استلهامات القتلة
صبحي حديدي
فلندعْ جانباً ما جاء في الصحافة البريطانية، من أنّ حصيلة الأموال التي جناها رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير منذ صيف 2007، حين ترك المنصب، بلغت قرابة 15 مليون جنيه إسترليني؛ ولنتأمل في الأسباب التي تجعله جذاباً إلى هذا الحدّ في ناظر مؤسسات المال والأعمال والإستثمار، العملاقة العابرة للقارّات، الخاصة أو الحكومية. فما الذي يجعل الحكومة الصينية تدفع له مبلغ 200 ألف جنيه إسترليني، عدا نفقات سفره وإقامته في فيللا بالغة الفخامة، لقاء محاضرة قصيرة ‘طافحة بالكليشيهات الجوفاء’، كما ذكرت صحيفة ‘غانجهو’ الصينية واسعة الإنتشار؟ ولماذا يتقاضى المبلغ ذاته، عن محاضرة عابرة أمام حفنة من العاملين في شركة مضاربات بريطانية، كانت قد استغلت متاعب المصارف خلال الأزمة المالية الأخيرة، وحققت ملايين الأرباح؟
أهي زعامته لـ’العمّال الجديد’، كما يسير التوصيف الراهن، التي جعلت الحزب يعيش واحدة من أسوأ أطوار الإنحطاط الفكري والسياسي والأخلاقي؟ أم هي عبقريته السياسية، كرئيس وزراء خلال ثلاث دورات تشريعية، التي أعادت إنتاج الثاتشرية في الاجتماع والاقتصاد والحقوق والحرّيات، فضلاً عن استئناف الغزو العسكري الخارجي، والتحالف الذيلي شبه المطلق مع الولايات المتحدة؟ لا هذه ولا تلك، يقول بعض الخبثاء، وإنما هذا التفصيل المثير في نشأة بلير: أنّ الكتاب الذي شدّه إلى السياسة كان سيرة البلشفي الروسيّ الشهير ليون تروتسكي (1879 ـ 1940)، كما كتبها المفكر والمؤرّخ البولوني إسحق دويتشر في ثلاثيته الشهيرة!
ولكن… هل يعقل أنّ الذي انشدّ في سنوات الصبا إلى تروتسكي، هو اليوم حامل الألقاب التالية، بين أخرى عديدة: ‘مجرم حرب’، في يقين هارولد بنتر؛ و’ كاذب’، مع اشتقاق بارع مستمدّ من اسمه: Bliar، حسب أسبوعية الـ’إيكونوميست’ البريطانية؛ ومخادع كذب على شعبه، عند 52′ من البريطانيين، 25′ منهم يطلبون تقديمه إلى المحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب؟ الحيثيات السابقة، وسواها، تقول ببساطة إنّ تلك التلمذة الذاتية التروتسكية لم تكن رديئة سطحية فحسب، بل لعلّها كانت عكس الطبيعة أيضاً، وأصلاً!
وقبل هذا، كان بلير قد أطلق تصريحاً لا يقلّ دراماتيكية، أعلن فيه انّ الله هو حسيبه في قرار غزو العراق، وانه صارع ضميره طويلاً قبل أن يرسل القوّات البريطانية إلى العراق: ‘لقد توجّب عليّ اتخاذ ذلك القرار… وفي نهاية المطاف أعتقد أنّك إذا كنتَ تتحلى بالإيمان في هذه الأمور، فإنك سوف تدرك أنّ الحكم على القرار يصدر عن آخرين’. وحين سأله محاوِره آنذاك، مايكل باركنسون، عن قصده من هذه العبارة الملتبسة، أجاب بلير: ‘إذا كنتَ مؤمناً بالله، فإنّ الحكم لله’!
وبالطبع، كان من حــــقّ أُسَر الضحايا البريطــــانيين الذين قضوا في العراق، أو جرّاء غزوه، أن يرفضوا هذا التلفيـــق الإيماني، فاعتبر ريغ كيز، مؤسس مجموعة ‘العوائل العسكرية ضدّ الحرب’، أنها تصريحات ‘مثيرة للإشمئزاز’، وبلير ‘يستخدم الله ذريعة للتملّص من استراتيجية فشل شاملة’. وتساءل الرجل، الذي فقد ابنه في تفجــــيرات أنفاق لندن: ‘هل نرى 100 كفن قادمة من هناك، لأنّ الله أخــــبره أن يذهــــب إلى الحرب؟’. من جانبها أعلـــنت روز جنتل، التي قُتل ابنها في البصرة سنة 2004، أنها ‘تشعر بالقرف’ من تصريحات بلير: ‘المسيحيّ الحقّ لا يرسل العباد إلى هناك لكي يُقتلوا إرضاء لأمريكا’.
أسئلة مشابهة يمكن أن تأخذ المنحى التالي: أي ‘إلهام إلهي’، لكي يستخدم المرء تعبير الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، يرشد إلى تدمير أسلحة الدمار الشامل، اتضح أنها غير موجودة؟ وهل كان الإلهام ذاته وراء قرار بلير بتلفيق الملفّ الشهير، حول المخابر النووية العراقية المتنقلة؟ وأيّ إلهام أعلى يمكن أن يسفر عن الفظائع النكراء في سجن أبو غريب، ومعتقل غوانتنامو؟ أيّ إله ذاك الذي ألهم قصف الفلوجة بالقنابل الفسفورية، والتسبب في مقتل 100 ألف عراقي مدني، وتدمير البنية التحتية للبلد، ونهب ثرواته وتاريخه، وتخريب البيئة، وإطلاق كلّ أشباح الحرب الأهلية لكي تجوس العراق طولاً وعرضاً؟ وكيف يمكن للملهَم، الذي يعتبر الله حكَمَاً، أن يكون مخاتلاً مجرماً كاذباً إلى هذه الدرجة؟
صفة الـ Bliar كُتبت على عشرات اللافتات التي رفعها آلاف المتظاهرين المطالبين بإدانة بلير كمجرم حرب، في مناسبة مثوله مؤخراً أمام ‘لجنة شيلكوت’ للتحقيق في ملابسات غزو العراق؛ ولكنّ صفة الكذب لا تكفي، حسب الصحافي البريطاني الممتاز باتريك كوبرن، الذي يغطّي أخبار العراق منذ الغزو، وينبغي إضافة صفات أخرى مثل ‘الغبي’ و’الأحمق’ و’بليد العقل’! ولكن، كيف… والرجل يتقاضى مئات الآلاف من الجنيهات الإسترلينية، عن محاضرات بعضها لا يدوم ساعة واحدة يتيمة؟ يردّ كوبرن: ألا يقول اليوم، أمام لجنة التحقيق، انه ‘فوجئ تماماً’ بانتشار منظمة ‘القاعدة’ في العراق، وصعود إيران كقوّة إقليمية كبرى، بسبب غزو العراق؟
في صياغة اخرى، هل يمكن لزعيم دولة أوروبية كبرى، كانت إمبراطورية عسكرية وكولونيالية عظمى ذات يوم، أن تصيبه مفاجأة مثل هذه، دون أن يكون في الأصل غبياً وأحمقَ وبليد العقل؟ اللهم لا حسد، إذاً، وهنيئاً له على ما تدرّ عبقريته من عوائد خرافية!
خاص – صفحات سورية –