صفحات من مدونات سورية

حول الطائفية, العنف الطائفي و القبليّة الطائفيّة

ياسين السويحة
نعيش في منطقتنا مؤخراً دفقاتٍ متكررة من فصول العنف الطائفي بوتيرةٍ أعلى من عقودٍ سابقة, و هذا العنف الطائفي متعددٌ في جبهات الصراع و مختلفٌ في أركانه و أسبابه الظاهرية إلا أن نموذج فصل العنف بأسبابه و طريقة حدوثه و حتّى حلول التهدئة متشابهة باختلاف هويّة المتصارعين و طوائفهم. و لا شك أن العنف الطائفي يثير استنكاراً و رفضاً أكثر بكثير مما تلقى أطرافه من الدعم و التشجيع إلا أنّ هناك التباساً مهمّاً برأيي في هذه المسألة حين يتم اختصار الطائفية ككل في حادثة العنف الطائفي, فالطائفية هي ممارسة يومية اجتماعية و سياسية و اقتصادية و ثقافية, و هي المناخ الذي يحتضن فصول العنف الطائفي التي ليست إلا ظهوراً تعبيرياً للطائفية بمعناها الأشمل, أي أن علاج العنف الطائفي الجذري ليس بتهدئة الأطراف المتنازعة لحظة نشوب المشكلة و تمنّي ألا يتكرر الاقتتال أو العنف.. هذا أشبه بمسكّن الألم المؤقت, الذي قد نستخدمه لمساعدة المريض على تحمّل الآلام الناتجة عن مرض باطني ريثما نجد علاجاً لهذا المرض, أو ريثما يبدأ مفعول هذا العلاج الجذري.
لا أستطيع, و لا أبغي, أن أجد أصل الطائفية و أن أعالجه في مقالٍ واحد أو في مجموعة مقالات, و محاولة التشخيص و البحث عن الأصل ليست إلا جهداً فكرياً متواضعاً لشخصٍ قلق من هذه الآفة و نتائجها المدمّرة و يحاول فهمها بالبحث عن أصولها.
أعتقد أن بداية بحثنا عن محرّك الطائفية و العنف الطائفي لا يجب أن تكون في الفكر الديني, و لا أعتقد أننا سنجد في الدين بحد ذاته أو في تأويلات و تفسيرات النص الديني مهما كانت هذه متطرّفة و متزمّتة منبت الطائفية و أصلها, فالمشكلة برأيي تبدأ في مكانٍ آخر, و قد تتعزز بآراء دينية متطرّفة و إقصائية, لكن هذه الآراء ليست هي الأساس.
إن أساس مشكلة الطائفية عندنا (و أعتقد أن هذا الأساس موحّد لكل الاتجاهات و التيارات الإقصائية) يكمن في التركيبة النفسية الأساسيّة لغريزة الانتماء عندنا, و هذه التركيبة الغريزية ما زالت رهينة القبيلة و المنطق القبلي و الرمزية القبلية بجميع عناصرها.. أجل بأشكالٍ أخرى محدّثة و بلغة أخرى و طرق تعبير جديدة.. لكن الهيكل العام قبلي بامتياز. و بطبيعة الحال لست أكتشف شيئاً جديداً عندما أتحدّث عن هذا الإسقاط, و ليست المرّة الأولى التي أستخدمه أيضاً و ذلك لأنني, كما قلت منذ قليل, أعتقد أنه أساس كل نزعة اقصائية لدينا, فالأسلوب القبلي في الانتماء لا يقتصر عندنا على الانتماء الديني بل أنه يمتد ليشمل جميع الدوائر الانتمائية, فنحن ننتمي للأسرة و العشيرة و الوطن و الايديولوجيا و القومية بل و حتّى لفريقنا الرياضي المفضّل بنفس الهيكل النفسي الذي يُبنى عليه الانتماء القبلي القديم, و بنفس العنجهية القبلية (و هذا ينفع كتفسيرٍ لغرابة أن تكون إمكانية نشوب مشاجرة بسبب مباراة بين فريقين أوربيين في أي مقهى عربي أكبر من احتمال نشوبها في الملعب بين المشجعين المنتمين إلى مدن الفرق الرياضية المتبارية).
كثيراً ما يحدث أن تتداخل هذه الدوائر الانتمائية – القبلية, خصوصاً في الجانبين السياسي و الديني, و قد يصل هذا التداخل إلى حدّ التناقض الذي يتم التكيّف معه على مبدأ “التفكير المزدوج” لأورويل.. أي أن الإنسان يمكن أن يصل لمرحلة يعتقد بها بأمرٍ ما اعتقاداً راسخاً و عميقاً بنفس الوقت الذي يعتقد فيه بنقيض هذا الأمر, أيضاً بشكل راسخ و عميق, دون أن يشعر أنه قد دخل في تناقض حيث أن الأمور مرتّبة بشكل ممتاز (أو هو يراه ممتازاً) في عقله.
مثل كلّ القبائل, للقبائل الانتمائية شيخٌ و نبلاء, و لكن في حالتنا هذه قد لا يكون هؤلاء أشخاصاً محددين بل ربما نجدهم على شكل مؤسسات أو أحزاب أو مجموعة أشخاص ربما لا نعرفهم بالاسم لكننا نعلم أنهم القيادة التي تقرر (بطرق مختلفة) و تجعلنا نعلم (أيضاً بطرق مختلفة) مَن هو العدو و متى و كيف يجب غزوه (لأن للـ “غزوة” أشكالٌ و طرق مختلفة أيضاً) و لا تشترط علاقة مباشرة بين “شيوخ” القبيلة الافتراضية و مريديهم, بل قد لا يعرفون بعضهم بشكل متبادل فالعلاقة نفسية بحتة, و إحدى طرق التواصل و التحشيد هي تلك التي تعتمد على “شعراء القبيلة”.
من هم شعراء القبيلة..
كما نعلم من تراثنا و تاريخنا القديم فإن لكلّ قبيلة شاعرٌ أو أكثر, و لهذا الشاعر مهمّة تجييش عواطف و أحاسيس رجال القبيلة و و إذكاء نار حماسهم, كما أنهم مكلّفون بالحديث ببلاغة و شاعرية عن رفعة و مكانة هذه القبيلة و من ينتمي إليها و زرع الفخر و الاعتزاز في نفوس أبنائها بنفس الوقت الذي يهجون فيه القبائل العدوّة و يطعنون بحسبها و نسبها و أخلاقها و كرامتها.. ألا يمكن أن نجد توازياً بين دور شعراء القبيلة و دور بعض رجال الدين و أشباههم؟
قد يلعب بعض رجال الدين و المتشبهين بهم و المتطفلين عليهم هذا الدور, و كثيراً ما يلعبونه دون قصد واضح و صريح, فربما يكون رجل الدين نزيهاً مع نفسه عندما يقول ما يعتقد مهما كان متطرفاً, لكن هناك من يأخذ كلام و خطاب رجل الدين هذا و يضعه في سياقٍ و في قنوات و شبكات ناقلة للمعلومات تحوّل هذا الرجل إلى شاعر قبيلة دون قصدٍ منه, و هذا لا ينفي وجود كثيرٍ منهم يرضى و يفرح بدوره كشاعر قبيلة.
و لماذا تقوم الغزوات و تنشأ الحروب؟
للإجابة على هذا السؤال يجب علينا أن نبحث عن سبب ثانوي بعيد تماماً عن الغريزة الانتمائية (و هذا ليس نظرية مؤامرة) و مصلحة لهؤلاء الشيوخ المفترضين أو لحلفاءٍ لهم.. قد تكون أسباباً اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.. أو قد تكون مجرّد رغبة الشيخ بأن يكون شيخاً و نجاحه في تحقيق ذلك, فبالنظر إلى الطائفية بشكل مجرّد نجد أن هناك رؤوساً و شخصيات تكون قيادية و بارزة و تنال التأييد و الدعم فقط ضمن مناخ الطائفية و العنف الطائفي, و لو لم توجد الطائفية لما كان لهم أي امتيازات, و لذلك فهم يحافظون على هذا المناخ الذي جعل منهم, بشكل أو بآخر, قادةً ينالون التقدير و الإعجاب و المباركة.
هناك مسألة أخرى مهمّة و تصلح لدعم فكرة الهيكل القبلي للانتماء و هي الرمزية و العنف الرمزي, و الفكرة هي التالية: لو عدنا إلى تاريخ القبائل سنجد أن السبب الظاهر و العلني للحروب و المعارك بينها (أي السبب الذي سيستخدمه شعراء القبيلة, و هو مختلف عن السبب الأساسي الذي هو مصلحي بحت, سياسي أو اقتصادي أو استراتيجي) يلعب على وتر ما يعتبر رموزاً مميّزة للقبيلة, قد تكون مقدّسة أو لا.. فربما كان يتم استعمال قصيدة هجاء لشاعر القبيلة العدوّة, أو شجارٌ على تجارة أو مبارزة شعرية أو سباق خيل, أو اعتداءٌ على نساء القبيلة بالنظر أو باليد أو باللسان.. الخ, و هذا يشبه الأسباب المباشرة و الظاهرة إعلامياً للمشاكل الطائفية في مختلف المناطق, فمن شبه المستحيل أن نجد أن أحداث عنفٍ قد نشبت بسبب الاختلاف الفكري على قضية فقهية تمس صميم المعتقدات (و غالباً يكون من ينخرط في صراعات طائفية لا يفقه شيئاً عن صميم الأساس الفكري لطائفته أو للطائفة العدوّة.. فقط يعرف أنه ينتمي إلى هذه الطائفة و يعرف رموزها, و تلك الطائفة عدوّة لطائفته و لذلك عليه أن يكرهها و يقاتلها), بل أن المعتاد هو أن يكون السبب رمزياً بحتاً كمحاولة بناء دار عبادة لدينٍ أو طائفة في “منطقة نفوذ” طائفة أخرى, أو بسبب حديثٍ لشخصٍ من دينٍ أو طائفة عن دينٍ آخر يراه أنصاره مهيناً, أو بسبب مشاكل تخص نساء هذه الطائفة أو تلك (علاقات عاطفية بين أبناء طوائف مختلفة لا يجوز اجتماعياً أن تنشأ, و هنا نجد تشابهاً يصل حد التطابق مع الإرث القبلي), و دائماً يكون الرّد من جنس العمل مع زيادة تضمن صورة النصر و رد الاعتبار.. إن بنوا دار عبادة في مناطقنا فسنبني في مناطقهم أكثر من دار عبادة لنا و إلا هدمنا البناء الذي يقيمونه.. أو إن دنسوا مقدساتنا فسندنس مقدساتهم بما هو أشنع.. إن اغتصبوا (و هنا الاغتصاب قد لا يكون بهذا المعنى الدقيق لكن الغيرة الذكورية ترى كل ما يخص النساء اغتصاباً) منا امرأة فسنغتصب منهم عشرة.. الخ و هذا يشبه إلى حد كبير نزعة الثأر القبلي و استعادة الكرامة المهدورة.
