستيك وامراض المجتمعات، ما بعد الصناعة، الزنوج وميلهم الغريب للعمل في متاجر الهواتف النقالة وشراء الدجاج الحار من كنتاكي فرايد تشيكن، والاطفال،’اطفالهم جميعا، يركضون.
كانت هالة تراقب يوسف المتحرك امام اليد المقطوعة، ويوسف غارق في بخ قبضته تلك.
قبلها بسنوات قليلة رسم يوسف احدى تنويعات مجموعة الحفر اشخاصا بقياسات اكبر وبالفحم. خرج ليبخها بذات الطريقة وفي ذات المكان. اقترب أطفال زنوج من ساكني البناية ووقفوا يتأملون.
جنرال أعمى وعاهرة تفسخ جلدها وعنصر أمن أو ضابط ارتباط امريكي يدس عضوا في سترة الجنرال.
كان الاطفال قد ركضوا بين فرع الكنتاكي فرايد تشيكن وناصية شارع دنيس بابان المنعزل ببائع المخدرات الابدي عليها. وتوقفوا الآن ليتأملوا كوابيس الفنان الغرافيكية ورؤيته المنحرفة للعالم. ثم قالت له احداهن:
Ah que cest beauô
تذكرت تلك القصة وأنا أتأمل حركته الدؤوبة مع العصر الذي شارف على نهايته. أنهى يوسف بخ قبضته وساعدناه أنا وهالة في ادخال اللوحة.
في بداية تعارفنا حكي لي يوسف عن غلاف صممه لأعمال جميل حتمل القصصية الكاملة التي أصدروها بعد موته. أراد يوسف ان يرسم عصفورا ميتا. اشترى عصفورا من السوق وأتى به الى مرسمه. تأمله مطولا في القفص وعجز عن قتله.
(تكفي ضغطة صغيرة هكذا عند الرقبة) أشار لي بيده وضحك. (لم أستطع ان اقتله علما انني في طفولتي قتلت عشرات العصافير).
واصل ضحكه ونحن ندخل الى معرض الكتاب في مدينة المعارض جنوب باريس. تأملت خصلاته الفضية وهو يتجول بنشاط بين الاجنحة، وتخيلت العصفور الذي تركه يوسف يموت من الجوع في القفص بدل ان يهشم رقبته ليستطيع رسم غلاف لكتاب صديقه مؤلف القصص النزقة الذي مات منفيا.
كان هناك الآلاف في أجنحة الكتب التي ستستضيف غدا ربما معرضا عن الاقمشة او الدبابات. عاد يوسف فجأة وقال مندهشا: (هذا ثابات، انه ارجنتيني. لم وضعوه في جناح البرازيل؟!) ورفع امامي كتابا لمعلم الكاريكاتير الارجنتيني وقال شيئين تذكرتهما وأنا عائد في المترو: كيف ان ضابط أمن ارجنتيني صور نفسه في شريط فيديو وأرسله الى الرسام العجوز يهدده انه سيحمله في طائرة هيليكوبتر ويرميه فوق بوينس آيريس من ارتفاع خمسة آلاف قدم اذا لم يتراجع عن أفكاره. والتفصيل الثاني الذي ذكره يوسف باعجاب فظيع: (رأيت له معرضا هنا، نصف لوحاته رسمها بقلم حبر ناشف على أقرب ورقة وقعت تحت يديه…) وضحك بصخب بعدها.
لم يكن الكتاب للبيع. فكر يوسف بسرقته ثم عدل’عن الفكرة.
حول ذات المنضدة الصغيرة التي تشبه جذع شجرة ممدد في غرفة جلوس تحلق ممثلون سوريون قادمون الى مهرجان كان وسألوا هالة باندهاش: هذا هو بيتكم؟
في الصباح حكى لي يوسف عن والده الذي زاره في بداية الثمانينيات. ومشى مع المحتفلين في مسيرة اول ايار غير مصدق. ثم تشاجر مع يوسف لانه لم يأخذه الى سجن الباستيل، رغم ان بيت يوسف في الباستيل. (لقد هدموه، لم يبق منه سوى حجر في المترو في الاسفل) (ما هذا الذي تقوله! سجن الباستيل يا زلمة!!).
حكى لي هذه القصة وهو يطلعني للمرة الاولى في حياتي على (اللحم القديد) الذي ارسلته الام من القامشلي.
