بسام حجار: عام على الرحيل
كيف أمكن لتلك الرقّة أن تبذل كلّ هذا التعب؟
حسن داوود
في 24\ 11\1985 بعث لي بسّام حجّار برسالة من مدينة ليون الفرنسّية، حيث كان يقيم. كانت تلك رسالته الأولى لي، والأخيرة في ما أحسب. ذاك لأنّه لم يُقم كثيرا هناك، سنة ربّما (أو أكثر قليلا؟) أتخيّله فيها قابعا في مساحة منزل ضيّقة، ولائما إيّاي لأنّي لم أكاتبه كما وعدت. ربمّا كان عليّ أن أعتذر له حين رجع بعد تلك السنة، كأن أقول له مثلا أن لا قِبَل لي بكتابة الرسائل، وأنّ الرسالة الوحيدة التي كتبتها حتى تاريخ 1985 ذاك، هي تلك التي بعثتها لوالدي، من ليون أيضا، أطالبه فيها بأن يعمل مسرعا على إعادتي إلى لبنان، وكان ذلك في 1969.
ولا أعرف إن كان بسّام من كاتبي الرسائل. الأرجح أن ما كان سيعوّقه عنها، وعن إرسالها تاليا، هو الذهاب إلى مكتب البريد. إن لم يكن ذلك من عاداته المشكّلة لطقس يومه، سيكون القيام بتلك التمشية القليلة صعبا عليه. فهو، بسام، كان عليه أن يضيف الشيء إلى عاداته لكي يتمكن من فعله. وهي عادات قليلة على أيّ حال، والسنوات التي تلت لم تزدها إلاّ قلة وندرة.
إنها صورة واحدة تلك التي أتخيّلها له هناك، أو أتخيّله فيها: قاعدا على طرّاحة عالية قليلا، لا على كرسي، ظهره للحائط القريب، الخالي من أيّ صورة أو لوحة قد تزيّنانه، وأمامه تلك الطاولة المنخفضة التي كان سطحها ميدان أنشطته وأفعاله جميعا. ذاك أنّه، ودائما كما كان يتراءى لي، يأكل ويشرب على ذلك السطح المنبسط أمامه، ويرتّب الأوراق ويبري أقلام الرصاص، ويعدّ ما بقي معه من النقود، ويتّصل بمن يعرفهم من اللبنانيين المقيمين في فرنسا، إتصالا واحدا في الأسبوع لكلّ واحد منهم، ويكتب، ويقرأ “الروايات الفرنسيّة التي تكاد، باستثناءات قليلة تتشابه” مادام أنّ “الروائي الذي أخذ جائزة غونكور لهذه السنة كتب رواية هي شبيهة حرفيّا برواية الكاتب الذي أخذ جائزة غونكور عام 1980”.
كما كتب في الرسالة أنّه، “هنا”، لا يقرأ سوى روايات ودراسات في التصوّف. ونحن، أصدقاؤه، كنّا قد عرفنا بتعلّقه بقراءة الصوفيين من قبل سفره. أنا كنت أتساءل آنذاك عمّا أوصله إلى ذلك الشغف، عبر أيّ الجسور أقصد؟ ذاك أنّي كنت معتقدا أنّ التصوّف يولَج إليه من عتبة تسبقه، هي الأدب مثلا، العربي تخصيصا وحصرا، أو التاريخ الإسلامي، أو الإسلام … إلخ. وبسام، فيما كنت أحسب، بدأ الأدب من آخر حداثته، ومن كتّاب غير عرب إجمالا.
وقد كان في انغماسه، بما هو أصعب القراءات، متفرّدا ذاهبا في سبيل لم يرافقه أحد فيه. أي أنّ ذلك كان خروجا عن ما يتأسّس فيه رفاق القراءة ويتجمّعون حوله. “لم أعد أحبّ الشعر إطلاقا” قال أيضا، مع أنه في الفقرة التي تلت مباشرة كتب أنّه وجد “عند مروان ديوان السيّاب، أقرأ فيه دائما وأكاد أصبح سيابيا سائبا”.
الرسالة التي في ثلاث صفحات ذكّرني جانب منها بـ”المكاتيب” التي كانت ترسلها العائلات في ضيعتنا إلى رجالها المهاجرين. كانت هذه تبدأ بالسلام والتحيّة ولا تعود إليهما إلا في الختام. أمّا المتن، الذي يطول أحيانا، فللتفاصيل العمليّة التي لأجلها تُكتب المكاتيب. متن بسام ذاك، في رسالته، يدور كلّه حول الكتب والكتّاب، عما يقرأه وما ملّ من قراءته، عن الفرنسيين وجوائزهم وعما يترجمونه إلى لغتهم، كما عن تلقّيهم لما يقرأون من أدبنا الذي منه قولهم عن نجيب محفوظ أنّه “بطيء ومملّ ويحتقر المرأة”، فيما “كلّ كتّابهم عادوا يكتبون مثل المنفلوطي (تحت ظلال الزيزفون)”. وفي الرسالة أيضا أسئلة لي عن الإصدارات الجديدة في بيروت وعن المقالات في الجرائد التي تخذله إذ لا يرى، بعد أن يشتري الجريدة البيروتية، مقالات للكتّاب الذين يرغب في قراءتهم…
كأن لا شيء يحدث في فرنسا غير ذلك، أقصد لاحياة شخصيّة أو إجتماعيّة ولا صلة بأناس جاءت الرسالة على ذكرهم، ولا تعيين لمكان، مقهى مثلا أو حديقة، أومنزلا حدث لبسام أن سهر فيه. تلك السنة، 1985، لا أعرف أين هي من حياة بسام، أعني من رحلة انتقاله إلى المرارة مغادرا البهجة المصاحِبة لالتقاء محبّي الأدب وإلفتهم بعضهم إلى بعض وسعادتهم بما يشتركون في الإهتداء إليه من كتب الأدب ونصوصه. كنا، في بيت بسام بصيدا، نحتفل بما تعرّفنا إليه، “نحتفل” بالمعنى الحرفي، أي أننا كنا نضحك ونصفّق ونستعذب أن نتكلّم عن نصّ لواحد منا أقرأه للآخرين. وكنا، حين ننزل من بيته إلى الشارع المزدحم، نشعر بتلك الغبطة ناظرين إلى أنفسنا، في مشينا المتفرّق، كأنّنا موعودون بشيء لا بدّ سنبلغه وسنصل إليه.
في سنة “ليون” تلك ربّما كان بسّام في ذلك المفترق بين الزمنين، أو أنّه كان قد قطع شوطا نحو استبدال الغبطة بإيثار العزلة. في رسالته نقرأ المرارة حاضرة مظلّلة كلّ ما ذَكَر وسمّى. “أخوات ال…” قال عن الفرنسيين لقولهم عن نجيب محفوظ ما قالوه. الصحف العربيّة نالت نصيبها من تلك المرارة، وكذلك مسؤولو صفحاتها وكتبتُها. وليس ذلك من دون سبب، طالما أنّ حدّي الزمن متراوحان بين الحرب التي في بيروت والعزلة التي تفرضها فرنسا على المقيم مستوحدا فيها.