أمرٌ مهمّ آخر يخص الرمزية, و هو أنه يبدو أنه ليس من المهم جداً أن يكون الاعتداء على الرمز قد حصل أم لا, و ليس من المهم التأكد إن كان من روى ما حصل قد هوّل أو بالغ.. كل هذه الأمور ليست مهمّة, فمجرّد الحديث عنه يكفي لإشعال فتيل الغيرة على الرمز الانتمائي, و هذا ما هم بحاجته فقط.
بقي أن نذكر أيضاً أن القبائل الانتمائية ليست ثابتة أو دائمة, بل قد تنشأ و تنتهي طبقاً لأحداث حقبة معيّنة من الزمن, و قد يكون أعضاء قبائل متقاتلة بالأمس حلفاءً في قبيلة تنشأ اليوم, و هذا يعود إلى احتياجات من يثير هذه الزوابع و مصالحه و مهارته في حشد و بناء “قبيلة” في لحظة معيّنة.
لماذا يستمر الهيكل القبلي و الطريقة القبلية في الانتماء إلى اليوم؟
لعلّ سبب هذا الاستمرار يعود ببساطة إلى أنه لم يُسمح لنا بتعلّم الانتماء بطريقة أخرى لأنه لم يكن من مصلحة أولياء الشأن (داخليين كانوا أم خارجيين) أن تذوب الهيكلية الانتمائية القبلية, المعتمدة على الغريزة و العاطفة و العنف, و أن يحل محلها نموذج انتمائي أقل عاطفة و أكثر عقلانية, فالسيطرة على الإنسان العاطفي و الغريزي سهلة جداً و لا تحتاج لجهد كبير.. و لأن النموذج الجديد يحرّر من يستخدمه من السلطة النفسية لشيخ القبيلة و يحصّنه من تأثير شاعر القبيلة, و هذا الأمر لا يخص العرب بمختلف دياناتهم و طوائفهم, إنما هو موجودٌ في مناطق أخرى من العالم, بل أن النموذج القبلي في الانتماء قد عاد لينال قوّة و انتشاراً في بعض المناطق من العالم خلال مراحل معيّنة (مثل الولايات المتحدة خلال حقبة المحافظين الجدد, و الحقيقة أنني أعتقد أن هناك تشابهاً كبيراً في طريقة الانتماء العربية و الأسلوب الموجود بكثرة في الولايات المتحدة.. و قد يكون هذا الأمر هو أحد أسباب الصدام).
لا يمكن برأيي الانتهاء من الطائفية و كل النماذج الفكرية الاقصائية الأخرى إلا بتطوير النزعة الانتمائية و تحويلها إلى نوع جديدٍ آخر, أكثر تضامناً و أقل غريزية و عاطفة, و يمكن أن يتم ذلك عن طريق إنشاء دوائر انتمائية جديدة و بخصائص مختلفة و عناصر بعيدة جداً عن تلك الخاصة بنهج القبيلة, و ربما يكون الانتماء الوطني العقلاني و المنهجي و زرع بذرة التضامن و الإخاء بين أبناء الوطن الواحد فيما بينهم, و بينهم و بين أبناء أوطانٍ أخرى أيضاً, دون أن يؤثر ذلك على انتماءهم الديني أو الفكري أو الإيديولوجي و لا يتعارض معه بأي شكل.. إلا أن المشكلة في هذا المجال تكمن إلى أن نزعة الوطنية و الانتماء الوطني التي ظهرت خلال القرن العشرين (ضمن مشاكل و صعوبات و أخطاء كثيرة, لكنها كانت بذرة صالحة) قد انتكست و عادت إلى صف الانتماءات القبيلة, بشيوخها و شعرائها, و بنزعتها الإقصائية و عنجهيتها و شوفينيتها بل و عنصريتها. و هذا ما يجب التخلّص منه.. إن كنا نريد أن نبني أوطاناً مكان مضارب القبائل و ساحات داحس و الغبراء الحديثة..
http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى