رائحة القرفة لسمر يزبك لغــة الحـريـــة
انور محمد
تذهب سمر يزبك في روايتها «رائحة القرفة» إلى السرد الوقائعي، فتكتب رواية جديَّة بوعيٍ فني وتاريخي غير مسبوقٍ في الرواية السورية. وتطلق للسانها الحريَّة فلا تخاف من مقصِّ الرقيب، الذي ما يزال إلى الآن يمارس سطوته على العقل النقدي، والذي يذهب إلى قصِّ اللسان ـ اقتلاعه؛ وربَّما بترَ اليدين إذا لم يكْفِه قصُّ ما يقصُّ من الكلام.
الرواية تحكيُ لنا أنَّ (حنان الهاشمي) تصير زوجةً ثانيةً لابن عمِّها (أنور) بعد أن طلَّق زوجته الأولى التي لم تنجب له أولادا. فتكتشفُ أنَّه في الفراش مثل «تمساحٍ رخو»، وأنَّ لا ذريَّةَ في صلبه. وأمام هذه الإهانة لجسدها، تقيم علاقةً جنسية إنَّما «مُثلية» مع صديقاتها ومنهنَّ (كوثر)، ثمَّ ما تلبث وهي الثرية ـ من عائلةٍ ثرية تكاد تطقُّ من الغنى ـ أن تساحقَ مخدومتها (عليا)، التي جاءت للعمل في منزلها من أحياء البيوت التي أسقفها وجدرانها من الصفيح/التنك؛ أحياءِ الفقرِ والموتِ المنتشرةِ جنوب دمشق؛ إلى أن تجيءَ تلك اللحظة التي تقفز فيها حنان من فراشها ملسوعةً تحلم أنَّها تحوَّلت إلى امرأةٍ بخمس أذرعٍ وثلاثة أثداء، وهي تسمع هسيساً ناعماً، وضحكات خافتة، وأنيناً لملتاع. فتفتحُ باب غرفة زوجها فإذا هو عارٍ ممدَّد على سرير مثل نفقٍ عميق وسط الضوء، وكانت…عليا. فتطردها.
تجربة عنيفة
سمر يزبك هنا تكتبُ عن تجربةٍ عنيفةٍ لبطلتها، فهي ومنذ الأسطر الأولى تتسلَّل إلى دم القارئ بقوَّة، فحنان الهاشمي وإن كانت ضحية مستبدٍّ، ضحية ذكرٍ ليس له من ذكورته سوى الاسم، إذ هو كما فحصته في الفراش «تمساح رخو» ، فإنَّما كي لا تذهب إلى البطولة الكاذبة. فتفرجينا حنان و هي تندفع بغرورها المغلَّف بكبرياءٍ متوحِّشة، فتمارس السحق/السحاق مع (عليا) الفقيرة، التي أجَّرها أبوها لحنان كما لو أنَّها حيوان، بقرة، بغل. وحنان هنا كما تسردُ سمرُ تعيشُ غرائزها بانفعالاتٍ مباشرة، فتذهب من الشجاعة إلى الفجور، لأنَّ الغنى وعنانة زوجها ألغيا أحاسيسها، فلا شفقةَ عندها، فصارت تدمن السحاق، ففيه ملاذها، متعتها. حيث انفجارات الجسد ـ ينفجر جسدها بالحياة، فلا نرى وعلى مسار الزمن الروائي سوى غرائزه الجنسية وهي تضجُّ/ تصرخُ بالحياة؛ أنْ لا حياة إلا بالجنس، فلا حبَّ، ولا عشقَ. لا سيما أنَّ زوجها أنور وقد تربَّيا في بيتٍ واحد ليس أكثر من أخ، هكذا تشعر تجاهه أنَّه أخوها وليس زوجها. وكأنَّ سمر يزبك تقوم بإجراء تحليلٍ نفسي لسلوكهما/ اندفاعاتهما؛ فأنور يمارس الجنس مع مخدومتها (عليا)، فيما يخفق، يتحوَّلُ إلى تمساحٍ إنَّما رخوٍ معها. فيعيشان خواءً ذهنياً؛ سأماً؛ و يرتادان آفاقاً فارغةً فلا أمل. وها هما يثبتان عدميتهما، بل تفاهتهما، ذاتهما الخرعةِ العاجزةِ عن فعل أيِّ شيءٍ ينتصر للحياة في أعماقهما.
سمر يزبك هنا بعكس غيرها من كتَّاب الرواية السوريين، فهي لا تزجُّ شخصياتها فتكون نسخةً عنها ـ هي تعطيها أبعادها الإنسانية فتنسج خيوط مأساتها في الزمان والمكان المفترضين، فنكون مع رواية (وقائعية) فيها شيءٌ من ملحمية، وليس مع رواية (ذهنية) ليست أكثر من خطاب نظري محشوٍ بالمواعظِ والأمثال المنزوعة من كتب الورَّاقين. فالرواية «رائحة القرفة» ليست سرداً لوقائعِ علاقةٍ جنسية «مثلية» بين حنان وعليا التي تشتغل عندها خادمةً كما يبدو للقارئ. بل هي دفاعٌ عن الجسد فلا يخم، يتعفنُّ، ومن ثمَّ ينشر روائحه الزنخة، ويجبرنا على استنشاقها على أنَّها رائحة الحريَّة.