سنة ليون كانت السنة التي تداخل فيها وجها بسام. في تذكّره لأصدقائه الذين لازموه ولازمهم لفترات طويلة من الحياة، يحدث للواحد منّا أن يقيم فجوة يضع عند كلّ من حدّيها هيئة وسمتا للصيق الواحد. بسام هناك، في شبابه الأوّل، ليس مثلما هو هنا، في السنوات التي لحقت. في المكتب هنا في الجريدة، وخلال السنوات العشر التي قضيناها معا، في هذه القاعة الواحدة، كنت أسعى، حينا بعد آخر، إلى استخلاص بسام الأوّل من بسام الثاني. وكان عليه هو أن يعطي الإشارة بذلك، أي أن يبدو مبتسماً وراضياً فيما هو يقول صباح الخير. أن يبدو مبتسماً يعني أن يكون مبتسماً. ذاك لأنه، بقدر ما يصعب عليه أن يفعل شيئا لم يسبق له أن أدرجه عادة بين عاداته، القليلة دائما، كذلك كان يصعب عليه أن يظهر بما ليس فيه. في مرّات كنت أوفّق، فتعود تلك الإبتسامة السابقة إياها، جالبة معها ذلك الماضي كلّه. وفي مرّات يبادر هو إلى قرب ومودّة يعيدانني، من فوري، إلى بيته القديم بصيدا.
وقد انقضى الوقت الذي كنّا نسأل بعضنا بعضا فيه عمّا وراء مرارة بسام. صرنا نقول إنّه هكذا هو أو هكذا صار. في أحيان كنّا نقول إنّ ما كان مرّة بهجته بات محبسه وملاذه. ذاك النشاط الذي يجعل يده مسرعة فيما هي تكتب، والذي أتاح له أن يترجم نحو مئة كتاب ويكتب آلاف المقالات، مضن ومهلك. وهو قد يصير قاتلا لمن كانت روحه رقيقة وهشّة مثل بسام الذي آثر، حتى منذ أيّام بهجته، أن يقلّل من المساحات التي يتحرّك فيها جسمه وتهوّم فيها مشاعره.
[ بعد أيام، في السابع عشر من هذا الشهر، تكون قد انقضت سنة على رحيل الزميل، الصديق الشاعر، بسام حجار. بين ما يحتويه هذا العدد من الملحق نصوص كتبت للذكرى.
المستقبل
بسام حجار: نداء من قلب الأسى الواضح
علي جازو
الشعر كتابة حنان أقصى، وتدوين اعترافات لا ينتهي، وتحمّل قسوة لا تزول. رأس كتابة بسام حجار شغف حاد كسير، وقلبها ألم مستمر دائر. طواف ألم مكشوف، وشغف مبطن حد احتضان وضوح المعنى يسيراً دون جهد ملاحظ ولا إرباك ثقيل. ثمة جهد مطحون في رئة الشعر، جهد لحدته لا يرى ولا يلاحظ. تبدأ القصيدة من غربتها الأليفة، من جهلها بنفسها ونسيانها وسط ركام التذكر ودواره. تبدأ القصيدة من حذف كثير ومحو كثير. تبدأ من ارتباك خفي إزاء وضوح مرئي وسهولة مباحة وصفاء محمي مثل كنز عزيز. غير أن كل الركام المؤلم يبلغ من الصفاء والهدوء والسعة مرتبة عالية، يبلغ مراتب “كمراتب الملائكة” إذ لم يستهلك الشعر كل الملائكة بعد. القصيدة لدى بسام حجار تخرج من استغراب أقرب الى البديهة، تأتي من مودة عميقة ونفَس وئيد ومضيء، ودافئ كدمعة في عين المحزون، دمعة لا تجف ولا تسقط ولا تتوسل. دمعة تخرج من قلق لا يخلف غير ألق خامد لكن مديد. القلق كعلامة انكماش ونأي أسرار، لوضوح لا يقتل الحقيقة ولا يكبلها داخل كل لسان. القلق كعلامة انكماش ونأي من علامات تذكر مرير ورقيق كجرح ملتئم وساكت. ود كبير وألم بالغ واستغراب يرافق معنى الألم الغامض. سيكون الهمس مناسباً لهكذا لغة. الهمس الواضح والرجاء الكثير، الحيرة المتنبهة والسأم الخالي من كل سأم، ثم البوح الذي لا يفضي الى شيء في النهاية غير مزيد من نضارة الأسى وقسوة الظلال المترامية، ظلال السيرة الحجرية: “لا أدري ما شغف الحجر الذي ألم بي/ يوسدني حجر/ ويغطيني حجر/ وحجر أبيض/ يروي سيرتي من فم التراب”.
لم يتوقف بسام الحجار عن الإصغاء الى كائنات قصائده الأقرب الى الجماد، لم يتوقف عن تقريبها الى النفس التي لشدة ما رأت جلست تنظر وتصغي وتسجل لا غير. استمر النداء والهمس داخل قصائده. إصغاؤه نداؤه، همسه رجاؤه. ركن الشاعر في الشاعر يحاور الصمت ويغبط كائناته. أخذ المنادي سمات المنادى الأكثر بعداً وحضوراً في آن. لأنه أحب مناداه وأراد أن يحيا مثله في عزلة العين، وأرض الصمت الجديرة بكل شاعر. نداء الأقرب ليس سوى نداء الأصعب. ليس كل وضوح يلبي ويطيع. الصمت قريب واضح حد أنه ينبض تحت الجلد ويرتعش في جوف العظام ويمج بين النظرات ويفر قرب الرموش. نداء من داخل عتمة الكلمات صوب الأشياء: الغرف، الأشجار، الممرات، يباس الجدران، وفراغ الساعات، مسيل الطرق السرابية، الخزائن، الحواف الأليفة المعضوضة بنظرات عابرين مجهولين، الأحاديث المتقطعة، الرغبات المبتورة، نداء الظلال التي تمرض كما لو أنها تتعافى، ونداء الأحجار لا تتكلم لفرط عذوبتها وحيائها البهيمي. نداء للاحتضان والتذكر والوداع. نداء رقيق ليس سوى نداء من هدّه قلب الأسى. يظل صوت بسام حجار صوتاً مشدوداً الى الألم، الألم الذي لا يتوقف عن الكلام، وبالكلام الذي في النهاية لا يمسك غير الصمت كما يمسك قاع البحر حجراً، يحبسه في الماء ولا يخليه عن الإقامة في الغرق كقمة مقلوبة. مع بسام حجار مُنحَت الكائنات الصامتة جدارة ومكانة أن تحضر عبر كلمات الشاعر الى وجودها الأكثر عرياً وبساطة. معه تحول الصمت القاحل والبارد الى حجر ثمري. يجدر بالحجر أن يغنى، أن يكون خاتمة درب الشاعر الى العالم وإلى الكلمات وإلى نفسه. الحجر غاية تستحق الحب الدائم بالرعاية واللوعة نفسها التي تستحق بها الثمرة النشيد والشغف. ليس الصمت ما تبدأ منه القصيدة، بل قوة الصمت التي تعذب الكلمات حتى تحملها وتنحتها من أحرف باهتة وضعيفة. تبدأ القصيدة من العزلة الوعرة والقسوة الضاربة. شعر بسام حجار مصاغ من رجاء كبير ولوعة عميقة حد الاختفاء. شعر مؤلف من هيام لا يفصح وخوف لا يزول. شعر كالظلال وكلمات كما لو أن طيفاً مرهفاً دونها في كتاب وتركها في وجه النسيان. لا يبرز من الشعر هنا كتل الأشياء وانغلاقها الداخلي، إنما حوافها وتفتحها من الحواف والزوايا الملموسة برفق وهدوء كهدوء الناسك. الأشياء صامتة، لكنها لا تتركز داخل كيانها ولا تتصلب، قدر ما تذوب خارجها، تذوب لتصفو وتستعيد بخار ما كانته، تستعيد البهاء الماضي الذي يكرمها ويحررها داخل عين الشاعر وقرب يديه.
ليس غريباً أن يلتصق بسام حجار بصمغ الذكريات، بكونها ألصق الأطياف المحبوبة، الأطياف الضئيلة والخفيفة والمرتعشة داخل ضآلتها الجنينية، والتي لا تكف عن الحضور والتأثير في لغة الشاعر التي تتشرب بها، وتضمحل معها في طور مركب من العشق والصداقة والمحو والزوال. ليس غريباً أن يفتتح “مهن القسوة 1993” بمقطع من آلام أيوب: “إن تكلمت لم تمتنع كآبتي وإن سكت فماذا يذهب عني”.
لم يصرخ بسام حجار في قصائده. لم يحملها ثقل الصراخ وانفعال الغضب. أغرم بالحجر الداكن والتلة المتموجة، والغروب الرحب. ارتقت المسافة بين الشاعر والأشياء الى مسافة وجد خجولة وألفة سخية حيث يمكن للفراغ أن يرسم وجهه الأنقى. لا أسنان في المادة لتعض يد قاتلها، ولا يد في قلب القاتل لتوقفه عن القتل، لا عنف في الضمير ليحول النزاهة والشرف الى صراخ. يبدو الصراخ مرفوضاً من الشاعر، لأنه يؤذي الأرض قدر ما يؤذي السمع ويؤذي الأشجار. الصراخ مؤذ لمن اختبر الأذى والوجع وظل مع الوجع والألم صامتاً كحجر في يديه. كان شعر بسام حجار اختباراً طويلاً في إنشاد الصمت وإنشائه ونزعه نزعاً لطيفاً من ثقله ويأسه وانغلاقه. مكث الشاعر في اختبار اليأس باليأس والعزلة بالشعر، من دون أن يحول الاختبار الى غاية أو اليأس الى حجة في وجه الحياة المستمرة على كل وجه. مكث ينظر ويسمع ويصغي بأناة من فتنته موسيقى الأشياء المهلة الذاوية، ظل ينظر من دون أن يذرف بالنظر الى جواب لا يرمي الإصغاء الى نار الحكمة التي تقتل اللسان بطلاقتها ورمادها.
لكأن الرؤية بداية كل خسارة، ولكأن الخاسر لا يحتاج جواباً على آلامه ورؤاه لها. صعوبة الرؤية تجعل الخسارة متحققة مسبقاً، تجعلها أمراً نافلاً. صاحبت الرؤية النزيهة البطيئة الصراع والتشوش والفوضى المحيطة. كانت عسيرة وضاغطة ومخيفة. يخاف الشاعر ان يرى من دون أن يتوقع نتيجة الكراهية والجنون التي تفتك بكل شيء. يخاف أن يرى تؤول الى: يخاف أن يعيش، يخشى النزول والسكن بين عثرات البشر وآلامهم الثقيلة وخيباتهم المريرة. مع ذلك فإن معظم ما كتبه بسام حجار مأخوذ عن تراب الألم وكآبات الخيبة وأنين الخاسرين. هي أيضاً كتابة مأخوذة من صمت الصور المرئية. كتابة صورية لينة ومؤاسية، إنها تعزي نفسها قبل قارئها. كلمات تعطف وتستبين بالمعنى الذي تخزن فيه الصورية مع العين التي ترافقها، برأفة لا محدودة، كل ما لا نقوى على تحويله الى كلمات. العثرات المحجوبة، وجه العثرات الكثيرة القابع في الخجل من سكنى العالم: “لا يجلو غبش الزجاج المرصع/ بأضواء بعيدة/ غير مطر خفيف/ ينهمر على الساحل الضيق لهذه الحجرة/ كأن الرجال الذين عادوا الى منازلهم/ يعبرون الهواء الثقيل بين الحجارة/ والأماني المتسخة/ الأولاد الذين يجمعون النحاس، والعثرات/ في أكياس كبيرة..”.
المستقبل
السروة انكسرتْ هذا كل ما في الأمر
حسن عبّاس
“السروة إنكسرت كمئذنة…/ وقال طفلٌ: كنت أَرسمها بلا خطأ،/ فإنّ قوامها سهل. وقالت طفلة: إن/ السماء اليوم ناقصة لأن السروة انكسرت./ وقال فتى: ولكنّ السماء اليوم كاملة/ لأن السروة انكسرت. وقلت أنا/ لنفسي: لا غموض ولا وضوح،/ السروة انكسرت، وهذا كلّ ما في/ الأمر: إنّ السروة انكسرت”. هذه القصيدة التي ضمّنها محمود درويش في مجموعته الشعرية “لا تعتذر عما فعلت”، قد استهلّها الشاعر الفلسطيني بتعبير استعاره من شعر بسام حجّار. رحل الشاعران، فالسروة غير قادرة على التظليل. لعلّها هرمت من الأيام كما يقول العابرون على الحطام في قصيدة درويش. هنا ضوء عليه بعد سنة على الغياب.
كان حجّار يخاف من ترك أثر وراءه. أدرك جيّداً هذه المفارقة التي يعيشها من يكتب. يحاول تورية كلّ أثر له، لكنه بفعلته يترك أثراً. هو شاعر أنطولوجيا الوجود بامتياز. طرق باب الوجود من خلال فكرة الموت التي كانت دائمة الحضور في أشعاره. كان دائم الشعور بالوحشة، تماماً كسروته، فـ”السروة أيضاً/ هي/ الوحشة”، يقول في قصيدته “تشبيه”، من مجموعته “مهن القسوة”.
كثير من الكتب والتعب
بدأ رحلته الشعرية مع إصداره مجموعته الأولى “مشاغل رجل هادئ جداً” (دار العالم الجديد، 1980). ومنذها أصدر كتباً عدّة أكثريتها شعرية: “لأروي كمن يخاف أن يرى” (دار المطبوعات الشرقية، 1985)، “فقط لو يدُكِ” (الفارابي، 1990)، “صحبة الظلال” (دار ميريم، 1992)، “مهن القسوة” (الفارابي، 1993)، “معجم الأشواق” (المركز الثقافي العربي، 1994)، “مجرّد تعب” (دار النهار، 1994)، “حكاية الرجل الذي أحبّ الكناري” (دار الجديد، 1996)، “مديح الخيانة” (المركز الثقافي العربي، 1997)، “كتاب الرمل” (دار المسار، 1999)، “بضعة أشياء” (دار الجمل، 2000 )، “سوف تحيا من بعدي” (المركز الثقافي العربي، 2001)، “ألبوم العائلة” يليه “العابر في منظر ليلي لإدوارد هوبر” (المركز الثقافي العربي، 2002) وأخيراً “تفسير الرخام” (المركز الثقافي العربي، 2006).
رحلة طويلة مع الكتابة، اوقفها الموت في اوجها، جعلت حجّار يشكو من كثرة التعب. “تعبٌ فقط، تعب الرجل يتعب تعباً. فقط”، يقول في قصيدته “مجرد تعب”، التي تنتمي الى ديوانه الذي يحمل اسم هذه القصيدة. كان يشعر بثقل الأشياء المحيطة به، هو الذي امضى حياته في تأمل الأشياء للوصول الى إدراك ماهياتها. يضيف في القصيدة عينها: “ويقول لك أحدهم: إنه مجرّد تعب. م.ج.ر.د. ت.ع.ب. أمر بسيط. فقط ستشعر لبعض الوقت، أنّ كلّ شيء هنا، أقصد في العالم من حولك، صار له حجم وثقل”.
أقلق حجّار نفسه بكثرة الأسئلة التي يطرحها. كان يسعى الى ابتكار تعريفاته الخاصة للأشياء، حتى إن لم يجد لها التعبيرات اللغوية المناسبة. لم يستطع إدخال نفسه والأشياء من حوله في منظومة تفكيره المؤسسة على الكثير من الشك والتساؤلات والسعي الى الجواهر. كانت النتيجة هي التعب. يقول في قصيدته السابقة: “تعبٌ كمثل أن تنتبه فجأة وتجد أنك في المكان الخطأ، في اليوم الخطأ. وتجد أنّك، نفسك، الرجل الخطأ. ومع ذلك تتظاهر بأنّ ما وجدته في هذه الأخطاء كلّها هو الصواب الذي أتاح لك أن تحيا الى الآن، وحين تنهار الأشياء من حولك، وتقيم على العتبة طويلاً وكثيراً وبإفراط ما بعده إفراط، تحسب أنّه مجرّد تعب”.
يصف نفسه بأنه “شخصٌ/ من الحجارة والكلس/ تفضحه الرطوبة/ والشقوق/ كمن يتكلم في نومه”، في قصيدته “جدار” من كتاب “لأروي كمن يخاف أن يرى”. هذه هي حالته أمام نفسه. كان يدرك مكنونات ذاته، وهذا ما فاقم من قلقه الناتج من غياب الإجابات الشافية على مصادر قلقه الاستفهامية. لم يكن قادراً على التعايش مع أجوبة فرضية لم تنجح في عبور غربال الشك الذي يضعه أمامها كشرط لازم لاستبطانها، هو الذي تفضحه الرطوبة كما الجدار.
عندما كان يفكّر، كان يحلّ في الأشياء، والأشياء تحلّ فيه. إنّه ما وراء الخطّ المنطلق من النفس الى الأشياء. كان يذهب الى الأشياء ليفكّر فيها كجزء منها، يحاول استنطاقها والاستماع الى منطقها الداخلي من دون تدخّل منه. كان ينسى نفسه فيسري سهوه تحت جلده كالقشعريرة، سهو شبّه الأسى به.
يصف في “تفسير الرخام”، كيف كان يسهو عن نفسه سهواً كصدع في رخام اللامبالاة: “سأكون ساهياً عنّي/ كمن يمعن التفكير/ جالساً على مقعد الحجر البارد/ في ردهة الأسى الذي لا يشبه/ الأسى/ بل يشبه السهو/ الذي لا يسري في الرأس/ أو العينين/ بل السهو الذي يسري تحت الجلد/ كالقشعريرة/ كغيبوبة البياض/ كنعاس المنهوكين/ كتنفس المرضى/ كعثرة في القلب/ كصدع في رخام اللامبالاة/ البارد كلامبالاة”.
ما يخالف هو لغات
رويَ أن سائلاً سأل أبا عمرو بن العلاء، وهو من أقدم نحاة البصرة ولغوييها (القرن الثامن الميلادي) “عن ما لو سُمع من العرب شيء مخالف، فقال له: أسمّي ما وافقني قياساً وما خالفني لغات”. بهذا الاستشهاد يستهل بسام حجّار نصّه المعنون “أيكون هذا ما يشبه الشعر”، الذي وضعه مقدّمةً لمجموعته “سوف تحيا من بعدي”.
هذا النص يشكّل مفتاحاً اساسياً لفهم نظرة الشاعر الى مضامين اللغة الشعرية. يعلّق على قول أبي عمرو بن العلاء معتبراً أن “مثل هذا القول كان في صلب “اختبار الشعر” لجيلنا”، اي جيل الشعراء اواخر السبعينات ومطلع الثمانينات. يشير الى انه والشعراء الذين كتبوا في زمن بدئه الشعري، انتموا الى الكتابة لا الى “لغتنا”. يقول: “ولكي نجد ما ننتمي إليه رحنا نكتب، فانتمينا الى كتابتنا لا الى “لغتنا” لأن لغتنا، إذا اصبحنا “نتعاجم”، استحالت “لغات”. لغات تكنّي وتورّي وتُعجم الأصول وتقيم الفرق في استعمال ثانٍ للكلام، ربما كان هو النثر المحض”.
الكتابة هي استعمال ثانٍ للكلام، وشروط إمكان الشعر ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإختلاف الذي يتحقق من خلال اللغة النثرية. يقول: “النثر إباحة المعنى وانتباه الى “الاختلاف” الذي يجعل الشعر ممكناً. انتباه الى “الفرق”؛ الفرق بين كيان الشيء وكونه في نفسه وبين إباحته المعنى والكلام والاستعمال والرغبة”.
القارئ هو الذي يصنّف نمطاً خاصاً من الكتابة شعراً، ولذلك فإن ما هو شعري يرتبط بالقارئ بشكل أساسي، فهو ذات تتلقى النص بمعزل عن مقاصد الكاتب. يعلي حجّار من شأن قارئ الشعر، لا بل يعلن أن لا وجود لسواه: “لا وجود لنقد الشعر ولما هو شعري، وما يوجد، بالفعل، هو قارئ الشعر؛ فالأحرى، أن تطرح أسئلة “الشعرية” في صيغ أخرى على القارئ الغُفل، شبيهنا”. تطرح هذه النظرة الى ما هو شعري إشكالية خاصة لمسها الشاعر من جملة مقتضبة للشاعر عباس بيضون، الذي قال له يوماً إنه يتردد في نشر ما يكتب شعوراً منه بموت القارئ. هنا طرح حجّار تساؤله الخطير في كتابه “مديح الخيانة”: “إذا كان القارئ لا يقرأ، أو لا يقرأ بالكفاية التي تقتضيها القراءة (أمبرتو إيكو) فما جدوى أن ينشر الكاتب ما يكتبه؟”.
أنطولوجيا تكتمل بعشر كلمات
لا بد لقارئ حجّار من أن يعجب بثراء لغته، وخصوصاً في “مديح الخيانة”، “معجم الأشواق” و”كتاب الرمل”. لا بدّ له من الاستمتاع بمصدر متعته الكبرى، وهي اللعب مع المعاجم اللغوية، وبخاصة مع “لسان العرب”، ومعجم الفيروزابادي. كان يرى في تتبع تاريخ المصطلحات رواية ذات مضامين اجتماعية تفوق أهميتها قراءة الأدب العالمي.
لكنّه عندما كتب الشعر، رأى أن كثرة العبارات هي فائض لا جدوى منه، فأعلن أنه كاتب يكتب بمفردات قليلة. يقول في نصّه “أيكون هذا ما يشبه الشعر” السالف ذكره: “لا أدري ما شأن الآخرين، غير أن خشيتي من الوفرة والاتساع جعلت منّي كاتباً بمفردات قليلة. وقد أحصيتها، إذا جاز لي، في كتاب أخير، فلم أعثر منها إلا على اثنتي عشرة مفردة هي: مفردة، غريب، درب، حكاية، ظل، أبي، صحراء، رمل، بئر، أثر، كتاب، معجم. فإذا حذفنا: “كتاب” و”معجم”، لالتباس تعريفهما، لم يتبقّ سوى عشر مفردات”.
اعتبر كلّ مفردة عالماً قائماً في ذاته، وأنه ليس علينا إلا الثقة بعملية الاشتقاق والتوليد التي تسمح بالتكاثر الى ما لا نهاية له من المعاني التي تختزنها كلمات قليلة. يقول في مقابلة معه أنه يعتقد “أن إثنتي عشرة مفردة كافية لتسمية العالم وأشيائه. في مقترب أولي، وبعد ذلك في إمكان هذه المفردات أن تتوالد إلى ما لا نهاية. يجب أن نتذكر دائماً أننا أبناء ثقافة قامت وتقوم على الاشتقاق، على التوليد الذي ينجب حتى شقاقاً، هذا الشقاق هو العصب الفعلي لعلاقة الكاتب سواء أكان شاعراً أم ناثراً بالكتاب. فحين أكتب لا أكون أنا كلياً ولا أكون الآخر كلياً، نكون أنا والآخر مشتركين في حالة واحدة للتعبير. المعجم الضيق يتسع لما هو أكبر مني بكثير لأن المفردة في اللغة تتضمن على الأرجح عالماً قائماً في ذاته، وليس علينا إلا أن نقصده باحثين، لكي نكتشف ما يختزنه من المعاني”.
عدم الاهتداء الى القول
يكشف الشاعر في نصّه “أيكون هذا ما يشبه الشعر” أنه لم يأنس من الأحاديث الخافتة إلا انقطاعها في موضع سرّ. وانه حاول القول في كلّ المواضع ولم يهتدِ الى القول. وكأن امكانات اللغة لم تساعده في التعبير عمّا يجول في خلده، ولذلك استشهد بقول للنفري أن “الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه فكيف يخبر عنّي”.
يبدأ “نصّ الغياب”، أحد مقاطع “معجم الأشواق”، باستشهاد لأبي حامد الغزالي يشرح فيه معنى الخواطر. يقول الغزالي: “… وأعني بالخواطر ما يحصل في القلب من الأفكار والأذكار… إمّا على سبيل التجدّد وإمّا على سبيل التذكار. فإنّها تسمّى خواطر من حيث أنها تخطر بعد أن كان القلب غافلاً عنها… فمبدأ الأفعال الخواطر ثمّ الخواطر تحرّك الرغبة”. يستنتج حجّار من ذلك: “يبطل الحضور عمل الفكر والفكر وهما إعمال الخاطر في الشيء”.
في “تفسير الرخام”، يعبّر شعرياً عن صعوبة القول التي يعاني منها، ويربط بين عدم قدرته على القول وبين عدم درايته بما تكتنفه اللغة من امكانات للتعبير: “فلا أبالي/ بلغة وجدتها/ في غضون عيش مباغت/ ولم أدر يوماً/ ماذا تقول لغة وجدتها/ مذهولة/ في غضون عيشي/ لم أدر يوماً/ ماذا اقول”.
يتحدث في “العابر في منظر ليليّ لإدوارد هوبر” عن انتحاله الكتابة بشكل غير ظاهر، ولكن ايضاً عن كتابته إنصاتاً لما يسرّ به خوفه. كأن الكتابة كانت مصدر طمأنينة للشاعر. يكتب لكي لا تخنقه الأفكار التي ترد الى ذهنه، وللتخفيف من مشقة حضورها: “أكتب ما لم أكتبه بانتحال فاضح وأكتب ما أكتبه إعياءً وإنصاتاً لما يسرّ به خوفي عماي الخرافي الذي يبصر من دون أن يبصر”. كان يكتب على حواف اللغة المعجمية. تتشابه الكلمات التي يستعملها مع ما نراه ونسمعه، ولكنها كلمات لا تخرج محايدة، بل تخرج بعد مرورها بمصنع بسام حجّار اللغوي. يقول في قصيدته السابق ذكرها: “ثم جئت لأولّد العبارة عبارات والجدران مرايا والهمس صراخاً معبّر لغات هي ظلّ لغات ماضيها صدى يتردّد بين الجنبات”.
كان يعبّر عمّا يختلج في نفسه من أفكار بمشقة يصفها في قصيدته “حكاية يوسف”، من مجموعته الشعرية “بضعة أشياء”، حيث يقول إن “الكلام مشقّة/ كمثل السير في الرواق،/ كمثل النوم في السرير/ كمثل اليقظة لهنيهات/ كالخدر المنسرب/ من ضوءٍ كالنعاس”. بسّام حجّار كان شاعراً ولكنه لم يكن “شاعراً بدوام كامل”، كما قال مرّة. كان يعاني من “عذاب النطق”، كما يقول في قصيدته “فقط لو يدك”.
مرايا ووجوه
يعلن في قصيدته “الراوي”، من كتاب “لأروي كمن يخاف أن يرى”، أنّه ليس الراوي. وكأنّ الأفكار تحضر الى ذهنه من دون إرادة منه، ومن دون تتبّعها وملاحقتها. تأتي وكفى. يقول: “طبعاً/ لست أنا الراوي/ ولست من ينسج/ خيطاً لعناكب روحي/ في الظلام،/ لأروي/ كمن يخاف أن يرى/ لأرى/ كمن يخاف أن يروي،/ …/ لأروي/ كلاماً يشبه ما يُروى/ في النوم/ أفكاراً تشبه ما تحلم/ به الأفكار/ …/ ولكن/ لست أنا الراوي/ ولست أعرف/ الآن/ ماذا/ يجدي/ هذا الكلام”.
ماذا لو اعتبرنا أن ما نراه ليست الأشياء كما هي في الحقيقة؟ عندما ننظر الى المرآة نرى صورة تشبهنا لكنها صورة تعيد تركيب مظهرنا وتختار له اتجاهات معاكسة. هناك شيء ما نمرّ به ونحن نلاحق صور ما يحيط بنا، فنراها كما تريد هي الظهور، أو كما نستطيع نحن رؤيتها. لا نراها على حقيقتها، فنحن لسنا منها، وهذه ضريبة التوسط.
في “تفسير الرخام”، يتحدّث عن وهم المرايا، عن شخوص غفيرة في وهم المرايا: “مرآة يبصر الطيف فيها/ شخصه/ واقفاً/ كما الأرومة بعد زوال الشجرة/ كما الرعشة بعد فوات اللمسة/ …/ شخوص/ شخوص غفيرة/ في وهم المرايا”.
وفي “مهن القسوة” يتحدّث عن المرايا التي تذهب بالوجوه، ويتساءل عمّا إذا كانت الوجوه التي في المرايا هي وجوهنا: “ولا أرى ولا أعرف أين تذهب المرايا بالوجوه. ولا أعرف هل الوجوه التي تأخذها المرايا تعرف أن تعود، ولا أعرف هل لنا الوجوه التي في المرايا”.
يدخل الشاعر الى عالم الأحلام في قصيدته “فقط لو يدك”. النوم هو رحلة، رحلة في “يقظة الموت”، لا نعرف مسارها، ونكتفي بـ”خرافاتها الملوّنة”: “لم أكن اعلم الى اين يفضي بي النوم كل ليلة. كنت أعلم أنه ليس موتاً، ليس يقظة، بل يقظة الموت في خرافاته الملوّنة”.
يأخذه النوم ويستبقيه، في “مهن القسوة”، ليدخل الشاعر في عالمه الذي يحبّه، عالمه المنسوج من الخيالات، والذي تعلو أهميته أهمية عالمنا لأنه أكثر انسجاماً مع نفسه، على عكس عالم اليقظة القائم على خيالات فردية من دون ان يعترف أحد بذلك: “النوم… أخذني اليه ويستبقيني فأبقى وأنام، ولا أعرف أيّ حلم أنا فيه”. النوم يختزن إمكانات لا نلمسها في اليقظة: “وكان حشد وكنت وحيداً. كان حشد وكنت وحيدة. كان حشد وكنّا معاً لا نلتقي إلا إذا بكينا، إذا صدّقنا أن النوم يجعلنا ملتصقين، وأنّنا ننام ريثما ينهض الصباح معك، فتغتسلين ويغتسل الصباح، فأنهض”.
النوم أيضاً هو إمكان غير الممكن، هو تغيير لنظرتنا الى الحياة. خلال النوم نرى أنفسنا بشكل أفضل مما نقوم به في حالة الوعي. لكن يبقى عالم الحلم قائماً بذاته، باختلافاته عن عالم اليقظة الذي يفرض علينا شروطه. يقول في “العابر في منظر ليليّ لإدوارد هوبر” انه “كان يكفي أن أحبّ ما أحبّ/ أن أنام/ أن أحلم/ لكي استيقظ ذات يوم في لوحة إدوارد هوبر/ في أمسياته المستوحدة/ لكي أدرك أنّ ما جعلته حياة/ في ما مضى/ كان ظلاً للحياة/ وصفاً لما حسبت أنّه الحياة/ لكي أدرك أن الحلم حلم/ أن اليقظة يقظة/ أنّ الألم ألم”.
الحلم هو حياتنا أثناء النوم، هو آخر اليقظة وأوّلها. “الحلم هو الختام اليومي للحياة، تمرين بسيط على الموت”، يقول الشاعر في قصيدته “لم يقل لي أحد ما معنى الأسى”، من مجموعة “تفسير الرخام”.
صحراء القلب
في قصيدته “فقط لو يدك”، يطلب إزالة “الصحراء” عن قلبه. “الصحراء” هي الشعور بالوحشة وعدم القدرة على “هضم” العالم الخارجي القريب. يقول: “هلا وضعتِ يدك الصغيرة على قلبي لكي تزول عنه الصحراء. لكي تهرب الذئاب منه وصدى قفارها. لكي يرحل العنكبوت الذي يتنفّس في رئتي، لكي يغادرني الخدر الذي ينتاب أشياء الرفوف والأدراج فأحسب أنني منها”.
في “مهن القسوة” ينعى الحيوية والاختلاف على طريقة التذمر من قلق “الإنسان ذي البعد الواحد” واغترابه: “كان اليباس في أبصارنا وكان في الشجرة والجبل وكان في المدن والبيوت، وكان اليباس في الصحراء. كان الملح يستخرج من عَرَقنا ودموعنا، ومن الأشواك التي ننبتها في البرك والأحواض والينابيع. وكان واحدنا يشبه الآخر حين يحيا وحين يموت”.
يمنح ابنته مروى إمكان الخلق التي لا يمتلكها أحد في قصيدته “ضعي زرافة في إناء، سمكة في حديقة”. فالطفولة، بما فيها من خصائص براءة ولامبالاة وقدرة واسعة على التخيّل، تستطيع إعادة تركيب العالم في مشهدية أكثر الفة للنفس البشرية، مشهدية تستطيع ملء الفراغات بين الأشياء ورؤيتها مليئة بالحب كالحب بين العصفور ووحيد القرن: “أسألك إذن/ لماذا لا ترسمين العالم كلّه/ لكي يتاح له أن يشبه شيئاً/ ضعي زرافة في إناء/ سمكة في حديقة/ ضعي عصفوراً ووحيد قرن/ في قفص واحد/ وصدّقي/ أنهما سيتحابان/ لأنّك تريدين ذلك/ بالعناد الذي يجعلك تحسبين النوم/ عطلة زائفة”.
كان يرغب بعبور العالم كطيف يرى ولا يُرى، يدوس الأشياء من دون ان تشعر بثقل خطاه، ويمضي من دون ان يترك أثراً. يقول في “مهن القسوة”: “قربي جاف وضواحي قلبي موحشة كهواء صفصاف، فارحلوا إذا كان الرحيل لا يزال ممكناً… لم أترك أثراً، لذلك لن تهتدوا إليّ. محوت، وأنا أمشي، الطريق، تتقدم من أمامي وتتلاشى من ورائي، وخطواتي ليست أبقى من نزوات عابرة. لم أترك أثراً. عجوز تكنس خلفي الغبار الذي تساقط من شعري وثيابي، عجوز تعسف الهواء الذي زفرته مراراً وأنا اختنق”.
تصعب معرفة سبب قلق حجّار وحيرته. يؤكد في “حكاية الرجل الذي صار ظلاً”، من مجموعته “مجرّد تعب”، أنه “ما كنت منذ البداية هكذا. أقصد لم يخلقني الله هكذا، وحيداً ومتروكاً للحيرة إذ لا أجد من يصحبني وأكون ظلّه. ولكن ليتني أذكر بالدقة التي تتوخون كيف جرى لي ذلك فأصبحت ما أنا عليه الآن، أو منذ بعض الوقت”.
حديث عابر
علاقة الشاعر بذاته متوترة، فأحياناً ينتفي شعوره بوجوده. كذلك الأمر بالنسبة الى علاقته مع الآخر. ينفي نفسه في قصيدته “مزار بجنب الطريق”، من ديوانه “تفسير الرخام”، ويجعل حديثه عابراً: “إنّي لا شيء/ وحديثي عابر/ مثلي/ بين عابرين”. ثم يعود في القصيدة نفسها الى الحديث عن نفسه نافياً الآخر. “أنت لا شيء/ وحديثك عابر، مثلك/ بين عابرين/ لذلك/ أتحدّث عنّي/ أنا/ العابر قليلاً/ في ظنّك”.
