مختارات للشاعر بسام حجار
تفسير الرّخام
» نَزَلَ مَلاكُ الربّ من السماء ،
وتقدّمَ فدَحرَجَ الحَجَرَ ، وجلَسَ عليه«.
(متّى : ٨٢ ؛ ٢ )
الحجرُ هو، بلا ريب، أقلّ أشكال الأبدِ فصاحةً، غير أنه بالتأكيد أكثرها قابليةً للتعيين.
فوقه تنتصبُ صروحنا، وتعصفُ عواصفنا.
عندما يستحيل الحجر شفيفاً، أو الأحرى، عندما تستحيل الشفافية حجراً، تغدو أحلام الأرض قاطبةً قابلةً للقراءة.
الأبدُ يلاعب الأبدَ في عذوبة هذه المرايا الكبيرة الساكنة.
… أسيجةٌ زاحفة.
وماذا لو كانت العاصفة أيضاً في البلوّر ؟
(أدمون جابيس- »كتاب الهوامش)
***
»وحديثي عن الأحجار الأسنّ من الحياة والتي تبقى بعدها على الكواكب الخامدة، عندما يشاء الطالع أن تتفتّح فيها. وحديثي عن الأحجار التي لا ينبغي لها حتّى أن تنتظر الموت والتي لا حرفة لها إلاّ أن تدعَ الرملَ منهمراً على صفحتها، أن تدعَ الهميَ أو الموجة المرتدّة، والعصفَ والزمان«.
***
الإنسان يحسد دوامَها، صلابتها، عنادَها لمعانها، سهولتها، منعَتَها، وكمالها وإن كانت كسوراً. إنها النار والماء في الشفافية الخالدة عينها، مزار السوسن حيناً ومزار الغبش أحياناً. إنّها لذاك الذي في راحتهِ حفنةٌ منها تهبُ النقاءَ والبَردَ وبُعدَ الأنجمِ، وما لا يُعَدّ من صفاء السرائر«.
(روجيه كايوا – »أحجار«) ١
***
لا أبالي –
حين أنظرُ،
ساهياً،
من حافّة الخمسين –
بجلبةِ الساعين في شارعٍ عريضٍ،
في الأسفل،
حيثُ الحوانيتُ،
وسيّارات الأجرة،
ونفرٌ من التلاميذ والأجراء والعاطلين،
ورجال الشرطة،
والآباء الباحثين عن مكانٍ آمن
لكي يودعوا فيه ملذّاتِ السعي،
مشقّاتِ السعي،
كلّ يوم،
ريثما ينقضي نهارُ السعي،
ويلوذُ أقصرهم قامةً
وعمراً
بليلِ الوساوسِ والظنون
لا أبالي –
والوقتُ غروبٌ –
برجالٍ يجرّونَ خيبةَ المشقّاتِ إلى دُورٍ مُنارَةٍ
بحمّى الرجاءِ
وحده
إذا كانَ رجاءٌ .