بعدها خلف الواجهة الممطرة للكافيه دي فار في ذات ساحة الباستيل يهزه مقال لجون برغر في اللوموند ديبلوماتيك عن معرض استعادي كبير لفرنسيس بيكون. كيف ان ناقدا في آخر حياته يمكن ان يراجع نفسه بهذا الشكل الراديكالي ويقول انه في النهاية يمكن لعمل فني ان يكون على حق والعالم بأسره على خطأ. او يصف ذكر النخل في واحة الفيوم في مصر. مغزل بلح اسمر كثيف ساخن دبق يلقح شجرة تصل الى السماء.
كنا نمشي ويتوقف مطولا امام واجهات الاحذية النسائية وأشرع بالدوران حوله برما. والجزار المغربي الذي لم يفهم قط لماذا يريد هذا العربي الأبيض والأحمر ان يشتري جمجمة بلا لحم الرأس الذي في داخلها. محاولات يوسف الدافنشية’لفكفكة او تنظيف الجمجمة وسباقه مع عفن الاسماك كمن يهرب من ظله والشمس في ظهره. الجزار المغربي يبتسم ويقول له: (شاهدتك على الجزيرة).
أصدقاء يعشش السرطان في أضلاعهم يقومون بسياحة طبية الى مرسمه في الضاحية قبل ان يعودوا الى قراهم ومدنهم الصغيرة في البلد. رسامون شباب ينصتون بتوجس لتلك المفاجأة الصاعقة: لن يبرز اي رسام عربي في هذه المدينة. ماويون من البحرين، رسامون فرنسيون فقراء، كتب تشترى من اجل غلاف. أغنية لعبد المطلب يشرح فيها منهج عمل (الناس المغرمين). متانة دورر، حداثة دومييه. عمق ليفيتان وتفوق تيرنر رغم انف الفرنسيين، صلابة كيتي كولفيتس الداخلية. اصالة برهان كركوتلي التي لم يقدرها هو، هم محيي الدين اللباد الثقافي، دماثة نذير نبعة، موهبة بهجوري وطفولته… عدم ضرورة وجود منهج فكري واحد لحراك يساري، أهمية كأس بيرة في منتصف الليل.
رقعة الشطرنج باعتبارها زنزانة منفردة لخيال يعشق استدارات النساء، عدم تفوق الكاريكاتير (الصامت) على الكاريكاتير (المتكلم)، رسام جزائري عجوز لا يعادله اربعة في العالم العربي يعمل في صب المفاتيح في باريس ويحلم فقط بتقاعد ما، كرم الحياة وسفالتها، قصائد ريتسوس الايروتيكية، ضرورة الخيانة العاطفية مضارها المهنية، كيف تنقسم حياتك الى قسمين اذا عذبك احدهم: ما قبلها وما بعدها، نصف ساعة حب حقيقية تبرر حياة كاملة من الغلاظة (لكن كم كانت جميلة تلك النصف ساعة، يقول راشفا شايه الحلو ومغمسا الجبنة البلدية الدسمة حيث تصهل سهول شمال سورية بخبز يحفظ كيماويا في متاجر باريس). عبودية ان ترسم كاريكاتيرا بشكل يومي، لماذا يضرب الأب ابنه كفا، كيف يتبدى معدن الرجال اذا وضعت اربعين منهم في مكعب وسخنته، ما هو الحفر والفرق بينه وبين الرسم (شرحه عشرين مرة ولم أفهم). شاعرية ان تمسك فتاة باقة زهور فتمتد احداها وتلثم حلمتها. رجل مربوط الأيدي العشرين، عار، حصان في باحة، امرأة فضية كهالة القمر، وطاولة فطور صباحية بينهم…
كم فطورا مر في تلك السنوات؟ والطاولة أما زالت هناك؟ كم درسا يوميا في الانصعاق والجندلة قدمه يوسف (أليس هذا هو عنوان المقطع الثالث في مرثية لوركا لصديقه مصارع الثيران؟)
كان أبي يردد دائما كلماته تلك:
(نم
حلق
اهدأ
حتى البحر يموت…)
وها هو يوسف يرسم اليوم عود ثقاب قد اشتعل في لوحة كبيرة.
سكين على نصلها تلتمع غواية هذا العالم وحده القاطع، عصفور ميت.
أتأمل خصلات يوسف البيضاء امام طاولة عمله.
أنقل عيني الى العصفور الميت في اللوحة.
حلق واهدأ
كاتب من سورية