من نقد السياسة إلى نقد الواقع!
ميشيل كيلو
لم يتوقف العقل العربي المعاصر عن نقد السياسة، منذ النهضة الأولى في القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا. وقد انصب نقده على نظم الحكم، والنظم الأيديولوجية التي تسوغها أو تساندها. كما غاص في التاريخ فتتبع مسار الحكم وسيرورات تشكله وقارن حاضره بماضيه، وعرض آراءه فيه، وآراء أسلافه من المفكرين، نقادا وفلاسفة وأيديولوجيين. ودرس جوانب شرعيته وشروطها، ودافع عنه أو صب جام غضبه عليه. وحمّله مسؤولية الاحتجاز والتأخر التاريخي، الذي يعيد إنتاج نفسه بصور حديثة وبراقة في واقع العرب الراهن، ويتكيف مع ظروف عصر رأسمالي يفكك الأمم ويقوضها، فيبعث هويات ما قبل وطنية وقومية هي الأكثر تقليدية ومحافظة ورجعية، ويغيب الدولة الحديثة، فلا يبقى لمجتمعات العرب، وهي لم تعرفها بعد، روابط تشدها بعضها إلى بعض، فتتناثر وتدخل في المجهول، بينما تغتب عن نظم حكمها منظومة مفاهيم وأفكار تنتفي السياسة الحديثة بغيابها، ولا يقع بدونها تقدم أو تنوير أو نهوض، فرديا كان أم وطنيا، قوميا أم إنسانيا.
ناقش العقل العربي المعاصر نظم الفكر أيضا، في تاريخنا وعند الغرب، وتابع تطورها ومراحلها، وعرض حقائقها وأباطيلها، وتتبع معاركها وخلافاتها، وقدم تفسيرات متنوعة لما قالته حول المسائل المختلفة التي عالجتها. واتبع في الحالتين نهج المقارنة والمقايسة، فعاب عليها بعض النقص هنا وبعض التزيد هناك، وتلمس نظامه البديل عبر مقارنة فوضى الحاضر بانتظام الماضي، أو فوات الماضي وركوده التكراري بالمقارنة مع ديناميكية الحاضر وثوريته، وأقام مشروعه السياسي عبر نقد ما هو قائم إما في ضوء الإسلام الأول أو على هدي مفردات ومفاهيم بلورها الواقع الأوروبي. فالنظم الجديدة، في النظرة الأولى، يمكن أن تكون استنساخا للنظم القديمة، إن تخلصت من عيوب حداثية شابتها، وهي، بالمقابل، قابلة لاستنساخ حداثي، إن قلدت النماذج الأوروبية. بدوره، لن يكون العقل الحديث مختلفا عن العقل القديم، إن تمت تنقيته من عناصر تغريبية، أو أعيد إنتاجه في حاضنة الأصالة. إلى هذا، لم يقلع عقلنا عن مقارنة نظم الفكر الأوروبي بما كان عندنا من نظم، انطلاقا من رؤية ترى في الأولى نموذجا يظهر عيوب الثانية، فقارن بينهما وقايس وقلد ونسخ … الخ، رغبة منه في بلوغ النظام الأمثل.
نقد العقل السياسي عقل السياسة وأنظمتها قديما وحديثا، عندنا وعند غيرنا. ومع أنه ليس من الخطأ اعتبار عقلنا السياسي تعبيرا خاصا عن واقعنا، في الماضي والحاضر، فإن من الخطأ النظر إليه باعتباره الواقع عينه؛ خطأ تصعّب خروجنا منه سيطرة الأيديولوجيا على فكرنا، وما نتج عنها من خلط بين الفكر والواقع، وجهل بأن الفكر مهما بلغ من دقة الوصف ومن التطابق مع موضوعاته، فإنه لا يزيل مسافة ما بينه وبينها، وغربة ما عنها، وأنها تبقى مستقلة عن تعبيراتها وخارج متناولها. وتبلغ الهوة بين الفكر والواقع أبعادا هائلة، عندما نقرأ مجتمعاتنا في ضوء فكر كان موضوعه مجتمعات أخرى، أو نقارن مجتمعاتنا بنموذج ما نعتبره كاملا، فيسد فكرنا، خلال المقارنة، نواقص واقعنا بعون من النموذج الكامل، متجاهلين أنه نموذج، ووضع لمجتمعات مختلفة عنا، يجعلها النموذج تجريدية، ليس لها وجود حقيقي.
أوقعنا منهج المقارنة والمقايسة في محظورين: إما اعتبار مجتمعاتنا الحديثة تكرارا عصريا لمجتمعاتنا القديمة، يتطلب الإكمال والإضافة، أو افتراض وجود طبيعة واحدة تخترق المجتمعات جميعها وتحتم سيرها في خط تطور واحد / تكراري، قطع بعضها شوطه إلى آخره فنضج واكتمل (أوروبا)، بينما سار بعضها الآخر على دروبه بهذا القدر أو ذاك من النقص. في الحالة الأولى، يشخص عقلنا ويتلمس ما يجب اقتباسه، استنساخه، من الماضي، وفي الثانية من النموذج الكامل، فيشبه ذاته الأصلية أو يكتمل بدوره. في هذا النمط من النظر، إلى مجمعاتنا التاريخية وإلى الآخر، يقبل الفكر افتراضا غير عقلاني يزعم أن المجتمع يمكن أن يوجد مرتين على صورة واحدة، أو يستطيع بلوغ الكمال، وأن الفكر يمكن أن يضع يده على نموذج معرفي / نظري بوسعه إحياء الماضي كما كان أو في جوهره الأصيل، أو أن يكون كاملا بدوره، وأن هذا الفكر الكامل والنهائي يمكن أن يتطابق مع نموذج واقعي ‘للمجتمع’، كامل ونهائي، فيبلغ هو والواقع نهاية تطورهما ويتخذان شكلهما النهائي والخالص. هاتان النظرتان، التقليدية والمقلدة تتحملان مسؤولية كبيرة عن فشلنا الفكري والعملي، وهما سبب قصور مزدوج نعاني منه في النظرية والواقع، وكانتا سببا مباشرا ورئيسا في نهاية مأساوية آلت إليها تجربة آمنت باستعادة الماضي عبر استحضاره أو الرجوع إليه، كما آمنت بكمال الحديث، واعتقدت أن نظريتها الكاملة أنتجت نموذج مجتمع يماثلها في كماله، فكان هذا النقص والتشوه سببا رئيسا لانهيار الاشتراكية السوفييتية.
ليس نقد السياسة بالمسألة القليلة الأهمية. لكن أهميته حتما تتضاءل بمرور الزمن، إن هو اخفق في الانتقال إلى نقد الواقع. وكما هو معلوم، هناك دوما هوة بين السياسة والواقع، لم ولن ينجح أي فكر سياسي في تجاوزها، ما دام يعبر عن واقع لا يتخلق دفعة واحدة، بل تظهر منه جوانب اكتملت شروط ظهورها، بينما يبقى غيرها مستترا، فتقتصر المعرفة بالضرورة على الجوانب الظاهرة، ويبقى الواقع في كليته أغنى من الفكر الواقع أغنى من احتمالاته كما كان يقول الفيلسوف الألماني هيغل – وخارج متناوله.
ثمة في كل سياسة جانب من الواقع، لكن الواقع في مجمله يتجاوز السياسة، خاصة منها الجزئية والعابرة، التي كان المفكر الراحل ياسين الحافظ يسميها ‘السياسوية’، أو سياسات الأحزاب والقوى الاجتماعية والسياسية الآفلة. يرجع ذلك إلى حركية الواقع وما تنتجه من أوجه وجوانب جديدة ومتجددة على الدوام، في حين تعبر السياسة عن الحاضر وحده وتراه من جوانب محددة وحسب، علما بأن التطور لا يفتأ يحوله إلى ماض، دون أن يعي السياسيون ذلك دوما وفي الوقت المناسب. لا تستحق السياسة اسمها، عندما تتجاهل حركية الواقع وتتوهم أنها تعبر عنه تعبيرا يتطابق مع حقيقته، مع واقعيته، المستقلة عن أية سياسة وأي فكر سياسي.
استمر نقد السياسة لفترة طويلة جدا، لم يلعب خلالها دورا يذكر في وقف تراجع وتدهور الواقع العربي. ولم يسهم نقد السياسة في إنتاج معرفة تساعد على تلمس آليات تطور واقعنا ومضمراته، وتجعله واقعا لنا. تقدم نقد السياسة، لكن الواقع تراجع وتدهور بصورة حثيثة. هذه المفارقة تسم حياتنا المعاصرة على الصعيدين الفكري/الايديولوجي والسياسي/العملي، وتؤكد حاجتنا إلى الانتقال من نقد السياسة إلى نقد الواقع، نقد المجال ما قبل السياسي وغير السياسي، ومن أدلجة الواقع إلى معرفته. ومع أن هناك من يتوهم أننا أشبعنا واقعنا دراسة وأبحاثا، فإن تراجع واقعنا وتهافته يمثلان تحديا جديا لعقلنا السياسي، الذي لا شك في أنه أسهم فيهما بسهم وافر.
قطع العقل العربي المعاصر أشواطا على طريق نقد السياسة، انتهت به إلى الدوران في حلقة مفرغة، حالت بينه وبين ممارسة تأثير جدي على الواقع ونظمه السياسية القائمة، فبدا وكأنه يتحدث مع نفسه، وبقي بعيدا عن موضوعه، أو بقي هذا بمنأى عن منظوراته ونقده. للخروج من هذا الاحتجاز، الذي يحول كلام العقل وخطابه إلى ما يشبه ثرثرة نخب عاجزة عن الفعل المؤثر، تمس حاجتنا إلى الانتقال من نقد السياسة إلى نقد الواقع، كي نصفه ونتلمس خصوصياته وملامحه، ونقدم مقاربة حوله تخدم سعينا إلى تحسينه وتغييره، وتربط وعيه النظري بالمعرفة من جهة، وبحراكه العملي من جهة أخرى، حتى لا ينقطع تواصلهما وتداخلهما وينتميا إلى دائرتين متباعدتين تخرجان الواقع من السياسة وتجعلانها غريبة عنه.
طالت أزمنة نقد السياسة. فلتكن أوليتنا من الآن فصاعدا نقد واقعنا، بما في ذلك السياسي منه، عسى أن يسهم نقده في كشف أسباب تهاويه السريع، الذي يأخذ السياسة ونخبها، المعارضة منها والموالية، إلى حال من العجز والضعف، قد لا ينفع معه في زمن غير بعيد أي فكر أو عمل! ‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي