فـريـد والعسكري
هيفاء بيطار
لم يتردد فريد في الصعود إلى الباص على رغم تحذير السائق ومعاونه للركاب بأن ثمة خطورة في السفر، لأن الثلج الذي تساقط طوال الليل في حمص وجوارها قد قطع الطريق، وبأنهم ينتظرون جواباً قاطعاً من الأرصاد الجوية. قدّم فريد بطاقة السفر وهويته للموظف الذي رمقه بنظرة تعجب قائلاً: يبدو ان سفرك ضرورياً جداً يا عم!
ابتسم فريد وهو يهزّ رأسه موافقاً، ومشى بخطواته البطيئة إلى مقعده، فكّر ماذا لو يعرف هذا الشاب أني أسافر لسبب وحيد هو البحث عن دفء إنساني، وأنه ليس لديه أي سبب للسفر سوى أمله ان يلتقي صديقاً او انساناً مثله يبحث عن علاج لسرطان الوحدة.
جاء جواب الأرصاد الجوية، أن الطريق سالك بصعوبة، وثمة خطورة في الرحلة، لكن الباص سينطلق في كل الأحوال. تأمل فريد الوجوه القلقة للمسافرين وتراجع معظمهم عن السفر، استعادوا ثمن بطاقاتهم، معهم حق، السفر في هذا الطقس مغامرة خطيرة، لكنه لن يتراجع، يستحيل ان يعود الى البيت، حيث يذكّره كل ركنٍ فيه كم هو مخذول ووحيد. شعر فريد بفرح ٍعظيم حين انطلق الباص، ياه سيتمكن من الهروب من وحدته لساعات طويلة باحثاً عن صديق قد يلتقيه في الرحلة.
تقاعد فريد منذ خمس سنوات، وعلى رغم تصوره المسبق لتلك المرحلة، ومعاينته حياة المتقاعدين، إلا انه لم يتوقع ان مرحلة التقاعد مبطّنة بآلام نفسية لا تحتمل حتى انه سمّاها في سرّه مرحلة الذل.
ساعدته حركة الباص البطيئة على الاسترخاء، أغمض عينيه، مستمتعاً بصوت كاظم الساهر يغنّي أشعار نزار قباني، حرّك فيه الصوت اشجاناً، وانفلتت صور من حياته في ذاكرته. منذ تقاعده، لا يمر يوم إلا انتقادات زوجته تنهال عليه كيف تدخل المطبخ، ألا ترى الأرض مبتلة، فقد مسحتُ البلاط للتو، وتتأفف مرددةً العبارة نفسها، بأن جلوس الرجل في البيت ثقيل ومزعج.
حتى ابنه الوحيد خذله، يعجز فريد عن الربط بين الطفل المرح المبتسم والمولع بوالده، وبين الشاب الذي صاره، شاب غاضب على حدود الانفجار، ناقم، وحاقد على الظروف وعلى الدنيا كلها، وعلى والديه اللذين أنجباه الى دنيا الشقاء.
مسكين ابنه، مساكين كل هؤلاء الشباب المحبطين، لم يكن فريد يعاتب ابنه البتة على جفائه وقسوة ألفاظه حين يتحدث إلى والده. كان يتألم لظروفه حقاً، فقد تخرّج من الأكاديمية البحرية بعد دراسة لخمس سنوات كلفت فريد الكثير من المال، بل لقد دفع كل مدخراته من اجل دراسة ابنه، لكن الشاب فوجئ بأن الشهادة غير معترف بها، فأخذت تنتابه نوبات من جنون الغضب، ويتفوه بأبشع الشتائم غير مبال بوجود أب مذعور يحدّق بابنه بألم غير مصدّق ما يسمع.
حاول فريد ان يبث شيئاً من الأمل في نفس الشاب، لكنه كان يخرج مجروحاً وخائباً في كل مرة يتحدث إليه، وخصوصاً حين يُختم الحوار صراخ الشاب المحدق بقسوة بوالده: لماذا أنجبت اولاداً في بلد يتلذذ بتدمير أولاده، أي ذلٍّ هذا أحصل على شهادة تكلف الكثير، ثم يقولون انه غير معترف بها.
هجّ ابنه من البلد بعد معاناة شرسة مع ذل البطالة، ألقى نفسه في المجهول تاركاً اباً مشلولاً بالألم، عاجزاً عن فعل شيء، بل صارت كل عبارة يتفوه بها فريد تثير السخرية والسخط عند ابنه. حتى زوجته خذلته حين قررت بعد سفر ابنها ان تنتقل للعيش مع ابنتها في دبي لتساعدها في تربية الأولاد.
اعتنِ بنفسك! صار اهتمامهم به يقتصر على اتصالات تزداد تباعداً يوصونه فيها أن يعتني بنفسه.
يوماً بعد يوم يشعر فريد كيف تحوّل عيشه إلى إحساس دائم بالمرارة، وكيف صار كل صباح يحاذر ان ينظر إلى وجهه في المرآة، لأن مقدار الأسى والمرارة المرتشحين في ملامحه يفوق قدرته على الاحتمال.
مع الوقت، وجَدَ فريد نفسه متمادياً في وحدته، كما لو ان وحدته غاز يتمدد في داخله أكثر فأكثر. حتى زملاؤه في العمل الذين كانوا يرحبون به حين يزورهم صاروا يتهربون منه، ويدّعون أنهم كثيرو الانشغال، وحده يعرف ان لا عمل لهم سوى الثرثرة، تخلوا عن المظهر الوحيد الذي يشعره بدفء العشرة والزمال،ة تقديم فنجان قهوة.
كفّ عن زيارة زملائه في العمل، وحاول ان يُقحم نفسه في عادات التقاعد، لم يطق الجلوس في المقاهي لأنه لم يتحمل سحب دخان الأركيلة، وجعير المذياع وعرف بحدسٍ مؤكد انه لن يتمكن من اقتناص صديق من هذه المقاهي المسعورة كما سماها. متعته الوحيدة المتبقية، هي المشي، يمشي كل يوم لساعة أو أكثر مستعيداً على مهل مراحل من حياته، منتهياً كل مرة الى ما آلت إليه حياته، يستعيد أصوات زوجته وابنه شاعراً انها متسلطة عليه، ليس فيها دفء ولا رحمة ولا مودة.
لم يقرر انه سينجر إلى عادة السفر من محافظة إلى محافظة ومن مدينة إلى مدينة بحثاً عن صديق يحتمل ان يلقاه في الباص او في استراحة المسافرين.
صدفةً وجد نفسه ذات صباح وأثناء إحدى رحلات تسكعه، يقف وراء طابور من المسافرين إلى دمشق. اشترى بطاقة، وصعد إلى الباص. جلس وسط خمسة وأربعين راكباً، شاعراً بمتعة لا توصف بأنه محاط بهذا الدفء البشري. أخذ يتأمل الوجوه خلسةً، يبتسم لها ويتمتع بتنوع تعابيرها. في استراحة المسافرين، تبادل أحاديث عابرة مع رفاقه في السفر، ثم وصل دمشق، تسكع لساعة في شوارعها. اشترى أشياء لا تلزمه، ثم عاد إلى اللاذقية ممتناً لذلك الإلهام الذي قاده إلى السفر.
كان يشعر كيف يمنحه دفء الحديث اماناً وقوة، متنبهاً ان الغرباء يبوحون لبعضهم بالأسرار بثقة، ربما لتأكدهم انهم لن يلتقوا مرة ثانية.
تحوّل السفر إلى عادة عند فريد، يسافر مرة في الاسبوع الى دمشق او حمص ويعود متعباً الى بيته لكن سعيداً. يتحايل على وحدته، ليدخل شيئاً من الدفء الى روحه المتيبسة من غياب الحب.
وصل الباص الى استراحة المسافرين في حمص. الثلج يغطي الطريق والجرّافة تعمل بلا كلل. أحس بالبرد يخترق عظامه. ياه، أي جنون ان يسافر في هذا الطقس باحثاً عن صديق، متسولاً دفئاً بشرياً صار عملة نادرة في هذا الزمن. فكّر ان صقيع العلاقات البشرية يفوق صقيع كانون.
رشف الشاي، محاولاً تدفئة جسده. غمرته شفقة عارمة على نفسه، كان صوت الريح في الخارج يضخّم إحساسه بالأسى والمرارة المعششين في روحه. أي ذل ان يضطر كهل وحيد ان يسافر في طقس ثلجي وفي رحلة محفوفة بالأخطار ليتسوّل عاطفة!
قرّر ألاّ يكمل سفره الى دمشق، لأن آلام مفاصله اشتدّت عليه بسبب عضّات البرد. سيعود أدراجه الى اللاذقية. تخيل كيف يدخل بيته الموحش المعتم، وكيف يتناول عشاءه البارد وهو واقف في المطبخ، ثم يندس في فراشه باحثاً عن وضعية او طريقة لتهدئة ألم الوحدة الذي لا يعادله ألم على الإطلاق.
فيما هو يتقدم الى شباك التذاكر، ليشتري بطاقة العودة، انتبه لرجل يماثله في العمر ويبتسم له. بادره الرجل بالتحية: حضرتك مسافر الى اللاذقية؟
رد فريد: نعم.
– أتمانع ان اجلس بجوارك، نؤنس بعضنا في الطريق.
تراقص قلب فريد فرحاً ورد بحماسة: على الإطلاق.
شعّت ابتسامة الغريب في روح فريد، كشعاع شمسٍ واهٍ يشق غيوم الكآبة الرمادية. وكضربة سحر، تفجّر حديث مفعم بالدفء والعذوبة بين الكهلين. حديث لذيذ حيوي فوق التصور.
ضحك الغريب وقرّب فمه من أذن فريد، وقال له: سأعترف لك بسرّ. يا للحرية التي يعطينا إياها الغرباء.
التمعت عينا فريد بالاهتمام والتشوّق لمعرفة السر.
قال الرجل: أتعرف، أنا اسلّي نفسي بالسفر من مدينة الى مدينة، كي اقتل الوقت وأتحايل على الوحدة قبل ان يقتلاني. أولادي بعيدون، حاولت لسنوات ان اقنع نفسي بأن مشاغلهم تمنعهم من الاهتمام بي ولقائي، لكني استسلمت اخيراً، وكما ترى اهتديت لهذه الطريقة.
انفجر فريد بالضحك، فيما دموع التأثر والعرفان تنهمر من عينيه. وبصعوبة تمكن من صوغ عبارته: أنا مثلك يا أخي، انا مثلك تماماً، أسافر بحثاً عن صديق.
دعاه فريد إلى بيته، لم يتردد الرجل في قبول الدعوة. أشعل فريد النار في الموقد واتصل بمطعم قريب ليرسل له عشاء فاخراً. ثم أحسّ بلهفة غير عادية ليرى وجهه في المرآة.
يا للدهشة، حدّق فريد في صورة الرجل المرتسمة في المرآة. وجه يشفّ عن ابتسامة غريبة، فائقة العذوبة، ابتسامة روح أضناها الحرمان، وعثرت على الكنز المفقود اخيراً: دفء بشري.
(سوريا)