صفحات ثقافية

“الحادث” رواية إسماعيل كاداريه في ترجمة فرنسية: ميثولوجيا السيارات القاتلة

null
اسكندر حبش
عن منشورات »فايار« في باريس، صدرت مؤخرا الترجمة الفرنسية لرواية الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه »الحادث«، هنا كلمة عن الرواية.
ينتمي الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه إلى تلك الفئة من الكُتّاب الذين لا تمنعنا شهرتهم الواسعة، من متابعة أعمالهم، بل على العكس من ذلك، نجد أن كلّ كتاب جديد يصدر له، لا بد أن يشدنا إليه وإلى قراءته، مثلما يشدنا إلى هذه الكلاسيكية المتينة في البناء الروائي، كما إلى زياراته المتكررة إلى الكُتّاب الكلاسيكيين، مثلما نجد في بحث أخير حول إحدى الأساطير الشكسبيرية التي يعنونها »هاملت، هذا الأمير المستحيل«. بيد أن روايته الأخيرة »الحادث«، تبدو في سياقها وكتابتها (أسلوبها) أقرب إلى المعاصرة، بمعنى أن حضور ظلال بعض الكُتّاب المعاصرين، من خلال رؤاهم، ليس سوى نوع من الشهادة على هذه المحاسبة ما بين العمق الخالد والشكل المعاصر. محاسبة إن دلت على شيء فهي تدلّ على هذه السمة العائدة فعلا للأعمال الكبيرة.
من الصعب علينا فعلا أن لا نتذكر شارل بودلير عندما نقرأ هذا الكتاب الذي يشبه بسماته العامة الرواية البوليسية، بالرغم مما يثير ذلك من غرابة، ومن أن اسم الشاعر الفرنسي لا يظهر أبدا في الكتاب. نحن أمام حادث سيارة يسبب مقتل شخصين، رجل وامرأة. شخصان يثيران الحذر عبر مظهرهما، أما سائق التاكسي، فيبقى، من جهته، في الغيبوبة لمدة غير قصيرة. وعندما يستيقظ يجد نفسه محاصرا من الشرطة من أجل أن يقدم تفسيرا منطقيا في كيفية فقدانه للسيطرة على سيارته، إذ ما من أثر لأي فرامل على الأرض، بمعنى آخر أن السيارة خرجت ببساطة عن طريقها لتسقط في الوادي من دون أي تفسير منطقي. فيبدأ بالشرح بأنه كان فقط منسجما وبعنف مع هذين الشخصين. والسبب؟ إن صدقنا ما قاله السائق فإنهما »لم يفعلا شيئا، لا شيء البتة، سوى أنهما كانا يقبلان بعضهما بعضا«. تفسير غريب بعض الشيء، لكن لم يكن في كلامه أي ندم أو أي نبرة من الكذب. كانت القبلات الشيء الوحيد الذي هو على يقين منه، من هنا جاء كلامه دقيقا ومضبوطا من دون أي تشوش. أمام ذلك، فلم تستطع الشرطة تقديم أي تفسير منطقي للحادث، فطوي الملف ضمن خانة »الحوادث ذات النوع النادر«.
عناصر غير مفهومة
كان يمكن للقضية أن تُنسى، إلا أن المشكلات الأمنية التي كانت تشهدها بلدان يوغوسلافيا السابقة، أجبرت الشرطة على التوسع في التحقيق، إذ كان القتيلان ينتميان إلى تلك البلاد. تتدخل المخابرات الصربية والألبانية للتعمق في البحث ولإيجاد تفسيرات مقبولة، لكن من دون نجاح. إذ إن كل العناصر التي كانت تتوصل إليها تبدو في النهاية عناصر غير مفهومة، غير متناسقة ومتجانسة، غير منطقية. إلا أنه، في خضم ذلك كله، يقرر رجل واحد ولسبب مجهول (رجل نجهل كل شيء عنه، اسمه وأصوله ودوافعه) أن يشرح هذه القضية وأن يجد لها التفسير الملائم وكاد ينجح في ذلك كله. يعود ليجمع المصادر منذ البداية، يحقق مع الشهود، لا يترك دليلا أو أثرا حتى ولو كان تافهاً وعابراً إلا ليعود ويتحقق منه. لم يهمل أي شيء، إلا أنه يصطدم بأمر أساسي، كل المفاتيح والفرضيات التي توصل إليها لم تكن مفاتيح علمية. من هنا كان عليه أن يعود ليتخيل قصة أو »أسطورة« أو على أقل تعديل أن يعود ويتخيل شيئا في ما وراء الكلمات. هذا التخيل هو الذي يشكل الثاني من الكتاب الذي يبدو أشبه بسرد يعتمد على الحلم بشكل أساسي. جزء يقطع بشكل أساسي مع النبرة التي كانت مسيطرة على الجزء الأول، المختصر إذا ما قارناه مع حجم الجزء الثاني.
ينحو كاداريه في هذا السرد إلى نوع من التشويق المثير للرعب، المؤدي إلى الخوف من هذه »الجريمة« ذات السلطات غير المحددة، ومنها ينحو إلى كتابة نوع آخر من القلق الذي يثيره في نفس القارئ. لكنه لا يتوقف عند ذلك كله، إذ تتحول الرواية إلى رواية حب، نصف غوطية، نصف عادية، يلفها نوع من الألوان الغامضة المعالم. إذ حاول هذان الشخصان أن يقوما بعمل غير مفهوم، غير عادي، لا يصدق.
في هذا السرد الذي يكتبه كاداريه والذي يحاول فيه أن يقبض على هذه التجربة المميزة، لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الإصغاء إلى بعض أبيات بودلير من »أزهار الشرّ«، وأن نقف مجددا مسمّرين أمام هذه الأبيات التي تنساب منها هذه الميلودية المخبأة داخل الكلمات التي يكتبها الروائي الألباني. لكن إصغاءنا لهذه الكلمات، لا يفسد علينا الانتظار الطويل، لا يمنع عنا هذا التساؤل الصامت من دون أن يضيق الخناق على نفس القارئ. إلا أن هذا البحث المستحيل، حيث نجد انه من الصعب اقتياد الحب والجريمة إلى التحليل، بل يتقدمان إلى الحلم مثلما كانت تقوم بذلك القصائد البلقانية القديمة العائدة لقرن ونصف من الزمن، وكما فعلت ذلك قصيدة بلقانية أخرى عائدة إلى القرون الوسطى التي تروي سيرة ياغو يمري والتي تتشابه مع ما يكتبه كاداريه.
أسطورة معاصرة
وبين ذلك كله، نكتشف المحاولة التي قام بها كل من روفينا وبيسفور، الشخصين اللذين قتلا في حادث السيارة، وهي محاولة مرعبة تقع في زمن آخر، زمن مجاور للميثولوجيات، ومع ذلك فهي معاصرة وراهنة للتحقيق الذي يرتجله هذا المحقق المجهول. لكن هل نجحا في هذه المحاولة، المبهمة، التي لا نعرفها حقا؟ لا شيء أكيد في هذا المناخ، لا شيء مفهوم في هذا الفضاء الذي لا تعرف إن كان ينتمي إلى الواقع أو إلى الخيال، بالأحرى إلى الأسطورة. فالرواية كلها تقع في هذه البنية الدرامية الكبيرة، حيث تنتفي منها كل الشروحات المنطقية، وكان الكاتب يرغب في أن يجعلنا نقع بدورنا في شرخ هذا الفخ الذي لا نعرف كيفية خروجنا منه. بمعنى آخر، يواصل اسماعيل كاداريه لعبته الجميلة في نسج أساطير وألغاز تشد القارئ، مثلما نجد في روايات عديدة سابقة له.
إسماعيل كاداريه، كاتب الإيهامات والأساطير المعاصرة. أسطورته هنا، لا تشــذ بدورها عن البلقان، هذه المنطقة الغارقة في سورياليتها إذا جاز التعبير. ففي ذلك المناخ الذي ينحو دوما صوب دراميته، يكتب لنا كاداريه رواية تحاول أن تتساءل عن معنى هذا العصر المتجه إلى نهايته، بسرعة قصوى.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى