شعراء فيروز
محمود الزيباوي
منذ بضعة أعوام، أصدر الناقد السوري محمد منصور كتاباً عنوانه “فيروز والفن الرحباني: الحلم المتمرد والفردوس المفقود”، وها هو اليوم يعود إلى هذا الميراث الفني في كتاب جديد يتناول فيه “الخريطة الشعرية في الأغنية الرحبانية”، من إصدارات “دار ممدوح عنوان للنشر والتوزيع”. يقول الكاتب في مقدمة بحثه: “يقدم هذا الكتاب الخريطة الشعرية الكاملة للأغنية الرحبانية، متتبعا مصادرها، وبداية تشكلها، ومصححا الكثير من الأخطاء الشائعة حول نسبة بعض القصائد لغير أصحابها أو إغفال أسماء شعرائها”. تكشف مراجعة الكتاب أن هذه الخريطة ناقصة، وأن فيها الكثير من الأخطاء التي تحتاج إلى تصويب.
يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب مستقلة، أولها مخصص لـ”الخريطة الشعرية في الأغنية الرحبانية”، من فصلين، واحد عنوانه “تراث الشعر والموشحات”، وآخر عنوانه “بانوراما الشعر العربي المعاصر”. يشير محمد منصور في مستهل حديثه الى أن “اول حفلة قدّم فيها الرحابنة والسيدة فيروز فن الموشحات على نطاق واسع، كانت في دمشق، وفي حفلة مهرجان معرض دمشق الدولي عام 1960″، ويمكن القول إن بحثه في هذا الميدان يُسقط بشكل عام إنتاج الخمسينات، مع العلم بأن الرحبانيين عالجا فن الموشح في هذه الفترة الأولى من حياتهما، وقدّما أعمالا تردد صداها في إنتاج الستينات وإن بشكل غير مباشر. يستعيد الكاتب حديثا لمنصور حول الحفل الدمشقي المذكور، ثم يحلل موشح “جادك الغيث” في صياغته الرحبانية: اختار الأخوان رحباني عشرة أبيات من الموشح الذي كتبه لسان الدين الخطيب في اثنين وخمسين بيتا، “معارضا فيه موشحا لابن سهل الإشبيلي”. أضاف الرحبانيان إلى هذا الموشح أبيات موشح آخر “بالذي أسكر من عذب اللمى”، وقد نُسبت أبياته “في مصادرهم والدراسات التي صدرت عنهم الى لسان الدين بن الخطيب”، وهي في الواقع من نظم رائد المسرح الغنائي العربي، الفنان السوري أبي خليل القباني. وقد أخذ الرحابنة موشحا آخر لأبي خليل القباني هو “يا غصن نقا”، وجعلا منه خاتمة لموشح “يا شادي الألحان” في عام 1966، ونسباه الى “الشعر القديم”.
زمان الوصل
يستعيد الناقد خريطة الشعر العربي من خلال أبيات أدّتها فيروز في مراحل مختلفة من حياتها، مشيرا في كل مرة إلى تصرّف الرحابنة في تبديل بعض الألفاظ لأسباب فنية. في عام 1973، غنّت فيروز من أبيات الشاعر الأموي الصمة القشيري: “بروحي تلك الأرض ما أطيب الربا”، والبيت في الأصل: “بنفسي تلك الأرض”. كذلك، استبدل الرحبانيان كلمة “قضيبا” بـ”غزالاً” في بيت لأبي نواس يقول: “يا قضيبا في كثيب ثمّ في حسن وطيب”، كما غيّرا في ترتيب بيتين من أبيات هذا الشاعر “ليقفلوا القصيدة عند الصورة الشعرية الأبلغ: تعجبين من سقمي صحتي هي العجب”. يتوقف الباحث أمام قصيدة “يا ليل الصب”، ويشير إلى أنها من نظم الشاعر القيرواني أبو علي بن عبد الغني الحصري. بحسب الكاتب، غنّت فيروز ستة أبيات من هذه القصيدة في بصرى عام 1987، والصحيح 1985، ونضيف أنها أدّتها مرارا في الحفلات التي أقيمت بين 1975 و1979، ولا نعرف تحديدا متى غنّتها للمرة الأولى. فنحن لا نقع عليها في أي تسجيل من الحفلات التي قُدّمت قبل عام 1967، لكن فيروز قدّمت وصلات موشحات في تونس والجزائر (1968) والمغرب (1970)، وليس من تسجيل متداول لهذه الوصلات.
في هذا الفصل المخصص للشعر القديم، يذكر محمد منصور عملين من الخمسينات لا يحدد تاريخهما. الأول هو قصيدة “جبل الريان” لجرير، من أعمال فيروز المفقودة التي لا نجد لها أثرا في أرشيف إذاعة بيروت وأرشيف إذاعة دمشق، إلا أنها تُذكر في مصادر تعود إلى عام 1956. العمل الثاني هو قصيدة لابن جبير مطلعها “أقول وآنست في الليل نارا”، في مدح النبي محمد. قُدّمت هذه القصيدة تحت عنوان “الهجرة” للمرة الأولى في “إذاعة الشرق الأدنى” ضمن برنامج خاص بعيد السنة الهجرية عام 1953، وأُعيد بثّها تحت عنوان “أقول وآنست بالليل ناراً”. بحسب مجلة هذه الإذاعة، لحّن هذه القصيدة أمين أبو صالح، وهو الاسم المستعار للأخوين رحباني، وقد قدّما من قبل “إلى راعية” بهذا الإسم، وذلك لخداع الذين يتهمونهما بالتغريب والخروج على تقاليد الغناء العربي.
يختم المؤلف هذا الفصل بملحق يضم نصوص الأندلسيات الرحبانية بتصنيف دقيق، محددا صاحب الأبيات المذكورة، بخلاف التقليد الذي يصنّفها عادة في خانة “الشعر القديم”. “جادك الغيث” من نظم لسان الدين بن الخطيب، و”لما بدا يتثنى” من شعر محمد عبد الرحيم المسلوب، أما “بالذي أسكر” فهي لأبي خليل القباني. يعود موشح “هل تستعاد” الى ابن زهر الأندلسي، وتسجيله المعروف من حفل دمشق 1961، وتجمع وصلة أندلسيات 1966 بين أربعة مقاطع، أولها “ارجعي يا ألف ليلة” لرفيق خوري، وثانيها “بلّغه يا قمر” للأخوين رحباني، وثالثها “لو كان قلبي معي” لعنترة بن شداد، وخاتمتها “يا من حوى” من الشعر القديم المجهول النسبة. صدرت هذه الوصلة على اسطوانة بعنوان “أندلسيات” ضمّت قصائد أخرى وحملت قراءة لأبيات دخلت الذاكرة، وهي “جاءت معذبتي” للسان الدين بن الخطيب، و”لو تعلمين” لجميل بثينة، وقد غنّت فيروز هذه الأبيات في نهاية التسعينات في أغنيتين من تلحين محمد محسن. بهذه الدقة، يعيد المؤلف تصنيف موشح “يا شادي الألحان” بصيغته المطولة، وينسب المطلع الى سيد درويش كما هو شائع، غير أن هذه النسبة ينقدها الكثيرون من العارفين بهذا النوع من الغناء. وصل الرحبانيان الموشح الشهير بأبيات “يا خليليّ”، لأبي نواس، وجاء بعدها مقطع “يا وحيد الغيد”، من الشعر القديم، وصاحبه مجهول. يليه مقطع “حجبوها عن الرياح” لأبي العتاهية، ثم “يا غصن نقا” لأبي خليل القباني، وخاتمته للأخوين رحباني:
والله لقد سمعت في الأسفار/ عن ساحرة تهيم بالأوتار
والله لقد سمعت من مبسمها/ طيب الغزل ورقة الأشعار
بعد “يا شادي الألحان”، يفنّد محمد منصور موشحات “قصيدة حب” (1973)، ومطلعها “إذا كان ذنبي” للرحبانيين، ثم “بروحي تلك الأرض” للصمة القشيري، و”غدا منادينا” لصدر الدين ابن الوكيل. بعدها، يغني وديع الصافي من شعر ابن زيدون “لا تحسبوا البعد يغيّر العهد”، ثم “ولا قرب نعم” لعمر بن أبي ربيعة، ويشارك فيروز في غناء “يا شقيق الروح” لابن سماء الملك، و”حامل الهوى تعب” لأبي نواس.
شعراء لبنان
يستهل محمد منصور الفصل الثاني بالحديث عن الشعراء اللبنانيين، مشيرا الى أن “أول عمل غنائي جمع عاصي رحباني مع السيدة فيروز كان قصيدة رومنسية الطابع، كتبها الشاعر اللبناني قبلان مكرزل، وغنتها فيروز في الإذاعة اللبنانية عام 1951، ويقول مطلعها: حبذا يا غروب منك هذا السكون”. نشير هنا الى أن فيروز غنّت من كلمات قبلان مكرزل قصائد أخرى لحّنها الرحبانيان لا يذكرها محمد منصور، وهي “أنت يا مي زهرة”، “تانغو الحنين” (مي هل ترقصين)، “ذا خيال”، و”سلسليها”، وكلها من إنتاج 1952-1953. بعد قبلان مكرزل، يتوقف الكاتب أمام تجربة جمعت بين موسيقى الرحبانيين وشعر الياس ابي شبكة، وهي بحسب رأيه قصيدة “الحصادون” التي “قدموها كاملة ومن دون تعديل يذكر” ضمن برنامج “الحصاد” عام 1957. والصحيح أن هذا العمل سُجّل في إذاعة دمشق عام 1952، ولا يمت بصلة الى مشهد “الحصاد” الذي قدّم في مهرجانات بعلبك عام 1957، وفيه أدى نصري شمس الدين وصلة فولكلورية، تبعتها فيروز بأغنية “على طول يا كرومي”. تجدر الإشارة الى أن الرحبانيين لحّنا قصيدة أخرى لإلياس أبي شبكة في عام 1952، هي “أمطري واعصفي وارقصي”، وفيها تغنّي فيروز:
عادت المُزنُ إلى الأَرض وباح/ بالأعاصير وبالثلج الجبل
في الثرى جهد وفي الجو كفاح/ وعلى الدنيا أماني وأمل
بعد قبلان مكرزل وإلياس ابي شبكة، يؤكد محمد منصور ارتباط الأخوين رحباني في بداياتهما “بشاعرين كبيرين من شعراء لبنان الأول”، بشارة الخوري وسعيد عقل، ويضيف معلقا: “والواقع أن العلاقة مع الأخطل الصغير بدأت مبكرة حين غنّت له فيروز قصيدة “بردى” عام 1957، وقدّمتها في احتفال عيد الجلاء في نادي الضباط بدمشق. وقد لحن له الرحبانيان إحدى عشرة قصيدة: “بردى”، “بيروت هل ذرفت”، “بين النجوم”، “قد أتاك يعتذر”، “ملعب الأحلام”، “نسيم الدجى”، “ندى”، “وداد”، “يا رُبى”، “يا عاقد الحاجبين”، “يبكي ويضحك”. لا يقدم الكاتب جدولا زمنيا بهذه القصائد، والأرجح أن “بردى”، أو “ذكرى بردى”، وهي أبيات مختارة من قصيدة طويلة، لحّنها الرحبانيان وسجلتها فيروز في إذاعة دمشق في 21 شباط 1952، ويُقال إنها غنتها في نادي الضباط عام 1957 بحسب روايات تعود إلى فترة متأخرة وتفتقر إلى سند أكيد. في السنوات الأولى من حياتها الفنية، غنّت فيروز كذلك “وداد” (يا قطعة من كبدي) و”ندى”، أما “ملعب الأحلام” فمن الفترة نفسها، لكنها من كلمات ابن الأخطل، وزوج سلوى، شقيقة عاصي ومنصور. في عام 1961، شاركت فيروز في مهرجان مبايعة بشارة الخوري أميرا للشعراء بعد أحمد شوقي في حفل أقيم في قصر الأونيسكو، وغنّت بمرافقة بوغوص جيلاليان على البيانو “ملعب الأحلام” و”يا نسيم الدجى”، واستعادت “يا نسيم الدجى” في السنة نفسها، وغنّتها في بعلبك، ثم في دمشق حيث افتتحت حفلاتها بـ”يا ربى”، وعنوان القصيدة الأصلي “سيوف وجراح”. في عام 1962، أحيت فيروز “يوم الوفاء” على مسرح الكابيتول في بيروت، وافتتحته بـ”بيروت هل ذرفت عيونك دمعة”. في النصف الأول من الستينات أيضاً، سُجِّلت “قد أتاك يعتذر”. بعدها، سُجّلت “يا عاقد الحاجبين” وصُوّرت في عام 1968 ضمن فيلم “بنت الحارس”، وجاءت “يبكي ويضحك” في نهاية الستينات، وعنوانها الأصلي “أرق الحسن”.
في استعراضه التجربة التي ربطت الرحبانيين بسعيد عقل، يقول محمد منصور إن حصيلة هذا التعاون تمثلت في أربع وعشرين أغنية، بينها تسع عشرة قصيدة، لكنه لا يقدم قائمة بهذه الأغاني ولا يؤرخ العناوين التي يذكرها. في الخمسينات، كان هذا التعاون محدودا، وتمثل في عملين، هما قصيدة بالعامية عنوانها “حلم” (يبقى المسا) تحتفظ إذاعة دمشق بنسخة منها، وقصيدة “أجمل منك لا” بثّتها “إذاعة الشرق الأدنى” في عام 1954، وهي من الأعمال “المفقودة”، مثل “جبل الريان”. تطور التعاون بشكل كبير في مطلع الستينات، وأثمر أشهر دمشقيات فيروز، وهي تباعا: “سائليني” (1960)، “قرأت مجدك” (1962)، “شام يا ذا السيف” (1963)، “نسمت من صوب سوريا الجنوب” (1964)، “مرّ بي” (تلحين عبد الوهاب، 1967)، “أحب دمشق” (1973)، “بالغار كُلِّلت” (1974). يذكر الباحث قصائد وطنية أخرى شدت بها فيروز، هي “قصيدة لبنان”، و”أجراس العودة”، “أردن أرض العزم”، “عمان هذا الضحى”، و”غنيت مكة”. نضيف أن فيروز غنّت “قصيدة لبنان” في الأرز عام 1969، غير أنها لم تنتشر إلا بعدما صوِّرت تلفزيونيا في سهرة “قصة حب”. أما “أجراس العودة”، فقُدّمت أولا على مسرح معرض دمشق في عام 1966، وسجّلت في الستوديو بعد عام. تمثلت حصة الأردن في ثلاث أغان ذكر منها محمد منصور اثنتين، هي تباعا “أردن أرض العزم” (1963)، “عمان في القلب” (1975) و”هذا الضحى” (1977). خارج النطاق الوطني، غنّت فيروز من شعر سعيد عقل “من روابينا القمر”، “أمي يا ملاكي” و”شال”، إضافة إلى سلسلة أغان بالمحكية، منها: “مشوار” (1960)، “بحبّك ما بعرف” (1961)، “مرجوحة”، “لمين الهدية”، “فتحهن عليي”، “يارا”، و”دقيت طل الورد عالشباك” (1971).