***
مَزارات
إنّي لا شيء
وحديثي عابرٌ،
مِثْلي،
بين عابرينَ،
لذلكَ
أتحدّثُ عنكَ
إنّي أتحدّث عنكَ
لا عن ظلّكَ الجالسِ –
وحيداً –
تحت سكون الشجرةِ
عند المفترَق
حيث أعمدة تلغراف قديمة منزوعة الأسلاك،
وعابرون يمرّونَ بِسَهْوِكَ
ولا يلتفتون
إنّي أتحدّث عنكَ
لا عن خيالك الماثل أمام عينيّ أو منامي
أتحدّث عنكَ
لا عن المصباح الذي يرفع الظلَّ إلى مصافِ الساحرات
اللواتي كُنّ
ظلالاً ماكرة
ولا عن الأعراقِ التي استخرجتها الأيدي الحاذقةُ
من جوفِ الأرض،
ولا عن المناجم التي كانت تُسمّى،
في حياةٍ أخرى،
مملكةُ الكدّ وأهراء الشقاء
لم يبق أحدٌ
لا أحد هنا سوى أنتَ
ملاذ الهَاجرين بيوتهم إلى الأبد،
لا أحد هنا،
وملاذُكَ أنتَ مثل هذا الأرق الطويلْ
لا أحد هنا يحبّ الحجَرَ
أو يأنَس إلى برودتِه
وصمتِه
حتّى المناماتِ المُرعِبَةِ لم تُبقِ للحجَرِ معنىً
حتّى الشجرة العاقر
لم تثمر يوماً حصاة
( ليس الوعر أرضاً خلاءً بل أبصاراً موحشة، أو لعلّه الدربِ الذي لا يسلكُهُ عابرون فتقطنه لكي تؤنسك نفسُكَ وتهتدي بكَ إليها كأنّكَ العلامة، كأنّك رسم شعابٍ لوهمٍ يقطن بقاعَ الوهم، وإذ يهتدي إليك مطارِد الأثر والرحّالة والضالّ والظامئ والمنهوك، يضعكَ لغزاً في كتابه لكي يفسّر المفسّرون سرَّك الخالي من المَكْرِ المغطّى بالفضول )
إنّي أتحدّث عنكَ،
بفصاحةِ التوهّمِ،
أنتَ
وحدك الحقيقي،
صامتٌ وباردٌ ومزهوّ بصمتِكَ وبَرْدِكَ،
أنتَ
وحدك الحقيقيّ
وإذا أعيتنا الحيلةُ في أمرِ موتانا
جئنا بتقوانا إليكَ
ورِعينَ، مُطرقينَ،
مضمومي الأيدي،
متوسّلينَ
أن تكون ملاذاً لذكرياتنا
وحسراتنا
وخشيتنا من كونكَ الملاذ الأخير
( نسيرُ قُدُماً إليكَ باحثين عن العلامة التي بك صارت نُصُباً، نضع باقاتٍ وتذكارات وصوراً، ونضيف حجراً إلى الحجرِ وحصاةً إلى الحصاة، ونترك خبزاً وماءً، ونعود فرحينَ من حيث أتينا لا نحمل لكَ وللموتِ ضغينةً)
إنّي أتحدّث عنكَ
– كما يتحدّث أحياءٌ عن أحياءٍ مثلهم –
وأتحدّث عن جوفِكَ
الذي هو نارٌ خامدة،
نارٌ باردة،
عن ملمَسِكَ الخشِن الذي يشبه الضغائن الدفينة،
ملمَسِكَ المخادِع
الذي يسري خدراً في الجسم
إنّي أتحدّث عنكَ
أنتَ الحقيقي
عن كتابك الغامض كالمتاهِ