لم يجب حجّار عن تساؤله حول جدوى الحديث. لذلك استحضر في “مهن القسوة” عبارة وردت في “سفر ايوب”: “إن تكلّمت لم تمتنع كآبتي وإن سكت فماذا يذهب عنّي” (سفر أيوب: 16،6). في القصيدة عينها لم يلحظ أيّ بعد إيجابي للحديث: “وحديثك كان البكاء الخافت، وحديثي يأس الغرقى”.
في “مزار بجنب الطريق”، من “تفسير الرخام”، يستحضر صورة للحجر تتعدّى صورة القبر الحاضرة في ديوانه المذكور. فهو يتساءل عن معنى الحجر، الشيء الذي يجسد افتقادنا الصلة مع الأشياء المحيطة بنا: “لا أحد هنا يحبّ الحجر/ أو أنس الى برودته/ وصمته/ حتى المنامات المرعبة لم تبق للحجر معنى/ حتى الشجرة العاقر/ لم تثمر يوماً حصاة”.
يؤرقه التساؤل عن معنى أشياء العالم الخارجي، ويستحضر الغرف والبيوت، رموز المكان المقفل، التي تحيط بها جدران الذاكرة. كيف لا فـ”نحن أرواح البيوت المطمئنة” كما يقول في “مزار بجنب الطريق”. يستحضر في قصيدته السابقة “بيوت مرتجلة في العراء/ لم تكتمل بعد/ ولم يقطنها بعد/ أحد/ لكنها، منذ البدء، مأهولة بشخص الذكريات/ ولا تسمّى أضرحة فلا من يرقد فيها”.
لكن بيوت الذاكرة هذه تغلب فيها العتمة على الضوء، في صورة تكشف مدى حساسية الشاعر تجاه الأمور المحزنة، وعمق أثرها في نفسه، على عكس ما يسعده في حياته، خاصة أن الحياة غير ثابتة على حال، فمن صفاتها الرحيل: “كم الضوء رحيل/ كم العتم بقاء/ والبيوت في الذاكرة غرف معتمة/ وممرّات”، يقول في قصيدته “يغطون بالأبيض غيابَك” من مجموعته “فقط لو يدكِ”. هي بيوت اختفت النوافذ من جدرانها، فسجنته في قفص الذكريات المقفل: “والوقت أكثر مما تظنّ. لكنّ النافذة ليست هنا. أعني ليست على هذا الجدار أو على الجدار المقابل. ليست على الإطلاق”، يقول في “غرفة الخادمات”.
على الحافة القريبة لإلفتنا
“أرى حجراً على التلّة/ كأنه ينتظرني”، يناجي حجّار نفسه في “ألبوم العائلة”. الحجر والصخرة والرخام هي رموز للرحيل في لغته الشعرية، رموز لهذه الفكرة التي لم تغب عن ذهنه في معظم ما كتب.
ليست فكرة الحجر محايدة بل هي شغف المّ به كما يقول في قصيدته “لم يقل لي أحد ما معنى الأسى”، من مجموعته “تفسير الرخام”: “لا أدري ما شغف الحجر/ الذي ألمّ بي/ حجر أبيض يروي سيرتي/ من فم التراب/ ولم يفسّر لي أحدٌ من قبل/ معنى التراب/ وكائناته الضئيلة/ التي تدبّ ههنا وتحفر/ كأنّ رميم الغبار والحصى هذا/ هو الطريق المفضية الى سماء”.
اسئلة كثيرة يستتبعها الشغف بالحجر في القصيدة نفسها، اسئلة لا أجوبة عنها طرحت على طريقة اللاأدرية الفلسفية: “ولا أدري أيّ السماوات قد تسعى اليها/ الكائنات الضئيلة التي تحفر/ وئيداً/ في عينيّ وسمعي”، “ولا أدري ما الحكمة من اختصار عمري/ برقمين وفاصلة/ كأنني، في غفلة، عبرت/ من ضفة الى ضفة/ وبينهما مياه النسيان/ ولم ألمح – في عبوري -/ صورة تمحى/ أو مكاناً يزول”.
يأتي تفسيره للحجر في “تفسير الرخام”. هنا نعلم سبب شغفه بالحجر. إنه صمته الذي هو جزء من ماهيته. لن يأسى الحجر إذا هربت منه العبارة. يستهل هذه القصيدة باقتباس من ادمون جابيس، من كتابه “كتاب الهوامش”: “الحجر هو، بلا ريب، أقلّ أشكال الأبد فصاحة، غير أنه بالتأكيد أكثرها قابلية للتعيين. فوقه تنتصب صروحنا، وتعصف عواصفنا. عندما يستحيل الحجر شفيفاً، أو الأحرى، عندما تستحيل الشفافية حجراً، تغدو أحلام الأرض قاطبةً قابلةً للقراءة”. ثم يوضح مغريات الحجر مؤكداً العلاقة بين شغفه بالحجر وشغفه بالصمت: “لغات لا أفهمها/ بها قسوة النبرة/ وقسوة الصمت/ كأن الصمت حجر/ هناك/ كأن الصمت من معاني الحجر/ الأخرى/ التي يكتمها الحجر/ في قاموسه الحجريّ”. ثم يعود ويجعل معناه ملتبساً من جديد ليستبقي بعض معاني الحجر لنفسه: “حجر/ ابيض/ سهل/ (و)/ رخو”/ لم يجد المفسرون معنى له/ فأوجدوا سماء وأرضاً/ أرضاً فوقها كسرة سماء/ ونحتوا الحجر وأقاموه/ وحيداً، فيها”.
في القصيدة نفسها، يتخذ الحجر موطناً له، ويجعله المنفى الذي يشتهيه، في صورة تعبّر عن توقه الى الرحيل، الى حيث لا تخونه العبارات، حيث لا حاجة للكلام: “وذات يوم سوف يشفى الحجر/ منّي/ الحجر الذي هو موطني/ الذي هو دارتي البعيدة/ أو ربّما قلبي/ وقد طالما ظننت أنه المنفى الذي اشتهيه بعيداً”.
الرحيل هو فكرة حاضرة دوماً في شعر بسام حجّار. إنه رحيل من أحبّهم، فتركوه مع ذكراهم. هو رحيل الأخت والأب وجمع ممن لم يتركوا له وقتاً لنسيانهم: “أنّ الذين رحلوا لم يتركوا لنا وقتاً/ لكي ننسى” (“نجلس على الحافة القريبة لإلفتنا ونفكّر”). يستنكر فكرة الموت الفردي لأن هناك من سيبقى ويتألم منه، “فلا أعرف لماذا/ يفترق الجمع ولماذا/ يموت كل شخص بمفرده؟”
يشرح في “حكاية الرجل الذي صار ظلاً”، من مجموعته “مجرّد تعب” بعض اسباب رغبته في الرحيل. يتحدّث عن صعوبة زواله ويعلن ضجره من وجوده: “ما الذي يبقيني على قيد الحياة؟ أسِفٌ، لا بد أنكم أدركتم خطأ العبارة. أقصد ما الذي يبقيني، على أن تكون الحياة لكم ولسواكم ولمن يرغب أيضاً. لا تزيلني أحماضٌ ولا يحطّمني ثقلٌ ولا يطمرني تراب. رحماك أيّها الضجر!”
