صفحات ثقافية

رسائل الكترونية

null
عناية جابر
في نظرة سريعة الى ملفات التراسل المحفوظة على كمبيوتري، أجد أن البلاهة التي سادت رسائلي في بدايات اشتغالي على الانترنت، قد أسقطت الجمال الفعلي الذي وددت تظهيره في رسائلي المكتوبة الى الآخرين. لو كان لي أن أختار الآن رسائلي المفضّلة، لما اخترت أيّ واحدة من التي كتبتها منذ سنة وما قبل. رسائل واهمة، ميّالة للشكوى، مضروبة بالعاطفة ومرجومة، لأنها تُصر على أوهامها.
رسائل بلهاء تدفعني الى البكاء من بلاهتها. بلهاء فعلاً، لأنها لا تُقدّم حججاً لوجودها، وتطلب من الآخر في آن، أن يُصدّقها ويؤكدها ويعترف بوجودها.
ملفات ضخمة تحفظ رسائلي، أشعر الآن أنها تنتمي لغير هذا العالم. تنتمي لحالة غريبة من المحال مُغادرتها، لكن أيضاً من المحال بلوغها. رسائل راسية في هذيانها الخاص، حيث لا شيء في الواقع يُمكنه أن يمسها. ربما لهذا السبب تُبكيني هذه الرسائل. بلاهتها ورقّتها غير المبررتين لدى الآخر المُلوّث بالحرص، والبعيد تماماً عن الرومانسية.
بسبب من رسائلي البلهاء، لا أشعر بالضرورة بعقدة ذنب، بل بوفرة انزعاج على إثرها فقدت أدنى رغبة في اقتراف رسائل شعورية ساخنة وحقيقية. بإغفالي الآن أية عاطفة في سطوري الى الآخر المُرسل إليه، اختفت تماماً لحظات مُعينة من السعادة، ولم تعد غبطة كتابة رسالة الى أحد تعنيني، بالضبط كما كانت.
كلمات السّر هي السائدة في مُعظم الرسائل الآن. كلمات مُشفّرة عليها أن تضبط وجود الخفقات والارتعاشات وسوى ذلك ..
كلمات تُشبه تلك المُعتادة للمراسلين على جبهات القتال، تحرص على إبقاء العواطف السيالة في محيط استبدادي ومُحدّد. أسود أو أبيض. خطأ أو صواب. رسائل إلكترونية بنظرة استعارية، فيها إشارة الى انتهاء زمن البراءة والصدق. المُرسل والمرسل إليه محصوران في زاوية ضيقّة من الغايات. اللعنة على التفاصيل، إذ يحتاج الواحد منّا في كتابته رسالة، الى الكثير من التماسك وسط هذا التغيير البطولي لكل شيء في العالم.
من كتاب الصلوات المُحرّف: (يكشف الله ما نعجز عن فهمه في سطوع تامّ، أماّ ما يمكننا فهمه، فيُخفيه وراء ألغاز). غالباً ما تراودني مثل هذه الفكرة: إن الانطباع (المزيّف) الذي تُعطيه مُكاشفاتنا الساخنة لمن نُحب، يجعله لا يُصدّق أن الخيار أمامه مفتوح على مكاشفته لنا بالمثل. أقول لنفسي (أنا رقيقة بطبعي، وعاطفية، لكن يُساء فهمي في عقل آخر، في مكان آخر، وعليّ أن أكتب بشكل مُختلف). كما لو أنني أقول: (يمكنني أن أكون عاطفية، لكنني في الرسائل يجب أن أكون إنسانة أخرى).

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى