الحقيقة عن غزة
مازن كم الماز
دعونا من الجدال و الكلام المنمق و الأخذ و الرد , دعونا نسمي ما يجري كما هو , إنه زمن الإمبراطورية أيها السادة , إنه زمن الهيمنة , إنه زمن الأساطيل و الدبابات المتطورة التي ترسم على الأرض حدود الإمبراطورية و تفرض سلطتها في كل مكان , ليس أن صدام غبي أو مجرد ديكتاتور , ربما كان أكثر دموية هذا صحيح , لكن تمت الإطاحة به بسبب حاجة الإمبراطورية فقط , أما من تبقى من هؤلاء الطغاة فإنهم سيستخدمون حتى إشعار آخر لأداء ذات المهمة التي تريدها الإمبراطورية من طغاة محليين : أن يحكموا باسمها و لحسابها..إن طغاتنا الأقزام , المعتدلين , ليسوا إلا نوابا عن الإمبراطورية من بني جلدتنا , أما طغاتنا الممانعون فهم طغاة تتعارض مصالح الإمبراطورية مع استمرار ديكتاتورياتهم على ظهورنا , و هم يحاولون إما إقناع الإمبراطورية بتغيير رأيها أو يحاولون بكل الوسائل , خاصة بدماء الناس في كل مكان , تأخير أو إعاقة تقدم جيوش الإمبراطورية إلى كراسيهم لكي تطيح بهم و تنصب ممثلين أفضل عنها لحكمنا..أما الفلسطينيون فهم الهنود الحمر المعاصرون , الذين يجب استئصالهم لأجل بناء مستوطنة جديدة ( لليهود هذه المرة و ليس للبوريتانيين ) , النقد الأساسي الموجه اليوم لحماس و لأي مقاومة هو أنها تنحر الشعب الفلسطيني بيد الإسرائيليين , لأن هذا هو مصير الهنود الحمر المحتوم , لكن لأننا في عالم مجلس الأمن و إعلان حقوق الإنسان البرجوازي , لن يجري ذبحهم إلا عند الضرورة , يمكنهم الذهاب بعيدا , يمكنهم حتى العيش بشيء من السلام خلف الجدران العازلة و حواجز جيش “الدفاع” و في معازلهم وحتى بحراسة عسس من جنسهم , بل إن العالم المتحضر سيمنحهم الطعام و المأوى إذا تصرفوا كخدم مطيعين للمستوطنة المجاورة كما فعل لبعض الهنود الحمر الذين لم يقاوموا جزارهم الأبيض قبل إنجاز استئصالهم التام , تمثل سلطة رام الله سلطة آخر ملوك الهنود الحمر الذين استمدوا سلطتهم من رضا الرجل الأبيض و كانت مهمتهم البحث مع السلطة البرجوازية الناشئة التي كانت تقضم أراضي الهنود عن معازل جديدة لا تغري الباحثين عن الذهب بيض البشرة , النقد الأساسي يتمثل اليوم , كما في تموز يوليو 2006 , في الخسائر التي يستطيع الجيش الإسرائيلي إنزالها بشعوبنا المكشوفة و التي تحدد معنى الهزيمة و النصر , يمكننا كهنود حمر أن نعيش بسلام فعلا , إذا قبلنا بشروط المستوطنين الصهاينة , خليفة المستوطن الأبيض , لكن مقاومة الأصوليين لا تستند فقط إلى عداء لكل ضحايا الإمبريالية الآخرين , بل حتى لعداء الإنسان نفسه في شكل البشر المحليين أي المسلمين العاديين أي إلغاء و تهميش البشر الذين تدعي الدفاع عنهم , لكنها لا تشيطن اليوم من قبل إعلام البترودولار لهذا السبب , فهؤلاء البشر لا وجود لهم أساسا لا بالنسبة لهذا الإعلام و لا لسادته و لا لأنظمة الممانعة , ما يوجد هناك فقط سادة علينا أن نصفق لأحدهم و نشتم الآخرين , تستخدم خسائر غزة اليوم ضد الأصولية لكن ليس لصالح البشر في غزة , بل لصالح أنظمة اختارت أن تكون أكثر من متفرجة على ذبح غزة , لصالح أنظمة اختارت , في سبيل بقائها , أن تصبح خدما للإمبراطورية….