فـ«عليا» التي باعها أبوها وتحوَّلت إلى سلعة، كانت تنتظر فرصة التصدِّي و الانتقام من «حنان» فتخرج من سجنها، سجن امتهان أنوثتها، وتهرب إلى مستقبلها، تهرب من لحظةٍ عدمية يتمُّ الاعتداء/ العدوان عليها على أنَّها ضحية، فيما حنان جلادها. فالأغنياء جلادون والفقراء ضحايا. سمر يزبك تتعاطى مع السحاق/المثلية الجنسية كجسرٍ تفرجينا من خلاله توسُّعَ وتفسُّخ وانفجار القيم عند الأغنياء، فنشوف توحُّشهم وقد صاروا سفاحين. نشوف أعماقهم المظلمة، عدميتهم. فساد أرواحهم، قسوتهم على الفقراء وهم يعيشون حياة لا أخلاقية.
جنوح
رائحة القرفة فيها تصويرٌ فظيع لما يمكن أن يفعله الأغنياء بالفقراء، فيفترسون جسدهم ـ الجسدُ هدفٌ ـ في الفراشِ، في الأسواق، في ساحات المعارك، في غرف التحقيق، على المشرحة. فيتمُّ تدجينه، يتمُّ استهلاكه كما فعلت وتفعلُ حنان مع عليا، وحبَّذا لو كان جسداً مفرطاً بحساسيته وعاطفيته؛ كما هو جسد عليا الذي لم يكشف عن فسقٍ حسي وفيزيائي كما تريدُ له حنان.
سمر يزبك في رائحة القرفة ـ القرفة التي تبعث الحرارة والدفء؛ تذهبُ نحو كشف عملية التفاعل الجدلية القاسية بين المواطن السوري ومستقبله الذي صار يبحث عنه في حاويات الزبالة ـ عليا كانت تنتشل لقمتها من الحاويات قبل أن تشتغل خادمةً عند حنان ـ وفي فراش القابضين على الثروة والجاه. الرواية ليست من شبق، أو هي تصوير لدقائق الفعل الشبقي بين «المثليين»؛ هي مصنوعةٌ من أحداثٍ صغرى، ولكنَّها تفجِّر مأساةَ مواطن/ إنسانٍ لا يعيش حياةً تليق بكرامته. روايةٌ تقيم مواجهةً بين شخصيتين متناحرتين؛ حنان الهاشمي التي فرَّت إلى غرائزها ـ بغرائزها من جحيم الذكورة «العنينة»، إلى جحيم الفعل الأخلاقي المنافي لقوانين الطبيعة التي تربط بين جسدين مثليين، وكأنَّها تفتح نافذةً من جسدها إلى جسد عليا، فترى جسدها، تعثرُ عليه، على حواسِّهِ، على لذائذه في الجسد المثلي الآخر، فتتركه يقذف كل ما قرأه وتعلَّمه في نشاط حركيٍ تعبيري؛ سواءً فيه إثارةٌ واستفزاز، أو تسليم وقبول.
حنان الهاشمي وليس عليا في مثليتها وجنوحها في الرواية، هي تحاول أن تفرِّغ توتُّرها، قلقها، جنون أحاسيسها العصبية في الجسد ـ جسد الآخر، باعتبار أنَّ الجسد ـ جسدها لم يعشْ تجاربه الخاصَّة في إشباع غرائزه، فتفرجينا سمر يزبك رغباته العنيفة/ عدوانيته على جسد الآخر الذي يماثله، فيريدُ يعيش الكائنَ والعدمَ لحظة استلابه ليستردَّ واقعه، يستردَّ مطلقاً وقد عبث به، فجسدها كما ذكرنا آنفاً ليس جسداً للحب، بل هو جسدٌ مستبدٌّ، جسدٌ متسلطٌ، جسدٌ لسلطويٍ يمارس نزواته وينشر عهره.
وهذا ما يدفع حنان للبكاء، ولعمل أيِّ شيءٍ من أجل أن تستردَّ/ تعود عليا، فخسارتها بها كبيرة. فتركبُ سيارتها وتجوب فيها طرقات دمشق بحثاً عنها، فلا تجدْ ـ وكأنَّنا مع لقطةٍ سينمائية ـ سوى شوارعَ خالية؛ إلا من أسراب الطيور البعيدة وقد طارت فزعةً، فتكشف مرَّةً ثانيةً عن توتُّرِ، وقلقِ، وعدميةِ حنان وعبوديتها لغرائزها. فيما تذهبُ، تهربُ عليا إلى الحرية.
[ صادر عن دار الآداب بيروت 2008