(قيلَ عن مَطْهَرٍ لم يذكره الله في كتابِه، عن شعوبٍ من الموتى هم عَتادُ العبورِ من الضفّة إلى الضفّة، وقيل إنّ ذكرهم جاء مقتَضباً في كتاب هو كتابك، عن كتابكَ الذي لا يُحصى المحفوظِ أجزاءً لا تحصى على أرففٍ متداعية في مكتبةٍ متداعية مؤلّفة من حجراتٍ لا تحصى، عن كتابكَ الذي اشتملَ على شعوبٍ من الأسماء، على شعوبٍ من النكراتِ التي لا أحد يعرف يقيناً، إلاّ الأبناء والزوجات، إذا كانت هنا حقاً، ومتى غادرت أو إلى أين غادرت، أسماء، هي أسماء غائبين، دوّنت فيه، بحسب الترتيب الأبجديّ، سيرهم مقتضبة نقلها الرواةُ عن »موسوعة الموتى«١، كتابك المتوالد في مجلّداتٍ صارت بيوتاً للعنكبوت التي صارت بيوتاً للغبار، سلسلة غليظة كسلاسل المساجين الغليظة تخترق أطرافَها السفليّة، وتشدّ وثاقها إلى حلقةٍ مثبتة في الجدار، وللزائر أن يقلّب صفحاتها بين هامش الضوء وهامش العتمة وإلاّ استحالت صفحاتها غباراً، عن كتابك الذي احتوى سيرةَ أبي، وسيرتي وسيرَ آخرين، مثلي، لم تكن لهم سيرٌ لكي تُكتَب، عن كتابِكَ الذي لا يُشبِه الكتبَ ورآه المفسّر في المنامِ، ورآه المفسّر في اليقظة، ورأى فيما رآه أنّه كتاب لم يُكتَب)
إنّي أتحدّث عنكَ،
لا عن الشواهد والجدران والبيوت والمزارات والصروح
عن الحكمة الموروثة عن سلالتكَ الحجريّة
أتحدّث عنكَ
عن المأثور على قوسِ بابِك:
هنا
جانبُ الظلِّ رَحْبٌ وأبوابُه واسعةٌ والقاصدون كُثُرٌ
وما من طريقٍ إليه
كمنزلٍ ريفيّ وسطَ المروج
لا درب يهتدي إلى بابهِ الضيّق
المتوحّدِ فوق العتبة
لا أنا ولا أنتَ ولا المُبصِرُ في منامِه
ندري ما الخيالات المترائيّة عند مفترَقٍ قريبٍ
بعيدٍ
عائمٍ على صفحةِ السرابِ الذي ترفَعُه العيونُ المترقّبة
المتعبة
المتوهّمة:
شخوصٌ نابتةٌ في الوعرِ كمخلوقاتِ التوهّم،
– ليست من الأنس وليست من الجنّ –
كأشجار سروٍ مُستنفَدٌ هواؤها
كأعمدة تِلِغراف صامتة،
كأناسٍ ليسوا مثلنا،
نحن أرواح البيوت المطمئنّة،
كأناسٍ
ليسوا مثلكم، أنتم
روّاد السُبُل الزائلة،
بل كمِثْلِ المقيمين عند المفترق،
جنبَ الطريق،
أهل المزارات التي لا يأتيها إلاّ غرباءُ
حاملين باقاتٍ وزاداً،
وشموعاً توقَدُ مرّةً وحيدة لكي تأخذ الريحُ،
إذا هبّت ريحٌ،
شعلتَها،
وتبقى، هناك، شموع كأعواد البلّور
المطفأة
سكينةٌ مُطبقةٌ يرجّها زعيق السيّارات المسرعة إلى حطامها
إله …
ساذَجٌ
ساذَجٌ وفتيٌّ وميت
ساَذَجٌ – وفتيٌّ
لأنّه ميت –
جَعَلتْ له الأيدي الغريبةُ مزاراً عند المفترق،
كومة أحجار رُفِعَت، مُرتَجَلةً،
بجانبِ الطريقِ،
مطوّقة بباقات وعباراتٍ خُطّت على لوحٍ مُرتَجل،
وصورة –
ما كانَ لبعض الوقت صورة –
في إطارٍ مُرتَجَل
لا أحد هنا،
وهنا
لا تُسمّى القبور –
ولو مأهولةً بالموتى –
تلك التي يخلّفها المسافرون –
قبوراً
بل علامات
لمسافرين سوف يمرّون بها
من بعدهم
ويتركون بجوارها قِربَةَ ماء وأطعمةً وأغطيةً وآثار أقدام،
هنا
لا تُسمّى المواكبُ إليها جنازاتٍ بل
أسفاراً،
لا تُسمّى القبور إلى جانبِ الطريق
– ولو غير آهلةٍ –
قبوراً
بل مزارات
(كأن يمرّ بها الغريبُ، عابرُ السبيل، ويتركُ بقربها منديلاً، أو شالاً، أو عقب سيكارة، أو حصاةً ينتقيها للذكرى، ويرمي بها فوق كومة الحصباء والأحجار لا ليخلّف أثراً بل ليمحو أثرا فلا المزار علامة ولا الحصاة ولا الغريب)
بيوتٌ مُرتَجلةٌ في العراء
لم تكتمل بعدُ
ولم يقطنها بعدُ
أحدْ
لكنّها، منذ البَدءِ، مأهولة بشخصِ الذكريات
(كأن لا يكون جدارٌ ومع ذلك، وبرغم بذلك، يُفتَحُ فيه بابٌ. كأن لا يكون أبٌ وأمّ وأبناء ومع ذلك، وبرغم ذلك، تكون أسرّة ومزهريات وكتب ومائدة. كأن لا تكون حجرة المعيشة ومع ذلك، وبرغم ذلك، تكون كَنَبات وإسكملة ولمبة وتلفزيون وأدراج لأوراق الرسائل ودفاتر اليوميّات وأرقام الهواتف والعناوين البريديّة وحساب البقّال وفاتورة الكهرباء وعلبة الأسبرين والأقلام الحبر والرصاص وإخراج القيد العائلي وجواز السفر القديم وعلبة الملبّس والساعة القديمة
وفردة القِرطين المتبقيّة بانتظار العثور على الأخرى، ومفكّرة الجيب، ومفاتيح كثيرة مبعثرة أو مضمومة في علاّقة ولا أحد يذكر الآن إذا كانت لأبوابٍ وأين هي هذه الأبواب..)
ولا تُسمّى أضرحةً فلا مَن يرقد فيها
مجرّد علاماتٍ يلتفت إليها العابر بسيّارته مُسرِعاً
أو المارّ بها سائراً على القدمين،
ساهياً،
لا أشجار باسقة شاكيةً تحيط بها أو تظلّلها،
لا شواهدَ
لا أسماء
لا أسوار
لا شارات
لا دروبَ
أنصابُ عبورٍ خاطف
إذ تمرّ بها مبتعداً
تتضاءلُ رويداً قبل أن يحجبها المفترق عن عينيك
قبل أن يحجبكَ عنها،
المفترق
أنتَ لا شيءَ
وحديثُكَ عابرٌ، مثلك،
بين عابرين
لذلك
أتحدّث عنّي،
أنا،
العابرُ قليلاً
في ظنِّك .
لَم يَقُل لي أحدٌ ما معنى الأسى
( لذكرى منار الشمّاع )
لا أدري ما شَغَفُ الحَجَرِ
الذي ألَمَّ بي
يوسّدني حَجَرٌ
ويغطّيني حَجَرٌ
وحَجَرٌ أبيضُ
يروي سيرتي
مِنْ فَمِ الترابْ
( 20041942 )
برقمين فقط
وفاصِلة
لَمْ يفسّر لي أحدٌ من قبل
معنى الترابِ
وكائناتِه الضئيلة
التي تدبّ هَهُنا وتحفرُ
كأنّ رميم الغبار والحصى هذا
هو الطريق المفضية إلى سماءٍ