ما أن تقبل بالداروينية الاجتماعية كمذهب يسيطر على حياتنا و على عالمنا , البقاء للأقوى , البقاء للأكثر تطورا , و بتبرير اجتثاث الهنود الحمر كشعب بأكمله و تهجيره في أرضه إلى مناطق جدباء مع الاستمرار بقتله و ذبحه , لصالح ذلك الجزء الأكثر تطورا في العالم وفقا للظروف يومها , أنت بذلك قد أصبحت عبدا مطيعا للإمبراطورية “المتفوقة” , لكن الإمبراطورية لن تحول كل المدن إلى روما , و لن يأكل الناس أو يمارسوا حياتهم وفقا لطريقة الحياة في روما , قد نلبس كما يلبسون في نيويورك لأن الأزياء المعاصرة تصمم هناك , لكن ملابسنا ستكون رثة مقارنة بما يرتدون في مركز الإمبراطورية , وحدهم السادة المحليون الذين يحكمونا باسم الإمبراطورية سيلبسون كما يفعلون في مركز الإمبراطورية , الإمبراطورية تريد لنا حياة أفضل بالفعل , فهي تريدنا عبيدا خانعين , إنها تريد لنا شكلا نقبل من خلاله و لو لفترة من الوقت أن نكون عبيدا مطيعين لها , إنها تريد بعض الحرية للتعبير لكل من يقبل بها إلها متوجا لا شريك له بما في ذلك حرية النقد الفارغ الروتيني لها و لجرائمها , إنها لن ترسل كل الناس إلى المقصلة , هذا تطور كبير بالمقارنة مع أنظمة قراقوش التي حكمتنا حتى اليوم , ستقمع حينا و ستفتح المجال حينا أمام النخب المسيطرة لتحولها إلى سادة محليين , يدافعون عنها كمهمة أولى , هكذا تعرف الديمقراطية في بلادنا و هكذا تمارسها في العراق حتى اليوم , إنها تكره الثورات , أما إذا حدثت فإنها سترد عليها بكل وسائلها المتطورة للقتل و التدمير , و سيقول لنا من يخدمها بإخلاص أو من يراها جديرة بحكمنا , أرأيتم , قلنا لكم , كلوا و اشربوا ما تيسر لكم و لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة…أنظمة الاعتدال ( الديكتاتوريات التي يحكمها أنصاف أميين أو مصابين بالخرف أو العتاهة ) تستحق كل هذا الدفاع لأنها تحكم باسم سيطرة الإمبراطورية , إنها تدعونا للقبول بسيطرة الإمبراطورية و خلصت , أي مقاومة هي تخلف و غباء , أن نريد أو نحاول مقاومة حضارة الرجل الأبيض المتفوقة هذا أولا تخلف و ثانيا غباء , يقول ابن خلدون في مقدمته :”المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره و زيه و نحلته و سائر أحواله و عوائده , و السبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها و انقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب” ( المقدمة الفصل 23 , ص 146 ) , طالما نظر البرابرة بإعجاب ما بعده إعجاب إلى روما , و طالما اعتبر العبيد النظام الإقطاعي المتفوق في بداياته رمزا للحرية , لحريتهم , و كم كانت القنانة تبدو ثورية و واعدة بالنسبة لهم يومها , كما قاتل العبيد الزنوج إلى جانب الشمال البرجوازي في الحرب الأهلية الأمريكية و هم يعتقدون أنهم يقاتلون في سبيل حريتهم , لم يكن التاريخ إلا سلسلة دائمة من بيع الوهم للمضطهدين في سبيل فرض نظام آخر أكثر تطورا ربما لكنه كان دوما ينقل استلابهم و