يكمل الباحث باب “شعراء لبنان”، ويذكر من “شعراء المهجر” جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة. في كلامه عن جبران، يحصي “المحبة” و”في ظلام الليل”، “أعطني الناي” و”سكن الليل”، ناسبا العملين الأولين إلى الرحبانيين، والثالث إلى نجيب حنكش، والرابع إلى محمد عبد الوهاب. غنّت فيروز “أعطني الناي” في عام 1964، وتلتها “سكن الليل” عام 1967. قُدّمت “المحبة” أولا في الأرز عام 1969، وانتشرت بعد تقديمها في أميركا عام 1971، ثم في بيروت عام 1972 بنسخة مطولة ومطورة حيث ضمت نصوصاً من فصول اضافية من كتاب “النبي” (الاولاد والزواج). تخرج “في ظلام الليل” (عنوانها الرسمي “يا بني امي”). عن الدائرة الرحبانية، فهي من تلحين زكي ناصيف عام 1981، بعد انفصال فيروز عن الرحبانيين، وهي معاصرة لعمل آخر من كلمات جبران لحّنه زياد رحباني، عنوانه “الأرض لكم”.
من أشعار إيليا أبي ماضي التي غنّتها فيروز، يذكر الكاتب “وطن النجوم” وينسب لحنها الى الرحبانيين، وهو في الواقع لخالد أبي النصر، الذي لحّن قصيدة أخرى للشاعر غنّتها فيروز في بداياتها، هي “يا أيها الشادي”. يبقى ميخائيل نعيمة، وقد لحن له الرحبانيان عملا يتيما في الستينات، قصيدة “أوراق الخريف”، ومطلعها “تناثري تناثري يا بهجة النظر/ يا مرقص الشمس ويا أرجوحة القمر”. في نهاية باب “شعراء لبنان”، يمر محمد منصور بسرعة على أعلام “الشعر المحكي”، وهم “رشيد نخلة، ميشال طراد، أسعد سابا، وعبد الله غانم”، ثم يذكر قصيدة بالفصحى لرشدي المعلوف هي “ربي سألتك”، وأخرى لبولس سلامة هي “نوّار يا حلم الصباح”، ويختم بـ”مواكب الحق” لنجيب إليان. نضيف هنا أن الرحابنة قدّما في مطلع حياتهما برنامجا إذاعيا خاصا بعيد الأمهات ألّفه رشدي المعلوف، مع فيروز وسعاد هاشم وكروان، وتسجيل هذا البرنامج ضائع، غير أن اسمه مذكور في دفاتر إذاعة لبنان. أما “ربّي سألتكَ” فمن إنتاج أوائل الستينات، وأدّتها فيروز بمرافقة موسيقية تقتصر على البيانو. تعود “نوار يا حلم الصباح” إلى منتصف الخمسينات، أما “مواكب الحق”، فمفقودة، ولدى إذاعة لبنان تسجيل آخر لهذه القصيدة من تلحين حليم الرومي وأدائه. يحضر في هذه القائمة ثلاثة شعراء غابوا عن هذا الباب، هم إلياس بركات ورياض المعلوف ورفيق شلالا، وقد تعاون معهم الرحبانيان في بداياتهما، ولحنا من شعر الأول “كلمات العاشقين”، ومن شعر الثاني “عودة القمر”، ومن شعراء الثالث “تعال تعال”.
شعراء سوريا وفلسطين
من شعراء لبنان، ينتقل الكاتب إلى ثلاثة شعراء من سوريا، هم بدوي الجبل، نزار قباني، وعمر أبو ريشة، وقد أصاب في تحديد قصائدهم المغناة وتحليلها بشكلها “الأول” ثم بشكلها “الرحباني” المُعدّل، غير أنه لم يؤرخ هذه الأعمال. سجلت فيروز من شعر بدوي الجبل “خالقة” في دمشق عام 1954، وهذه الأغنية من أرفع أعمالها الفصحى وأعظمها. وأدت من شعر نزار ثلاثة أعمال بديعة، أولها “وشاية” في النصف الأول من الخمسينات، و”لا تسألوني ما اسمه حبيبي” في النصف الأول من الستينات، و”موال دمشقي” في عام 1971. يبقى عمر أبو ريشة، وقد سجلت فيروز من شعره في إذاعة دمشق قصيدة “عنفوان” في نيسان 1952. يكتمل الفصل مع شاعرين من فلسطين، هما عبد الكريم الكرمي الشهير بأبي سلمى، وهارون هاشم رشيد. في دمشق، سجلت فيروز عام 1954 قصيدتين من شعر أبي سلمى، وهما “داري” و”ابن بلادي”. وفي القاهرة، سجلت عام 1955 مغناة من تأليف هارون هاشم رشيد تعرف تارةً بـ”غرباء”، وطورا بـ”مع الغرباء”. ينسب محمد منصور كلمات “سنرجع” الى هذا الشاعر الفلسطيني، والصحيح أنها رحبانية، وقد سجلت في بيروت عام 1957، وهي معاصرة لـ”يا ربوع بلادي”.
ينهي المؤلف فصله الثاني بالحديث عن “ضيوف الشرف” من شعراء مصر، فيذكر أحمد شوقي ومرسي جميل عزيز، واستعادت فيروز من شعر الأول “يا جارة الوادي” التي لحّنها عبد الوهاب، وغنّتها في صياغة رحبانية جديدة في مطلع الستينات. قبلها غنّت فيروز من شعر مرسي جميل عزيز قصيدة “سوف أحيا”، وهي واحدة من مجموعة الأعمال التي سجلت في القاهرة عام 1955. يختم محمد منصور حديثه بكلام سريع عن الشعر الرحباني، مكتفيا بنماذج قليلة، ما يجعل هذه الخريطة ناقصة، فقد ألّف الرحبانيان عشرات القصائد المغناة، ويحتاج تصنيف هذا الإنتاج إلى دراسة مستقلة، فمنه القصائد “الخفيفة”، ومنه أشعار تقارب الموشحات، ومنه أعمال تشابه تلك التي اختاراها من إنتاج أعلام الشعر العربي المعاصر. في هذا العرض السريع، يكشف الناقد عن تأثر الرحبانيين بقصيدة لشاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة في مطلع إحدى قصائدهم المغناة. تغني فيروز: “كتبتُ إليكِ من عتبِ رسالة عاشق تعبِ”، ويقول عمر بن أبي ربيعة: “كتبت إليكِ من بلدي كتابَ مولّه كَمد”. يلي هذا الفصل ملحق يضم باقة من القصائد جرى الحديث عنها، وملحق ثان عنوانه “أجمل عشر قصائد للأخوين رحباني”، وفيه: “لقاء الأمس”، “امس انتهينا”، يا زائري في الضحى”، “نجمة الكتب”، “رجعت في المساء”، “عصفورة الشجن”، “اذكريني”، القطاف”، “بغداد”، و”شهرزاد”. يمكن القول إن ثلاثة من هذه الأعمال تعود إلى الخمسينات، هي “لقاء الأمس” و”اذكريني” و”القطاف”. وتعود “شهرزاد” و”بغداد” إلى السبعينات، أما القصائد الأخرى، فكُتبت في السنوات الأخيرة من الستينات.
مع الشعراء
في الباب الثاني من الكتاب، انصبّ اهتمام الكاتب على “نصوص مجهولة للأخوين رحباني” تتناول “أعلام الشعر العربي”، وهي أربعة نصوص قُدّمت الى الإدارة السياسية في الجيش والقوات المسلحة في سوريا كمشروع إنتاج تلفزيوني من حلقات عدة. ووافقت الإدارة على إنتاج هذه الحلقات للتلفزيون، واختارت له عنوان “مع الشعراء”، وطبعت النصوص في كتيبات من إصدارها، إلا أن المشروع تعثّر لسبب غير معروف “ولم ير النور على الشاشة”. تجدر الإشارة هنا الى أن الرحبانيين عملا في السابق على مشروع إذاعي مشابه غابت عنه فيروز، وسجلا سلسلة من الحلقات التراثية شارك في كتابتها رفيق خوري. هذه الأعمال مجهولة تماما اليوم، مع العلم أن هناك نسخاً منها في إذاعة بيروت وإذاعة دمشق، وكل ما يمكن قوله إن الغناء فيها يقتصر على فقرات أدّتها الأصوات التي عهدناها في الأعمال الرحبانية.
