عربيّ في الجليد
محمد الحاج صالح
تصوروا عربياً هارباً من ظروفه وظروف بلده.
هذا العربي معتاد بجسده وروحه على الحرارة. حرارة الطقس، وحرارة البشر.
يجد هذا العربيّ نفسه لاجئاً في بلاد كالنرويج، بلاد البرد. هنا؛ كانت درجة الحرارة منذ يومين وفي منطقة داخلية؛ فقط (40) تحت الصفر. في مثل هذا الجو عليكَ أن تغطي أنفكَ، وخدّيكَ، ويديك، وأن لا تكون جواربك رطبة، وإلا تموّت الجزء المعرض من جسدك وجفّ. تصوروا أن هذا العربي كان مضطراً إلى العمل كموزع جرائد. عليه أن ينهض حوالي الساعة الثانية ليلاً، ويسافر بضعة كيلومترات في جو كهذا، حيث تلعبُ السيارةُ لعبةَ التزحلق على الجليد، إذْ كثيراً ما همّت بالقفز في الوديان العميقة. كلّ الوديان هنا عميقة.
في هذا البلد تصطفّ صناديقُ البريد في الطرقات على نُصُبٍ خشبية أو أعمدة. والمدينة التي يعيش فيها هذا العربي ليست مدينة مُكتظّة كما هي المدن. إنها بيوتٌ متناثرة أو متكوّمة بين جبال وتِلاع من الصخور السود. على هذا العربي أن يتبع خطّ سير التوزيع بدقّة. خطّ معقد يتلوى بين الوديان، والبيوت، وجبال الجليد، والصخور التي بحجم تلال.
يستلم العربيّ حصّته من الجرائد والإعلانات، ويبدأ التوزيعَ مع بلوغ البرودة قمتها عند الساعة الثالثة. في هذه الساعة يسود الهدوء ويسكن كلّ شيء، إلا من عربي يفتح صندقَ بريد، ويغلق آخر. يحزرُ مدى غنى المالك من سعة الصندوق، ومن نوعيّته، ومن عدد الجرائد التي اشترك بها، ويدمدم مُغنياً أو شاتماً أو لاعناً أمّ النرويج وأبا البرد.
مُحرّك السيارة دائر باستمرار. يسوق بضعة أمتار، ويتوقف. يسوقُ عشرات الأمتار، ويتوقف. وأحياناً يسوق مئات الأمتار، ثم يتوقف. يسحبُ المكبح إلى الأعلى، ويحدق بالجهاز متتبعاً الأسماء. من سيحصل على الجريدة الفلانية ومن سيحصل على الأخرى… والثالثة… والرابعة؟
الجرائد مكدّسة ومصفوفة على المقعد الخلفي، وفي الفراغ بين المقعدين، إضافة إلى المقعد الأمامي. يحمل ما تستطيعه يداه وذراعاه، ويخطو بحذر وبطء القط الهرم.
يفتح علبة البريد فيصدر الغطاء صريراً معدنيا. علبةً بعد علبة وصريراً بعد صرير. ثم عودة إلى السيارة، والسياقة من جديد، فالتوقّف في موضع ملائم، مع استعمال مكبح اليد.
الناس هنا ينامون باكراً كالدجاج. ويستيقظون باكراً كما لو أن كل واحد منهم هو الديك المكلّف بإعلان الموعد.
كثيراً ما رأى ذاك الموزع العربي القاطنين يحضّرون القهوة في المطابخ، فاستخدام جدران البللور شائع هنا، وليس من مكان يُعزل جيداً بالستائر والجدران سوى غرف النوم. أيّ مارّ يمكنه أن يرى أحشاءَ المنزل وسكانه.
يخرج رجلٌ، أو تخرج امرأة، بمعطف ثقيل فوق ثياب النوم. يتثاءب أو تتثاءب، ويسمع الموزع العربي كلمة صباح الخير. الناس لطفاء هنا عموماً، لكنك َ يمكنك أن تلحظ لمعةُ في العيون لحظة تدرك العيونُ أنها ترى رجلاً مختلف البشرة وذا ملامح “شرق أوسطية” بالقرب من غرف نومهم، وفوق ذلك يدمدم بالرد على التحية دون تعليق عن الطقس كما اعتادوا. يأخذون جرائدهم ويعودون أدراجهم مُتلفّـتين بين حين وآخر، متسائلين عمّن وظّف هذا الأجنبي، وهل هو كفء ليعمل موزّع جرائد؟
ليس من النادر أن يكون هناك بيت منعزلٌ على قمة تلّ أو على كتف واد، والممر إلى هذا البيت عادة ما يكون ضيقاً بالأساس، فما بالك بعد أن تكوّم الثلج أكواماً ثم تحول إلى صخور من جليد! فالحذر الحذر أيها العربي. لنفترض أنكَ انزلقت ووقعت فتنائرتِ الجرائد هاوية ومنزلقة بعيداً في المنحدر. كيف ستجمعها ثانية؟ والأهم، إذا ما عجزت عن جمعها، ماذا سيقول سكان المحلّة في الصبح عندما يرون صفحات جرائدهم تقلّبها الريح؟
لحظات ويتوقف الموزع العربي في ساحة واسعة. كان العربي يسمي هذه الساحة “ابنة الطبيعة” لأن تكويناتها، وبتعمّد، تُركت على بكارتها الطبيعية. هنا الصخور الضخمة بقيت في موقعها، وجدران الحدائق المنخفضة بنيت من حجر غير مشغول ودون تسفيط مصطنع، ومثلها الممرات. إنها محاولة لمحاكاة الطبيعة.
أنجز مهمة الصعود مشياً إلى ذلك البيت المنفرد المخيف تاركاً السيارة شغّالة في الأسفل. ثم عاد و ساق السيارة سبعين متراً إلى هذه الساحة المائلة كصحن عملاق ينْكَبّ إلى أحد أطرافه.
خطا الموزّع العربي خطوات حذرة حاملاً الجرائد بين ذراعيه، عندما أحسّ بأن حركة في الفراغ تجري خلفه. وما إن التفت حتى رأى السيارة تمشي متمهلة نحو الجهة المنكبّة. قذف الجرائد من يديه فتزحلقت على الجليد مبتعدة إلى اللانهاية، وأسرع يريد قذْف نفسه في السيارة. تسارعت السيارة فلم يستطع سوى أن يفتح الباب ويدخل جزءاً من جسده محاولاً الوصول إلى مكابح القدم. وكما لو أن عماء سحرياً استولى على عقله ليَجعله ينسى أنّ سحْب مكبح اليد كان يمكن أن يكون كافياً. أمّا الآن والسيارة بدأت تتعثر عالياً وسافلاً بالدرج الوسيع المنحدر إلى بيت يقع تماماً على حرف الوادي، فوق ذاك الجرف العمودي ذو المئات من الأمتار في الارتفاع، والغاطس في أسفله باللسان البحري المتجمّد في مثل هذا الوقت. أتاه إحساسٌ أن هذا الذي يجري ما هو إلا مشهد كان قد حدث من قبل. وفي لحظة تالية شعر موزع الجرائد العربي أنه ميت لا محالة، وأن السيارة بثقلها ستخترق هذا البيت الخشبي، كما هي البيوت هنا، وستتدلى بأنفها من على الجرف هاوية نحو المياه المتجمدة. لا أثر من تفكيرٍ في أن يقفز بعيداً أبداً، فقد كان الموزع العربي مشدوهاً ومشغولاً فقط بثروة الجرائد في السيارة والتي لن تصل أصحابها، ومشغول أيضاً بما سيقوله رئيسه في العمل غداً.
يتذكر العربي موزع الجرائد أن مقدم السيارة كان متجهاً نحو صالة البيت المطلّة على الحديقة ومن ثَمّ على جرف الوادي. لقد رآها من قبل مرات ومرات. كمْ كان معجباً بجدرانها البللورية وأثاثها الحديث وستائرها التي لا تستر شيئاً حتى ليتخيل المرءُ أنها مجرد غلالة شفافة للزينة! من المؤكد أن الصالة ستتناثر، وأن السيارة ستهوي بعد لحظة واحدة. أما لماذا ظل ذاك العربي إلى هذه اللحظة الخَطِرة متشبثاً بإطار باب السيارة ؟! فإنه للغزٌ حقاً. والأعجب أن تنحرف السيارة لسبب ما نحو الأساس الإسمنتي المرتفع للبيت. مجرّد انْحرافة بسيطة جعلت السيارة تعاف اختراق الصالة البللورية، وتختار الأساس الإسمنتي. انحراف درجة واحدة.
في البداية لم يحس بالألم. يتذكر أنه بدأ بصراخ خجل في طلب المساعدة. ويتذكر أن زوجين شابين خرجا بعد فترة مذعورين مشدوهين. كانت قدمه مسحوقة تحت السيارة وكان واعياً. والأعجب أيضاً أنه استطاع تمليص قدمه من تحت السيارة بيسر. ويتذكر أنه بعد أن شرب جرعة ماء مازح الزوجين من أنه كان خائفاً على الجرائد وليس على روحه ولا على السيارة، ومن أن الموقف برمته مضحكٌ. ويتذكر أنه تأسف كثيراً حتى كاد أن يبكي عندما علم منهما أن السيارة اصطدمت بالضبط بأساس غرفة نومهما، وأنهما كانا في عز النوم. ثم غاب عن الوعي.
فيما بعد سيمازحه صديقه بعد أن علم بالقصة: هيييييهْ يا أخْ ماذا حسبت؟ وين راح عقلك؟ شُووووو صارت السيارة معزة شاردة لتركض وراها وتمسك بها؟
النرويج
خاص – صفحات سورية –