ولا أدري أيّ السماوات قد تسعى إليها
الكائنات الضئيلةُ التي تحفُرُ
وئيداً
في عينيّ وسَمْعي
ولا أدري ما الحكمةُ من اختصار عمري
برقمين وفاصلة
كأنني، في غفلةٍ، عَبَرْتُ
من ضفّةٍ إلى ضفّةٍ
وبينهما مياهُ النسيانِ
ولَم ألمح في عبوري
صورةً تُمحى
أو مكاناً يزولْ
ولَم يفسّر لي أحدٌ
ما الأسى
ولم أجد في <<قَصَص الأنبياء>> خَبَراً
عمّا رأيتُ
فالمكانُ هُنا ليس هو المكان
بل خاطرةٌ
تبدّدها اليقظةُ
ولا سُبات هنا
بل يقظاتٌ تنبّهُ اليقظاتِ
ولا أدري إذا كنتُ أعتادُ الموتَ
أو إذا كنتُ في ظنّي مَلكاً يموت:
(<<ورسم الملك الأكبر أن لا يجلس للناس ولا يكلّمهم ولا يدخل عليه أحدٌ (…) ورسم الملكُ الأكبر إذا مات أن يُبنى له دارٌ كبيرة فيها عشرون بيتاً ويُحفرُ له في كلّ بيتٍ منها قبر وتُكسَرُ الحجارة حتّى تصير مثل الكحل وتُفرَش فيه وتُطرَح النورةُ فوق ذلك، وتحت الدار والنهرِ نهرٌ كبيرٌ يجري، ويجعلون النهرَ فوق ذلك القبر ويقولون حتّى لا يصل إليه شيطانٌ ولا إنسانٌ ولا دودٌ ولا هوام، وإذا دُفِنَ ضُرِبَت أعناق الذين يدفنونه حتّى لا يُدرى أين قبره من تلك البيوت، ويُسمّى قبرُه الجنّة، ويقولون: قد دخَلَ الجنّةَ، وتُفرَش البيوت كلّها بالديباج المنسوج بالذهب>>.) 1
للأسى تفاسيرُ كثيرة
من بينها
بحسبِ الأبناء
الطّيرُ والهواءُ
وألوان الطيفِ
والطيفُ مجرّداً
ومن بينها
النارُ والحَجَرُ والترابْ
ومخلوقاتٌ عجيبة أخرى
ليسَت الهَوامُ منها
كالرؤى
والتوهّم
و
السّرابْ
تفاسير كثيرة
للأختِ المستلقية على السريرِ
بعد ظهرِ الحوادث المتفرّقة
في صحيفة،
بعد مأدبةِ الضيوف
بعد ظُهرِ التعبِ،
بين جدران معقّمةٍ
بين جدرانٍ كتومةْ
من بينها
الجرحُ الطفيفُ
تحت الثدي الأيسر
وحفنةُ الأنابيب المغروزة
في الأنفِ وفي الفمِ وفي الساعدِ
وكيس المصلِ
وآلة التنفّسِ التي تضخّ الهواء
بمشقّةٍ
بعويلٍ أجشّ،
وكيس الدماء
قطرةً قطرة
ومن بينها
الابن والشقيق
والزوج
والممرّضة
والفساتينُ المهملة في الخزانة
بقربِ المرآة
أو على مسند الكرسي العالي
أمام المرآة
تفاسير كثيرة للأبِ
الفارعِ القامةِ
والألمِ
من بينها
المعطفُ والسعالُ والقلبقُ
والمشيةُ المستقيمةُ
وروائح الصابون وماء الكولونيا
ونظرة حانية
ونظرة ساهيةٌ
رقيقة كلمسة يد
وللأمّ تفاسيرُ كثيرة
من بينها
حكايةٌ للطفلينِ قبل النوم
والألمُ والكرسيّ المدولَب
والصحيفةُ
وغيبوبة الحواس
وطبعاً من بينها
الموت.
بحسب الأبناء لم يكُن شاقّاً
فكلّ ألمٍ تطيّبُه القراءةُ
وكلّ ذنبٍ يغفرُهُ الغَسْل
قالت الفتاةُ:
سوف تغسلينها بماءٍ وآياتٍ
وسوفَ يُقيمُ طيفُها
في نومكِ
وقالَ الرّجلُ
حارسُ الترابِ:
يخلدُ المقيمون هَهُنا إلى نومٍ مبكرٍ
وأوانُ الزيارةِ عند الصباحِ الأوّل
قبيل النهوض إلى مشاغِلِ اليومِ
وكلّ يوم
فالبعضُ يعلّق صوراً تالفةً في الأرجاء
والبعضُ يبكي مِنْ وحشة المكان
وقالَ الرّجلُ:
لكنّ المكانَ هَهُنا
ليس هو المكان
قالت الفتاةُ:
الأمُّ مُعتَقَدٌ وصلواتٌ وأيّامٌ مُسنّة
وقالتِ:
الأمُّ وهمٌ نربّيه في قلوبنا أعواماً
ونحفَظُهُ كالحلية على صدورنا
ونذكُرُه إذا استذكرنا
لكنَّ الغَسْلَ محوٌ
قال الرجلُ
حارسُ التراب:
تحلّقوا حول الضريح متلاصِقينَ
فلا سعةَ في الأرض
ولا تتركوا أثراً
إنْ غادرتم
وقالَ: الأمّ ترابٌ ومن ترابٍ
وقالَ: لا تحزنوا
تفاسيرُ كثيرة للحزنِ
بحسبِ الأبناء
من بينها
اليد الرشيقة التي تسرّحُ الشعر
الفم الدافئ الذي يحكي حكاياتِ الإنس والجنّ
العينان اللامعتان أبداً
والدعاءُ كلّما سَلَك الأبناءَ درباً
والدعاءُ إذا مكث الأبناء
والدعاءُ ثانيةً لكي يُستجابَ الدعاءُ
والنومُ عميقاً على الزندِ المُطمئِنّ
في كَنَفِ الرائحةِ الغريبةِ المُسكرة
والنومُ في العُتمةِ
كأنما العتمةُ وساوس مضاءة
بمخلوقاتٍ أليفة
هي خَلْقُ اللهِ
من بينها
الوحشُ والغولُ والسَّربيرُس والتنّين
ومن بينها
النارُ وممالك النبات والمعدن والحيوان
تفاسيرُ كثيرة
ساذجةٌ
ولكن
ليس من بينها
الموت
لذلك
لم يتعب الولدُ
بل أتاه النعاسُ
حين شرحتُ له
بلادَ الخَزَر
(أوّلاً لأنّ الموت له كنيةُ الحلم لكنّنا نجهل هذه الكنية.
ثانياً لأنّ الحلم هو الختامُ اليومي للحياة، تمرينٌ بسيطٌ على الموت (…)
وثالثاً لأنّ في إتِلَ، عاصمة الخَزَر، موضعاً يستطيع فيه العابران إذا التقيا أن يتبادلا الاسمَ والمصيرَ، وأن يواصل أحدهما العيشَ في حياة الآخر) 2
وأتاه النعاسُ
حين فسّرت له
بإصبعي على صفحة الكتاب
أسرارَ الكوكبِ
وناديتُ الكوكبَ باسمه
قلت:
<<تلك هي العظام>>
كأنّني أقرأ في كتابِ جسمي
<<وتلك هي العضلات
ومسالك الدورة الدموية
وهذا رسمُ القلب
الذي يُحبّ
ولو متعباً
وهذا الرأسُ
الذي يصنعُ الأفكارَ
وهذه اليدُ القليلةُ
واليدُ القديرة
واليدُ الخرقاء
وهذه الساقُ
وعظمُ الساقِ
وهذه القَدَمُ
التي تسعى
وقد قيلَ في الكُتُبِ
إنّ جمعَها هو
الرفاتُ
لا أدري ما شغَفُ الحَجَرِ
الذي ألمّ بي
حَجرٌ أبيضُ يروي سيرتي
من فمِ الترابِ
ولم يُفسّر لي أحدٌ من قَبْل
ما معنى التراب
لو كنتُ ملكاً يموتُ
لأدركتُ معنى الترابِ
ورسَمتُ
أوّلاً
أنني ملكٌ يموتُ
لغسلتُ وجهي
وقلّمتُ أظافري
وسرّحتُ شعري
وجَعَلْتُ جنّتي
بجنبِ السريرِ
كأشيائي الأخرى:
العباءة الصيفيّة
الخفّان
علبة الدواء
الساعة والنظّارة
والريموت
الكوب والمناديل
وصورُ الأبناءِ
وقارورة العطر
وناديتُ ابنتي
لكي تطفئ الضوءَ
وتترك البابَ موارباً
لكي أسمعَ إذا غفوتُ
جَلبةَ البيتِ من حولي
لكي لا أكون
على السريرِ
ملكاً يموتُ
بمفرده