استقلال لبنان وديموقراطية سوريا
سمير قصير
بدا العراق أحياناً، من لبنان ودول عربية أخرى، بلداً منسياً. ولكنْ إذ يستفيق قلةٌ من العرب مع العالم الى معاناة الشعب العراقي وتطلعاته في آن واحد من أجل أن يلفظ الديكتاتوريتين، التي في الداخل وتلك الآتية على حاملات الطائرات، تقع شعوب عربية أخرى طيّ النسيان الدولي. في هذا المقال المستلّ من الملف الخاص الذي وضعته مجلة Confluences méditerranéennes تحت إشراف برهان غليون وفاروق مردم بك عن “ربيع سوري”، استعادة للتاريخ المتداخل لشعبين لا يزالان يعانيان الاستبداد نفسه.
في تشرين الأول 2002 أُعلِن عن نقل اللواء غازي كنعان الى دمشق، واحتارت الطبقة السياسية اللبنانية كيف تكرّمه. رئيس الجمهورية قلّده أرفع وسام لبناني وجرى تسليمه مفتاح مدينة بيروت في حفل رسمي حضره رئيس الحكومة. كان غازي كنعان يختم بذلك عقدين كاملين من الزمن أمضاهما في لبنان على رأس جهاز المخابرات السورية، منها ما لا يقل عن اثني عشر عاماً في وضعية قد لا تكون رسمية لكنها قطعاً فعلية جعلته والياً على البلد او، كما كان يقال بخفر، مفوضاً سامياً.
من وجهة النظر اللبنانية الحدث كبير والتملّق لازم، وخصوصاً ان نقل كنعان حمل رسمياً طابع الترقية، حيث انه أنيط ادارة فرع الأمن السياسي، أحد أهم أجهزة المخابرات والقمع في السلطة السورية. بيد ان تحديد الطابع الحقيقي لهذه المناقلة ليس بالمهمة السهلة. إذ لا يخفى ان كنعان ترك “الولاية” اللبنانية الكبيرة، حيث عهد الا يقاسمه أحد النفوذ في معظم الأحيان، لقاء مجرد جزء من السلطة في “المركز”. فحتى لو كان سلفه في قيادة الأمن السياسي، اللواء عدنان بدر حسن، يُعدّ بين الرجال الأقوياء في سوريا، يبدو جلياً ان حجم النفوذ الذي سيتمتّع به كنعان مستقبلاً في وظيفته الجديدة، سيكون وقفاً على عوامل عدة لا يملك ان يتحكّم بها جميعاً، اي ان سلطته ستحتاج في احسن الاحوال الى شيء من الوقت كي تستقرّ. وفي هذا المعنى، فإن نقل كنعان من لبنان قد يمثل على حد سواء ترقية او ابعاداً.
أياً يكن المعنى الحقيقي لهذه المناقلة، يبقى ان مغادرة حاكم عسكري سوري اعتبر جزءاً لا يتجزأ من المشهد اللبناني، تلقي بضوء جديد على نوعية العلاقات بين البلدين. لم يحصل في ما مضى ان احيطت مناقلة داخل الجهاز العسكري في لبنان بمثل هذه الدعاية، او غذّت هذا الكم من التساؤلات. هذه العلانية في ذاتها تبدو لنا مؤشراً الى أهمية المعطى اللبناني في الحقل السياسي السوري. فإذا اعتبرنا ان اللواء كنعان قد حظي بترقية الى قلب مركز القرار السوري اكراماً لفضائله في لبنان أو كنتيجة لموقع القوة الذي اقتطعه لنفسه فيه، نكون امام البرهان الدامغ للقيمة التي بات ينطوي عليها نظام الحماية المفروض على لبنان في تنظيم السلطة في دمشق. اما اذا كان اللواء كنعان، على العكس من ذلك، قد خضع لإبعاد مقنّع، فإن هذا لا يخفف من المعنى السياسي للحدث، اذ نكون أمام نتيجة صراع داخلي في مركز السلطة السورية، صراع يتصل في ما يتصل بالسيطرة على المحمية اللبنانية.
ومع ذلك كله، لا يبدو لبنان حاضراً في اهتمامات المعارضة السورية، فخلا بعض الاستثناءات القليلة، أهمها ما جاء من رياض الترك، يشكل لبنان نوعاً من “الثقب الأسود” في الخطاب السوري المعارض، وهنا الطامة الكبرى، ليس بمعنى مطالبة المعارضين السوريين بفعل تضامن او حتى اعتراض – فلهم ما يكفيهم من الهمّ عندهم – بل من باب استغراب غياب جزء كامل من سياسة النظام السوري عن نقدهم. انه غياب جدير بالتعجب، في اعتبار ان التماهي الذي فرضته سياسة سيطرة واحدة على المسرحين السوري واللبناني – الى حد مزجهما معاً – ليس بجديد، وانه يُتوقّع من معارضي النظام البعثي ان يملكوا افضل السلاح لادراك آلياته.
رجحان الجيوسياسة
تعود التفسيرات الأكثر شيوعاً للسياسة السورية في لبنان الى حقل التحليل الجيوسياسي، ويبدو ذلك جلياً عند تناول اللحظة المؤسسة لهذه السياسة، أي الدخول الرسمي للجيش السوري الى الأراضي اللبنانية في حزيران .1976 فإذا كان لا بد من الاشارة الى النظرية المغايرة المبنية على المعطى الداخلي التي تقدم بها فريد لوسون (1)، لما تحمله من طاقة استقرائية، لا جدال في ان العامل الجيوسياسي كان راجحاً في قرار حافظ الأسد الانتقال من “المبادرة السورية”، على ما كانت تسمّى آنئذٍ مساعي التسوية التي قامت بها دمشق، الى تدخل عسكري حاشد. وكان هذا العامل يكتسب معناه في الظروف المتولدة من حرب تشرين وأفق التسوية السلمية للصراع العربي – الاسرائيلي التي شكّل مؤتمر جنيف اطارها المفترض. في معنى آخر، فإن ما بدا على المحك في نظر المسؤولين السوريين، كان موقعهم التفاوضي في ازاء اسرائيل والولايات المتحدة. ذاك الموقع لم يكن قابلاً للتعديل فيما لو بقي في المجال التقليدي للمواجهة السورية – الاسرائيلية، حيث ان اتفاق فصل القوات الذي هندسه كيسينجر في ايار 1974 وبات يحرسه انتشار قوات دولية، ترافق مع توافق غير منظور على صون الوضع القائم. في المقابل، كان يمكن غياب الاستقرار الذي استشرى في لبنان منذ ربيع 1975 ان يؤدي الى تعديل المعادلة الجيوسياسية سواء في اتجاه سلبي او في اتجاه ايجابي. فمن جهة، كان يتوجب على الحكم السوري تجنّب الاضعاف الذي كان سينال من موقعه جراء قيام حكم على يسار البعث في لبنان وما يستتبعه من استقلالية للمقاومة الفلسطينية فيه. لكن، من جهة اخرى، كان يمكن زيادة القدرة السورية على المساومة تحضيراً لمؤتمر جنيف وفي سياق العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة. ففي حال نجاحه في السيطرة على منظمة التحرير ولبنان، كان في امكان الحكم السوري، المرتبط آنذاك بتحالف وثيق مع الاردن، ادعاء التكلم باسم “ثلاث دول وأربعة شعوب”، حسب التعبير المعروف (2).
بعد هذه اللحظة التأسيسية، لم تغب يوماً أهمية العامل الجيوسياسي. صحيح ان المحاولات السورية للسيطرة على الحركة الوطنية الفلسطينية فقدت معناها ابان الاجتياح الاسرائيلي عام ،1982 فالحرب السورية – الفلسطينية في طرابلس عام .1983 كما ان عملية التسوية كانت آنذاك في المأزق. ثم ان سوريا، التي جعلها الاجتياح الاسرائيلي في وضع دفاعي، ستستغرق، خلال ما يقارب الاربع سنوات، في محاولة استعادة مواقعها المفقودة. الا ان المجال الجيوسياسي اللبناني اكتنز في الوقت نفسه بعداً جديداً، حيث ان لبنان استحال مسرحاً للتعبير عن التحالف السوري – الايراني، وخصوصاً في وجه الدول الغربية التي كانت تساند العراق.
بيد انه سيتوجب انتظار سنوات التسعين، واطلاق عملية التسوية مجدداً في مؤتمر مدريد، حتى تتكشّف الهيمنة السورية على لبنان، وكانت قد تكرّست بعد انتهاء الحرب، عن ثرائها الاستراتيجي. فقد اكتسبت سوريا ورقة لا تقدّر بثمن في المفاوضات مع اسرائيل جراء دعمها الحازم للمقاومة، التي بات يديرها الآن “حزب الله”، خصوصاً انطلاقاً من .1993 وفي موازاة هذا الدعم، جاء فرض “تلازم المسارين” الشهير، هذا المفهوم الطلسمي الذي جعل من ترابط المسار اللبناني – الاسرائيلي والمسار السوري – الاسرائيلي فرضية لا تقبل أي نقاش، ليكمّل تعطيل الديبلوماسية اللبنانية، وهي التي كانت حتى تلك اللحظة حريصة على مبدأ الفصل بين الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان والصراع العربي – الاسرائيلي. وكانت النتيجة القرار الاسرائيلي بالانسحاب الاحادي، في أيار ،2000 الذي شكّل بما لا يحتمل النقاش انتصاراً للبنان، ولا ريب ايضاً لسوريا. غير ان ما حصل، في ما يمكن اعتباره احدى أغرب المفارقات في تاريخ نزاع الشرق الاوسط، هو ان القرار الاسرائيلي بالانسحاب لم يثر في لبنان وسوريا الا الحيرة والارتباك، وهذا أقل ما يقال. فقد نزع هذا الانسحاب من المجال اللبناني، وتالياً من يد اللاعب السوري الذي يتحرك فيه، الجزء الأكبر من وظيفته الاقليمية، أياً تكن المحاولات اللاحقة لابقاء الجبهة اللبنانية – اسرائيلية ساخنة.
التوظيف الاقليمي
مهما تكن الحسابات الاستراتيجية للحكم السوري حاضرة، لا يمكن الاكتفاء بقراءة تاريخ تدخّله في لبنان من زاوية “السياسة الخارجية”، اذ لا معنى للكلام عن الجيوسياسة الا بشرط ان يُشمل في دائرتها المجال السوري نفسه. وهذا ايضاً يبدو جلياً منذ اللحظة التأسيسية لهذه السياسة. فحتى من دون الاقرار بفرضية فريد لوسون المذكورة آنفاً والتي تدّعي تفسير التدخل السوري في لبنان بعوامل داخلية سورية وتحديداً ببداية الاعتراض على النظام، فالصحيح ان حافظ الأسد نجح بفعله هذا ان يعطي سلطته وظيفة خارجية. وفي غياب قاعدة سوسيولوجية واسعة يستطيع الارتكاز عليها، صار حكمه ينتظم وفق معادلة اقليمية.
كان التدخل في لبنان، اكثر حتى من حرب تشرين، الفعل الذي كرّس وضعية سوريا كقوة اقليمية في نظر الولايات المتحدة واسرائيل كما في نظر الدول العربية الاخرى. فـ”حوار الردع” الذي قام مع اسرائيل (3)، منذ تلك اللحظة، على الاراض اللبنانية، استحال احدى ثوابت جيوسياسة الشرق الاوسط لأكثر من ربع قرن، باستثناء فصل قصير دام عامين بين 1981 و.1983 ولا ريب ان هذه الوظيفية، إن لم تكن تفسر كلياً ديمومة حكم الأسد، فهي السبب الأبرز للرعاية التي نالها من الديبلوماسية الاميركية، حتى بعد التطبيع المصري – الاسرائيلي.
واذ بدا منطق الواقعية السياسية ناجحاً، فان ثماره قد تضاعفت بنجاح الأسد في توفيقه مع المنطق الايديولوجي، وإن لم يخلُ الامر من الحركات البهلوانية. ففي الوقت نفسه، كان وجود جيشه في لبنان، اي في موقع المواجهة مع اسرائيل، ولو فقط مواجهة كامنة، يتيح له ان يكرّس شرعيته القومية ويتجاوز بسرعة فقدان الصدقية الذي طاوله جراء تحالفه مع ميليشيات اليمين المسيحي اللبناني من اجل صد التحالف بين المقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني. واذا كانت المساهمة السورية في تحطيم مخيّم تل الزعتر قد حملت في ذاكرة الكثيرين صفة “اللطخة”، فإن الأسد لم يُسأل عنها في النهاية. وخصوصا ان الفردية المصرية، بعد زيارة السادات القدس في تشرين الثاني ،1977 أملت على القيادة الفلسطينية التقرّب مجدداً من دمشق، مهما كلّفها الأمر.
وجاء التشنج الاسرائيلي – الاميركي، بعد وصول رونالد ريغان الى الحكم في واشنطن، واعادة انتخاب مناحيم بيغن في اسرائيل، عام ،1981 ليعطي الأسد فرصة اظهار عزمه، من دون ان يصل به الامر الى التخلي عن توافق .1974 فإذا كانت السرعة التي قبل بها الرئيس السوري وقف اطلاق النار في حزيران 1982 قد أنست، وفي شكل لا يخلو من الظلم، حجم الخسائر التي تكبّدها جيشه خلال معركتين كبيرتين للدبابات دارتا في الايام السابقة، فقد تسنى له اعادة الاعتبار الى سجلّه القومي في العام التالي، عندما حظي من الاتحاد السوفياتي بقيادة اندروبوف بمساعدة وافرة لإعادة تسليح قواته، في ظل معاودة الحرب الاهلية في لبنان واشتداد الحرب الباردة، وتمكن من قيادة مواجهة، ولو غير مباشرة، مع الولايات المتحدة التي لم يتأخر عسكرها من المارينز في مغادرة لبنان.
وبعد ما ناله من رصيد اثر احباط اتفاق 17 ايار 1983 بين لبنان واسرائيل، ومنع سابقة كمب ديفيد من ان تتكرر في بلد عربي ثانٍ، وفي غياب اي منافسة من منظمة التحرير التي نجحت سوريا بعد اسرائيل في طردها من حظيرتها، بات في امكان الأسد العودة الي الواقعية السياسية، وخصوصا ان الولايات المتحدة كانت راغبة من جهتها في استعادتها. وتلافياً لاي زلة قد تعرّض هذه الواقعية، حرصت دمشق، غداة انسحاب اسرائيل من معظم الاراضي المحتلة، على تحييد الفصائل اللبنانية والفلسطينية التي كانت خاضت المقاومة في جنوب لبنان، سواء مباشرة او بطريقة غير مباشرة.
ورغم التناقضات الظاهرة على المستوى الاقليمي، وخصوصا حول موضوع الحرب بين العراق وايران، ورغم سياسة سورية اقل ما يقال فيها انها كانت متساهلة في مسألة حجز الرهائن الاجانب في لبنان على ايدي مجموعات قريبة من ايران، فإن العلاقات السورية – الاميركية استعادت استقرارها. وجاءت الاشارة الساطعة على ذلك عندما تبنى الموفد الاميركي ريتشارد مورفي الخيار السوري لرئاسة الجمهورية في لبنان، والذي كان وقع على النائب ميخائيل الضاهر، فكانت له جملته الشهيرة “اما الضاهر واما الفوضى”. اما وقد دبّت الفوضى، فقد حرصت الولايات المتحدة على عدم التورط ولو لحظة مع الخصم المحلي الجديد لسوريا، العماد ميشال عون. حتى انه تم اقفال السفارة الاميركية في بيروت اثر تظاهرة حرق فيها مؤيدو عون العلم الاميركي. واخيراً، في تشرين الاول ،1990 وبعد عام على اتفاق الطائف الذي كان لا يزال عون يرفضه، تمكنت سوريا من استخدام طيرانها للتخلص من العماد المعارض، مما شكّل مدخلاً لـ”تطبيع” لبنان. وكان واضحاً ان اللجوء الى القصف بالطيران، الذي لا سابق له منذ التوافق السوري – الاميركي – الاسرائيلي المعقود في ربيع ،1976 حظي بضوء اخضر من الولايات المتحدة الساعية، عشية عملية “عاصفة الصحراء”، الى اشراك قوات سورية فيها.
ودُفع الاستخدام المتزامن لمنطقَي الواقعية السياسية والمقاومة الى اقصاه في الحقبة التالية، بعد عودة السلام الى لبنان في ظل تحكّم سوري كامل، ما عدا الشريط الحدودي الضيّق الذي ظلت اسرائيل تحتله. فكانت سوريا ملتزمة عملية التسوية – وكان الأسد اول من وافق على صيغة مدريد التي اقترحها وزير الخارجية الاميركي جايمس بايكر – ولم يكن وارداً في حال من الاحوال تعريض توافق 1974 في الجولان، حتى من اجل تحسين الموقع التفاوضي السوري. واذا كان هذا الموقع قد شهد تحسناَ، فكان ذلك مرة جديدة بفضل المسرح اللبناني، من خلال الدعم المقدَّم الى المقاومة اللبنانية، بعد اعادة تشكّلها وانتقالها كلياً الى “حزب الله”. غير ان النجاح المسجل في نطاق المقاومة ترجم نفسه، كما رأينا، حرجاً في نطاق الجيوسياسة، اذ ان قرار الانسحاب الاسرائيلي حرم سوريا أهم رافعة كانت تملكها في إزاء مسيرة التسوية. والاسوأ، من وجهة نظر سوريا، ان نهاية الاحتلال الاسرائيلي افضت في شكل شبه آلي الى اعادة اطلاق المطالب اللبنانية بانسحاب جيشها، فيما كانت وفاة حافظ الأسد، بعد اسبوعين على تحرير الجنوب، تضع مستقبل نظامه على المحك.
تلازم الممارسات
لم يقتصر التلازم بين المجالين اللبناني والسوري على هذا التوظيف الإرادي. ذلك ان اهمية لبنان في الجيوسياسة السورية لها وجه سلبي. فإذا كان لبنان مكان اختبار القوة الاقليمية السورية، فإنه ايضاً المكان الذي يتبدى فيه، وفي المقام الاول، الضعف السوري. هذا ما حصل مثلاً في حقبة 1978 – 1982 حين كانت سوريا غارقة في حال شبه انقلابية تعددت فيها الاعتداءات ضد الاجهزة الامنية (4). وفي تلك الحقبة كان المشروع السوري في لبنان يواجه معارضات قوية، سواء معلنة كما كان الامر مع اليمين المسيحي، او غير معلنة، كما مع التنظيمات الموالية للعراق والحركات الاسلاموية.
ورغم انه يصعب تبيان علاقات سببية واضحة، يبدو من تصرّف المسؤولين في دمشق انهم كانوا ينظرون الى لبنان على اساس انه احد فضاءات السياسة السورية، وليس مسرحاً خارجياً للمواجهة. صحيح ان هذه الحرب الاهلية غير المعلنة في سوريا ادّت الى تخفيف مهم في عداد القوات السورية المنتشرة في لبنان، ما لبثت دمشق ان عوضته باستخدام قوى مؤازرة [من جيش التحرير الفلسطيني] وبتنويع تركيبة التحكم بالمجال اللبناني بواسطة تبنّيها طفرة من الفصائل المحلية. لكن القوات السورية لم تتوان في الوقت نفسه عن التدخل على المسرح اللبناني لتصفية حسابات متصلة بالوضع الداخلي. وقد اندرجت في هذا السياق عمليات خطف لناشطين لبنانيين في فصائل اسلاموية، جرى اطلاقهم في ما بعد واحياناً “قلبهم”، وكذلك اغتيال سليم اللوزي مدير “الحوادث” المعروف بانتقاده الشديد للحكم السوري وبقربه من بعض قيادات “الاخوان المسلمون” في المنفى، ولاسيما عصام العطار. بيد ان الاهتمامات الداخلية السورية كانت الاوضح في الموقف من احداث طرابلس. فبسبب تجذّر مجموعات اسلاموية في هذه المدينة، وخصوصا في باب التبانة، واستيطان مجموعة من العلويين الآتين من لواء اسكندرون في حي بعل محسن القريب، كان البعد الداخلي جلياً في طرابلس التي نزع المسؤولون في دمشق الى التعامل معها بالقسوة نفسها التي تخصّص لمدينة سورية. من هنا الدعم المباشر الذي قدّمه الجيش السوري الى المجموعات العلوية التي كانت تخوض مواجهات مع الاسلامويين او مع البعثيين الموالين العراق، والذين كانوا هم ايضاً منتشرين بقوة في المدينة. وراحت هذه المواجهات تتصاعد حتى الاجتياح الاسرائيلي وبعده، وصولاً الى اعادة “فتح” طرابلس عام .1985
في مواجهة طرابلس، كما في مواجهة القطاع المسيحي من بيروت (بعد القطيعة بين دمشق و”الجبهة اللبنانية”) في 1978 و،1981 عبّرت الهيبة السورية عن نفسها بقصف عشوائي للأحياء السكنية. واذا كانت هذه الممارسة قد ظهرت منذ 1975 على يد الميليشيات اللبنانية (من الجهتين) والفصائل الفلسطينية، فإنها بلغت مع المدفعية السورية حجماً غير مسبوق. وتبرز الافضلية المعطاة الى حرب المواقع الجامدة في ممارسة الجيش السوري عموماً، سواء في سوريا او في لبنان. في المجال الداخلي السوري، يظهر هذا الاسلوب ليس فقط في التعامل مع انتفاضة حماه، بل في جميع الاضطرابات الداخلية بين 1978 و1982 (5). هكذا، فإن دخول القوات لا يحصل، عندما يتقرر، قبل ابرام اتفاق سياسي غير متكافىء (المخيمان الفلسطينيان قرب طرابلس عام 1983; مدينة طرابلس عام 1985) او بعد تحطيم ارض الخصم (حماه، 1982; حرب المخيمات الفلسطينية في بيروت عام 1988; الهجوم على قوات العماد عون بعد استخدام الطيران عام 1990). واذا كان هذا الاسلوب ينمّ على شيء فهو ليس الحرص على توفير العسكر السوريين بقدر ما هو منطق عقابي يقضي بممارسة ضغط على مجتمع او جزء من مجتمع من اجل القضاء على مقاومة قواه المنظّمة. بل انه قد يشكل بكل بساطة عقيدة لادارة الازمات عندما لا يكون دخول القوات العسكرية متاحاً، لأسباب اقليمية او دولية، كما حصل في المواجهات مع المسيحيين اللبنانيين (،1978 ،1981 ،1984 1989) .
وفي المنظور نفسه، فإن نظام التحكم الذي تم تركيزه في المناطق اللبنانية بعد اعادة “فتحها” ابتداء من منتصف الثمانينات، يستعيد النموذج المعمول به في سوريا، وخصوصاً ان دمشق لم تعد مضطرة لأن تأخذ في الاعتبار اي نفوذ منافس، كما كانت الحال مع منظمة التحرير قبل الاجتياح الاسرائيلي. هذا ما حصل في طرابلس، بعد ،1985 وفي بيروت الغربية، بدءاًَ من ،1987 ثم في المناطق المسيحية بعد .1990 وبات الحكم السوري اكثر من اي وقت مضى يعمل في لبنان وكأنه لاعب داخلي. فبفضل طفرة المخابرات، دخل الى اعماق المجتمع اللبناني كما كان قد فعل بالمجتمع السوري، وإن ابقى مع الاثنين معاً حاجز الخوف.
وفي هذا السياق، راح تشعب العلاقات بين البلدين يتّسع. فإلى القاعدة الانتروبولوجية المشتركة، نمت علاقات مادية قرّبت اكثر فأكثر المجالين الاقتصاديين الواحد من آلاخر. والاحرى انها وسّعت المجال الاقتصادي السوري، ولو في شكل غير رسمي. وكانت هذه حال البقاع خصوصاً حيث استوى التركيب المخابراتي فوق نمط المحسوبية التقليدية ليؤمّن متنفساً للاقتصاد السوري. في هذه المنطقة التي لم تشهد فيها السيطرة السورية انقطاعاً منذ 1976 افضى تحلّل الدولة اللبنانية الى الحاق موضوعي بالاقتصاد السوري. وسرعان ما تخطّى الامر التهريب عبر الحدود المنتشر منذ 1976 والذي يمثّل وسيلة لزيادة مداخيل الضباط السوريين العاملين في لبنان. ففي الثمانينات، بدا ان البقاع اكتسب وظيفة بنيوية في اطار اقتصاد سوري لا يزال يسيطر عليه العسكر ولا يرغب في اجراء الاصلاحات اللازمة في اتجاه الانفتاح والتحديث. حتى ان البقاع، ولبنان كله بعده، بدا المكان الذي يمكن فيه ادارة الجانب غير المنظور الآخذ في التوسع لاقتصاد يتأرجح بين رأسمالية الدولة والرأسمالية التجارية. وجاء الانهيار المتزامن للعملتين الوطنيتين، في منتصف الثمانينات، ليظهر حجم هذا “الاندماج”، وإن خسرت القيمة الاسمية لليرة السورية، المحمية بمنطق الدولة، اقل من الليرة اللبنانية.
ومع نهاية الحرب في لبنان الاوسط، تأكد توسيع مفاعيل هذا “الاندماج” الى كامل الاراضي اللبنانية. ليس فقط ان الممارسات المافيوية السائدة زمن الحرب استمرّت، بل ان السلام زاد الخيرات. هذه كانت الحال مع حواجز المخابرات، التي هي الدلالة الاكثر رمزية على الامر الواقع السوري حيث انها تدار كما في سوريا، بواسطة عناصر باللباس المدني. فالحاجز الذي كان يحرس مدخل صيدا منذ 1987 والذي ظل قائماً حتى أواخر التسعينات، عُرف في اللغة الشعبية باسم “حاجز الالف”، نسبة الى ورقة الالف ليرة، وهو مبلغ زهيد لكنه كان يقتطع من جميع الشاحنات. طقوس الاقتطاع نفسها مورست مطولاً وبغزارة اكبر على الحاجز المقام على مدخل محافظة الشمال. ولم يكن نادراً مشاهدة شاحنات متوقفة على جنب الطريق، وكأنها في انتظار الانتهاء من معاملة “جمركية”. وفي تنويعة قريبة، كان في استطاعة ضباط سوريين ان يؤمّنوا حماية مدفوعة الى مواطنيهم الآتين للعمل في لبنان (من دون اذون رسمية)، او حتى الاقامة في المواقع العسكرية – مثلاً برج المر الشهير في بيروت الذي كان لفترة طويلة “فندقاً” الى جانب كونه سجناً، قبل ان تخليه القوات السورية.
بيد ان منطق الاقتطاع يذهب ابعد من ذلك بكثير. فورشات الاعمار فتحت امام المسؤولين العسكريين السوريين (او امام اولادهم) اسواقاً مربحة، فيما اعطتهم ايضاً امكان تبييض “التراكم الأوّلي” المتحقق لهم رغم سيادة البلاغة الاشتراكية عندهم. فأمكن هكذا رصد مشاركة سورية غير مباشرة في شركتَي الهاتف الخليوي، بينما كانت احدى شركات المقاولات السورية تحتكر التعهدات في جنوب لبنان، في مقابل حصة الى شركاء لبنانين من هذه المنطقة، وفي الضرورة الى من يؤمّن الحماية في المواقع العليا ويضمن ان تذهب التعهدات في هذا الاتجاه.
غير انه يجب الانتقال الى مستوى الاقتصادي الاكبر لتحسس الاهمية الاقتصادية التي تأتّت من لبنان التسعينات بوصفه في الآن نفسه مجالاً للتحويل والتنفّس ومصدراً للاقتطاع: انها العمالة السورية، التي بلغ حجمها مئات الألوف من العمال الموسميين (معظمهم كان يعمل في شكل غير شرعي) في فترة ازدهار البناء في النصف الاول من التسعينات، فشكّلت بالنسبة الى المسؤولين في دمشق نوعاً من نظام الحماية الاجتماعية بقدر ما اتت بمساهمة مهمة لميزان المدفوعات.
اللانقاش
في وجود مثل هذه المصالح، يبدو جلياً انه لا يمكن الاكتفاء بنظرة جيوسياسية للسياسة السورية في لبنان. فحتى لو انه لا يمكن المساجلة مع الفكرة القائلة ان العامل الجيوسياسي كان اساسياً في القرار السوري بالتدخّل في لبنان وانه ظل حاسماً في كل الحقبات، سيكون من السذاجة الاعتقاد ان ربع قرن من الهيمنة لم يعدّل في الصورة التي يرسمها النظام السوري عن جاره، ولكن ايضاً عن نفسه. فهو يعرف اكثر من غيره انه اكتسب قامة اقليمية بفضل تدخّله في لبنان. وعليه، فإن انهاء سياسة “الحماية” المديدة سيشكل خطوة هائلة الى الوراء، بل خطوة خطيرة في وقت صارت “المحمية اللبنانية” تلعب دوراً مركزياً في توزيع السلطة والثروة في سوريا نفسها. وفي ازاء هذه الرهانات، يبدو غياب لبنان عن النقاش الداخلي السوري – اذا كان لهذا التعبير معنى – عامل افقار لهذا النقاش.
هذا اللانقاش هو في الحقيقة قديم قِدم التدخل السوري نفسه. صحيح ان ثمة اصوات علت في سوريا، في بداية عام ،1976 حين باشر الأسد اعادة توجيه سياسته اللبنانية في اتجاه اليمين المسيحي (6). وفي الاسابيع التي تلت الدخول الرسمي للجيش السوري الى لبنان، كان حصار تل الزعتر المأسوي فرصة لمثقفين من المعارضة، معظمهم ماركسيون، ليعبّروا عن انفسهم في بيان يعد حتى الآن من محطات النضال ضد النظام، وإن لم تكن له ترجمة سياسية متماسكة. الا ان ذلك يندرج في منطق التخلي الايديولوجي او العاطفي. فالتخلي عن الفلسطينيين – وعن اليسار اللبناني – كان يسجّل في خانة مجموعة من “الخيانات” يتّهم بها اليسار السوري الحكم القائم. ويلفت في هذا المجال ان “الوباء”، رواية هاني الراهب التي تستكشف تطوّر سوريا من خلال قصة عائلة من الريف العلوي منذ سفر برلك، تنتهي مع سقوط تل الزعتر. يبقى ان هذه النظرة النقدية لا تتصل بالسياسة السورية في لبنان، بل بالسياسة العربية العامة لسوريا، او حتى بسياستها الداخلية. في هذا المعنى، فإن هذه النظرة تشبه الاحتجاج الذي ظهر عام 1990 ضد انحياز سوريا الى الولايات المتحدة في حربها الاولى على العراق. في المقابل، لا نجد صدى سلبياً في صفوف المعارضة السورية للمواجهات بين الحكم السوري وحلفائه السابقين من اليمين المسيحي اللبناني. ولا ريب ان هذه المعارضة، التي تتشكل من قوميين عرب وماركسيين واسلامويين كانت تجد صعوبة في التعاطف مع من كان موصوفاً، وليس من دون وجهة حق، بالانعزالية والانحياز الى اسرائيل.
وقد توجب انتظار ظاهرة ميشال عون، في نهاية الثمانينات، لرصد تضامن سوري مع تيار لبناني منخرط في مواجهة مع سوريا. لا شك ان كون عون قدّم نفسه كعدو للميليشيات والتزم خطاباً لا طائفياً، فضلاً عن الدعم الذي تلقّاه من العراق البعثي، سهّل الامور. لكن الصمت عاد وساد بعد سقوطه. ومما لا شك فيه ان استخدام النظام منطق المقاومة من خلال دعمه “حزب الله”، ساهم في تعطيل الانتقاد، بالافتراض انه كان هناك انتقاد. وفي أي حال، فإن كل مسألة الحاق لبنان في التسعينات غائبة من خطاب المعارضة السورية.
لا يكمن الاكتفاء هنا بالقول بغياب التعاطف مع اللبنانيين الذين يعارضون الهيمنة السورية. اذ لا يغيب عن اليسار السوري ان جزءاً على الاقل من اليسار اللبناني الذي كان قريباً منه يلتزم خطاباً استقلالياً. فهل يُستنتج من ذلك ان فكرة الاستقلال اللبناني نفسها لا تزال تثير الانزعاج؟ والحق ان المشترك في المعارضة السورية يضعها في الرحم الرمزية التي يسعى النظام الى موضعة نفسه فيها، على الاقل في أدبياته، أي نقد التقسيم الاستعماري بعد الحرب العالمية الاولى.
هنا، لا بد من التذكير، تذكير السوريين كما اللبنانيين، بأنه سبق لسوريا ان اعترفت رسمياً ومراراً باستقلال لبنان واراضيه. نذكر على سبيل المثال المعاهدة السورية – الفرنسية عام 1936 التي وقّعتها “الكتلة الوطنية” وقرار البرلمان السوري بتوجيه تحية الى الاستقلال اللبناني في تشرين الثاني 1943 وعهد الاسكندرية عام 1944 وميثاق الجامعة العربية عام ،1954 من دون ان ننسى القطيعة الجمركية عام 1950 في ظل حكومة خالد العظم ولا اقتراح العظم اياه، اثر عودته الى رئاسة الحكومة في ،1962 اقامة علاقات ديبلوماسية بين البلدين. لكن من الواضح، رغم كل هذه المواقف الرسمية، ان مسألة الاعتراف السوري بالاستقلال اللبناني لا تزال تثير من الريبة في سوريا بقدر ما تثير من التشكيك في لبنان.
ويُظهر هذا السياق اهمية التصريح الاخير لرياض الترك (7)، إن حول ضرورة قبول وجود الدولة اللبنانية او حول نقده احتكار “حزب الله” جبهة المقاومة (*). ان هذا الفصل الايديولوجي ليس فقط ضرورياً لمساءلة الشرعية التي طالما حاول النظام السوري ان يغلّف بها ممارسة جيوسياسة اتسمت في معظم الاحيان بإفراطها في الواقعية. لكنه ايضاً وخصوصاً شرط يجب استيفاؤه لاستشراف مستقبل سوريا نفسها، حيث لا اصلاح ممكن من دون صوغ فضاء سياسي شفاف، اي قبل كل شيء محدد جغرافياً. وفي هذا المعنى، فإن الاستقلال الواجب اعادة بنائه في لبنان قد يكون احد الشروط الاساسية لقيام الديموقراطية في سوريا.
(*) كتب هذا المقال في نسخته الفرنسية الاصلية قبل موجة الردود التي اثارتها مقابلة رياض الترك، ومنها النص اللامع الذي نشره صبحي حديدي في “الملحق”، عدد ،567 وايضاً قبل صدور ملف مجلة “الآداب” عن العلاقات اللبنانية – السورية، وقد آثرنا عدم تعديله، حرصاً على امانة الترجمة (س. ق.).
(1) Fred Lawson, زSyriaصs Intervention in the Lebanese Civil War. A Domestic Conflict Explanationس, International Organization, vol. 38, n<3, summer 1984.
(2) Samir Kassir, La Guerre du Liban. De la dissension nationale au conflit rہgional (1975-1982), Paris, Karthala/Cermoc, 1994, deuxiہme ہdition 2000, p. 210; Adeed Dawisha, Syria and the Lebanese Crisis, Londres, MacMillan, 1980, pp. 134, 180; Walid Khalidi, Conflict and Violence in Lebanon: Confrontation in the Middle East, Harvard Centre for International Affairs, 1979; Patrick Seale, Assad, the Struggle for the Middle East, Londres, I. B. Tauris, 1988.
(3) حسب تعبير يائير افرون:
Yair Evron, War and Intervention in Lebanon. The Israeli-Syrian Deterrence Dialogue, London, Croom Helm, 1987.
(4) Michel Seurat (Paul Maler), زLa sociہtہ syrienne contre son Etatس, LصEtat de barbarie, Paris, Seuil, 1989.
(5) المرجع ذاته.
(6) لوسون، المرجع المذكور.
(7) في مقابلته مع محمد علي الاتاسي المنشورة في “الملحق”، 22 كانون الاول .2002