اضطهادهم إلى مراحل أعلى أيضا , طالما كانت العقلانية كفلسفة للبرجوازية تتحدث عن مسيرة دائمة نحو التطور و التقدم البشري تقودها البرجوازية بواسطة تكنولوجيا أكثر فأكثر تطورا , كانت المركزية الأوروبية هي تفسيرها الإمبريالي , العالم الذي يقف بوجه استعماره من قبل النظام الأكثر تفوقا أو من الحضارة الأكثر تفوقا عالم غبي تعشعش فيه الأصولية المحلية الرافضة للتطور , هذا لا يعني أننا سعداء بحشرنا من جديد بين طغيانين كما كان الحال بين الستالينية و الرأسمالية , بين ثقافتي نفي للإنسان , إن صعود الأصولية , سواء السنية أو في شكل نظام إيران , إنما هو صورة سلبية عن المركزية الأوروبية تماثلها في كل شيء و تعاديها في الاتجاه , إنها نفي للإنسان لصالح قوى محلية مسيطرة , هكذا فسرت القومية فيما مضى و هكذا تفسر الهوية الحضارية اليوم أيضا , لكن القوة المهيمنة اليوم في العالم إلى جانب صلفها و غرورها و استعدادها لمساواة سيطرتها بوجود العالم أصلا تملك اليوم قوة كافية لتدمير العالم , إنها تدمره بالفعل دون حساب لصالح منطقها الأساسي الداخلي : الربح , هذا لا يقتصر فقط على موارد الأرض , بل أيضا على البشر , خاصة في الأطراف , ربما من حسن حظنا أننا نعامل بطريقة أفضل من الأفارقة الذين يتركون للمجاعات و الإيدز و لوردات بزنس الحروب دون تدخل مباشر من الإمبراطورية , يجب أن نشكر النفط هنا , إذا كان اليسار المناهض للستالينية قد فسر الواقع في أيام الحرب الباردة على الشكل التالي : اشتراكية أو بربرية , إما سيطرة الستالينية أو الإمبريالية التي تعني البربرية في نهاية المطاف أو الاشتراكية , فإن التقدمي الأمريكي نعوم تشومسكي يعرض الواقع اليوم على الشكل التالي : الهيمنة أو البقاء , على خلاف اليسار السلطوي الذي يرحب بظهور أية قوى استبدادية محلية ( إيران أو الأصولية ) أو عالمية ( الصين , روسيا , أوروبا البزنس ) إلى جانب الإمبراطورية الأمريكية و يعتبر هذا مخرجا للوضع القائم , تذكرنا المواجهة اليوم بين الأصولية الإسلامية و الإمبراطورية بالمواجهة بين الستالينية و الإمبريالية , كانت المواجهة تعتمد على تكديس أكبر عدد ممكن من أسلحة الدمار الشامل للبشرية و على سحق أية مقاومة لهيمنة أي من القوتين في كل مكان , المواجهة اليوم تستخدم دماء المدنيين و حرية البشر من شوارع أوروبا إلى باكستان و الهند و العراق إلى غزة و نعلين , كلا الطرفين يستبيح كل شيء , في سبيل ضرب خصمه , في سبيل الهيمنة , يقتل الأمريكيون العراقيين البسطاء كما تفعل الأصولية تماما , و خلافا للعقلانية البرجوازية و للماركسية , ليس التاريخ عبارة عن مسار حتمي نحو خلاص البشرية و لا مسيرة مستمرة من التقدم , إنه اختبار حقيقي للإنسانية , إنه اليوم أكثر من أي وقت مضى بيد البشر , إما الهيمنة أو البقاء , هل سيتغلب المضطهدون , المستلبون , على قوى تدجينهم , فقبولهم أو استسلامهم للواقع هو النقطة الأساس في استمرار نظام اضطهادهم , هذا هو المفتاح لمصير البشرية غدا , و إلى حد كبير مصير هنود حمر هذا العالم الجدد……..