يقدم محمد منصور صورة مختزلة عن مشروع “مع الشعراء” في قراءة نقدية تتناول نصوصه الأربعة. بطل الحلقة الأولى أمرؤ القيس، وبطل الثانية الشاعر الأموي جميل بثينة. تنقلنا الحلقة الثالثة إلى الزمن العباسي، ومحورها سيرة أبي تمام. أما الرابعة، فخاصة بالأندلس، وفيها يروي الرحبانيان عبر شعر ولاّدة وابن زيدون “ملامح من قصة حب ولدت على تخوم صراع مستعر على السلطة”. تجدر الإشارة الى ان منصور رحباني تحدث عن هذا المشروع في مقابلة نشرت في حزيران 1982، وذكر حلقة خامسة بطلها المتنبي. يبقى المشروع ناقصا، ولا يملك القارئ سوى أن يسأل نفسه: هل قام الرحبانيان بتلحين شيء من هذه النصوص، وهل شارك عاصي في هذا العمل في خريف عمره؟
الزمن المستعاد
نصل إلى الباب الثالث والأخير، وهو باب دخيل أُقحم قسرا في الكتاب، ويتألف من مقالتين. في الأولى، يكرر الكاتب المنظومات التقليدية التي تُقال في المناسبات الرسمية حول أصالة التجربة الرحبانية وحداثتها، واصفا معالجة زياد لتراث عاصي ومنصور بـ”حالة من الاجتهاد المترف، أو لزوم ما يُلزم”، وهو الكلام الذي اعتاد “السلفيون” على قوله في توزيع الأخوين رحباني من قبل لأعمال سيد درويش وعبد الوهاب والميراث الفولكلوري المحلي. في المقالة الثانية، يعود الكاتب إلى تجربة فيروز السينمائية تحت عنوان باهت هو “ابنة الضيعة التي تحلم بالعدالة والحب البريء”. كُتب هذا المقال في الأصل كمداخلة في تظاهرة تكريمية للسيدة فيروز ضمن مهرجان دمشق السينمائي في دورته السادسة عشرة عام 2008، وفيها تم عرض “بياع الخواتم” و”سفر برلك” و”بنت الحارس”. لا تقدم هذه الشهادة أي جديد، وهي أشبه بدرس مدرسي ساذج في القيم والأخلاق السامية. “في الأفلام الثلاثة”، والكلام للمؤلف، “ظهرت فيروز بأدوار خرجت عن النمط المألوف في أفلام الستينات التجارية في مصر، فهي ليست نجمة العشق والهوى، ولا المشاهد العاطفية والمشاعر المتأججة، وإن كانت أغانيها السينمائية تعبّر عن التوق للحبيب، لكنه الحبيب الذي تختلط صورته بالوطن، وبالأهل، وبالحياة البسيطة الهانئة، وبالعيش بكرامة. ولم تكن العلاقة العاطفية مقصودة لذاتها في أيٍّ من هذه الأفلام، لأن فيروز جسدت فيها ابنة الضيعة اللبنانية بذكائها الفطري، وخبرتها الحياتية، وانشغالها بهموم الحياة والأهل، وحساسيتها العالية تجاه اختلال موازين العدل، سواء كانت بفعل احتلال، أو بفعل فساد سلطة أو نظام اجتماعيين” ¶
ملحق النهار الثقافي