حمد … مواطن خارج التغطية
سعيد لحدو
لاشك أن السوريين عموماً يعرفون طرفة الجندي حمد الذي عاد لتوه من معركة مع العدو لحضور احتفال النصر، لكن تم دفعه إلى آخر الصالة حيث بالكاد كان يرى مايجري. حينذاك أطلق مقولته الخالدة (عند الطق والرق حمد لي قدام. وعند الفقس والرقص حمد لي ورا). وكانت خير تعبير عن حال المواطن السوري الملحوش خارج التغطية.
قد تكون سورية أحد البلدان القلائل في العالم التي يمكنك سماع عبارة “خارج التغطية” فيها. هذا إذا تعلق الأمر بآخر مبتكرات تكنولوجيا الاتصالات. أما إذا تعلق الأمر بالمواطن حمد غير المحسود على تعتيره، فإن سورية وبلا منازع تحتل المرتبة الأولى في العالم، وقد تليها الصومال وبنغلادش. فهي تستحق وبجدارة وضع اسمها في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، لكون مواطنها على الدوام خارج التغطية، باستثناء مسيرات التأييد أوتظاهرات التنديد والاستنكار بهدف التهويل والتهويش، التي تنظمها الحكومة بين الحين والآخر، دعماً لسياساتها التي تتطلب حشوداً جماهيرية كبيرة لاتفي أعداد عناصر أجهزتها الأمنية، على كثرتهم، بمتطلباتها. ولأن (الطق والرق)، بحسب وصف حمد للحرب، ماعاد في وارد النظام، لم يعد لحمد وأمثاله من المواطنين مكان في ساحة (الفقس والرقص). أي بتعبير أكثر تكنولوجية، لُحِشوا خارج التغطية. ولا يخفى على المراقب المتتبع أن سياسة اللحش خارج التغطية التي باتت من أبرز سمات النظام في سورية هي بقصد إراحة المواطن من هم السياسة وأوجاع الرأس التي ترافق كل من يتعامل بها. ولهذا فقد خصص لخوض ساحاتها طولاً وعرضاً خبراء ممن لاتتحسس رؤوسهم لأي وجع يصيب المواطنين أو الوطن.
وحين يتعلق الأمر بمصير الوطن وقضاياه الأساسية يظل حمد خارج التغطية. لأن هذه الأمور تحتاج لأكتاف عريضة. والمواطن المسكين بالكاد تتمكن أكتافه المتهالكة من حمل رأسه المثقلة بهموم لقمة العيش التي ماانفك يطاردها ليل نهار دون أن يظفر بها، لأنها هي الأخرى باتت خارج التغطية.
كذلك يبقى حمد خارج التغطية في المسائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والإعلامية وحتى الدينية، لأن هناك على الدوام من هو أهل لحمل هذه المسؤوليات الجسام ممن تجري (التغطية) عليهم وعلى نشاطاتهم العلنية والخفية على السواء. أما من يبيت في العراء من أمثال حمد من المواطنين فكيف السبيل إلى تغطيته؟
ومع ذلك فقد جاهد النظام لتغطيته، فبنى القصور الفخمة والواسعة والتي أهم ما يلفت النظر فيها أنها طوبت باسم الشعب. ولذا فإن من لا يجد رصيفاً خالياً يسند إليه رأسه في ليالي التغرب على أرصفة الوطن، فما عليه سوى التوجه إلى جبل قاسيون والتمتع بمرأى قصور الشعب المترامية بدعة وسكينة على سفوحه.
وإذا تجاوزنا الوضع الداخلي، كما فعل ويفعل النظام منذ قرابة أربعة عقود، لنلتفت إلى العلاقة مع الجيران فقد كانت وما زالت زئبقية الهوى والوصال. وحين أراد أخو حمد في المواطنة والتعتير إلتقاط إشاراتها المشفرة له والمعلومة للجميع، كانت دورية أمنية أمام الباب لأنه تجاوز حدوده ومد لسانه الطويل إلى داخل منطقة التغطية. لذا توجب إعادة تأهيله كمواطن. لكن فضوله الغريزي كإنسان مازال فيه نبض حياة، ظل يلح عليه لأن يسبر كنه هذا اللغز العصي بالتآخي والعشق تارة، والعداوة حتى الموت تارات، بيننا وبين جيراننا الأحياء منهم والأموات دون أن يفلح بعد سوى في دفعهم لتقصير ذلك اللسان الطويل المرة بعد الأخرى، ودفعه أكثر وأكثر خارج التغطية.
وعلى ذكر (خارج التغطية) فقد استعمل هذا التعبير لأول مرة في سورية بعد دخول شركة الاتصالات الوحيدة واليتيمة إلى سوريا،(رغم تعدد الأسماء أحياناً)، على خلاف ماهو متداول في جميع دول العالم من تنافس بين الشركات مما يؤدي بالضرورة لانخفاض أسعار المكالمات وتقليص مساحة المناطق خارج التغطية. ولكن العرف في سورية يسير وفق مبدأ (الأقربون أولى بالمعروف). ومن هذا المنطلق يتقاسم أبناء العم والخال خيرات شركات السمسرة والنهب الجشع التي تفرخ ولكن لا تزداد ولاتتنافس ولا تنتج مايفيد.
ويبقى المواطن الملحوش خارج التغطية يتحسر على حلم أن يحظى بوظيفة أو فرصة عمل ما يغطي بموردها، على قلته، عورات الفقر والعوز لأطفاله. أو أن يمتلك يوماً ما، بما يمتلك من إمكانيات الدفع بالعملة السورية، هاتف موبايل يباهي به أقرانه. أو أن يتواجد ضمن حدود منطقة التغطية لمرة واحدة، ولو على أطرافها، ليقرر بنفسه أين عليه أن يقف في مسارح (الفقس والرقص)، بعد أن يكون قد أنهى قضية (الطق والرق) كما يجب.
خاص – صفحات سورية –