فكرة الرحيل ترد بكثرة في شعره هي فكرة ملتبسة. نراه ينشد البقاء لأن الرحيل هو المآل في النهاية، كما في “ألبوم العائلة”: “ان وحده العابر/ المدرك عبوره/ يريد أن يبقى/ ها هنا/ حيث الزوال”. لا يستعجل الرحيل، فالبقاء حالة نعبرها ولا نعود اليها: “أنّ وحده العابر/ إذ يدرك عبوره/ يريد أن يبقى”.
في “العابر في منظر ليليّ لإدوارد هوبر”، يشير الى مكان يتلاشى فيه الخفق: “كان يكفي أن أحيّي عابراً بالتفاتة/ أن اصغي الى خفق عبوره مبتعداً/ لأدرك أنّي أسير الى حيث يتلاشى الخفق/ ولا يصل أحدنا”. كما أنه يصير طيفاً في “اتبعني قال الملاك”، من مجموعته “بضعة أشياء”: “ما اماتني الموت/ لكنّه/ أحياني طيفاً/ وأحياني ظلاً/ يصحبه الملاك بعض/ الطريق”.
الألم غير المحتمل
الى الرحيل، كانت فكرة الألم دائمة الحضور في شعره. انه الألم الذي اختار وصف آنا أخماتوفا له في بداية سلسلة من القصائد تحمل عنوان “الألم” في “مهن القسوة”: “لا ليس أنا، إنه غيري يتألم./ مثل هذا الألم ما كان في طاقتي واحتمالي”.
يتفنن الشاعر في وصف الألم بأشكال وتعابير عدّة في هذه السلسلة. هو كالصدى المكتوم: “الألم حين الدموع أعمق/ من عينيك/ وتأخذك،/ كمياه جوفٍ/ وتصعد/ كالكلام الذي/ يردد صداه/ مكتوماً/ وحائراً/ بين الجنبات”. وهو مكان الألم بعد أن يزول: “ما لا يقال/ إلا/ همساً/ لا الألم،/ بل مكانه بعد أن يزول،/ مكانه الذي له/ يبقى موجعاً/ لشدّة ما يزول”. فكرة يكررها حرفياً في قصيدته “ما قاله أبي عن الشجرة والكناريّ والسعال”، من مجموعته “مجرّد تعب”: “إذ دائماً يحين الوقت الذي تعتاد فيه الألم، حتى إذا زال الألم أوجعك غيابه. يكرر في “حكاية الرجل الذي أحب الكناري” إقامته رابطة بين الألم والزوال: “الألم/ الأشياء زالتْ/ تستطيع الآن ان تغمض عينيك”.
المؤلم، بحسب الشاعر، هو ما يجعل روح الإنسان مجرّد وعي له: “ليس الألم الذي يجعلك تشعر بشدّة ما يؤلمك… فالمؤلم هو الماثل في جسمك، مستحوذاً عليه، ممتلكاً إيّاه، ويجعل من روحك مجرّد وعي له” (“مجرد تعب”).
يتساءل حجّار عن معنى الأسى في قصيدته “لم يقل لي أحد ما معنى الأسى”، من “تفسير الرخام”: “ولم يفسّر لي أحد/ ما الأسى/ ولم أجد في “قصص الأنبياء” خبراً/ عمّا رأيت”. يحاول سبر كنهه ليجد أن “للأسى تفاسير كثيرة”. وتفاسير كثيرة أيضاً تطال كل ما هو مصدر للأسى، فهناك “تفاسير كثيرة للأخت المستلقية على السرير”، “تفاسير كثيرة للأب”، “وللأم تفاسير كثيرة”، وهناك ايضاً “تفاسير كثيرة للحزن/ – بحسب الأبناء -/ من بينها/ اليد الرشيقة التي تسرّح الشعر/ …/ تفاسير كثيرة/ ساذجة/ ولكن/ ليس من بينها/ الموت/ لذلك/ لم يتعب الولد/ بل أتاه النعاس”.
بين الحلم واليقظة
يجمع الشاعر في “أيّنا، يا أيّها الطيف، يحيا؟”، من مجموعته “مجرّد تعب”، بين مفاهيم كثيرة حضرت بقوة في شعره. يتحدث عن الحلم وصِلته بالعيش وعن ضلال الطريق. لكنه يستحضر فكرة الطيف الذي يناجيه، ويضلّه بإدخاله في دوامة الأحلام التي لا تنتهي: “قلت أيّها الطيف، أيّنا يحيا؟ إنّي ابصر من يشبهني في الحلم الذي يبصرني فيه. أراني ضللت الطريق تُسلمني الشعاب الى شعاب، وأراه ضلّ الطريق تسلمه الشعاب الى شعاب. وما ظننته العيش كان حلماً أبصرته، وما ظنّه العيش كان حلماً أبصَرَه. أبصرناه معاً، الحلم الذي ما كنت فيه وكان عيشي، والحلم الذي ما كان فيه وكان عيشه. وحسبنا، معاً، أن الآخر منّا يحيا، وأنّ الآخر منّا أضلّه الطيف إذ أدخله الى الحلم الذي لا يقظة منه إلا الحلم الذي يليه”.
الحياة كلّها عبارة عن حلم. فما الفرق بينها وبين اليقظة إذا ما كانت الأخيرة حالة يكتنفها الغموض وتحضر خلالها الأشياء الى ذهننا من دون استئذاننا. يقول في القصيدة السابقة إن “الأحياء، أشقّاء لنا، حلموا ذات يوم أنّهم يحيون وصدّقوا. وما زالوا، أيّها الطيف، يصدّقون”. حتى الصمت الذي يعليه على العبارة يستحيل “ترجيع خلاء”، كما في “هي ذي الأبواب المغلقة”، من “مجرّد تعب”.
ابتكر الشاعر عالمه الخاص المشيّد وفق مفاهيمه الخاصة، وعاش فيه، وفيه أنشد الشعر، ومنه استقى المعاني. يقول في مقابلة معه إن “الشيء الوحيد الذي ابتكرته ربما هو وهمي بأني أحيا في الحيّز المحذوف، وأني أحيا ما أريد في رأسي، وفي النطاق الذي يتيحه لي جسدي”. كان عالمه يتغيّر وفقاً لخيالاته، فأحياناً يتأسس على مرآة وظلام كما في قصيدته “حكاية الرجل الذي صار ظلاً”: “ليتخيّل أحدكم الظلام مرآة، ولو معتمة، يسير بمحاذاتها على وجه الدقّة، ويصحبه الظلّ، ظلّه، في الجهة الأخرى من المرآة حيث يسود الظلام”.
خيال ذاك الشخص المغادر
في “ألبوم العائلة” يتساءل عن قدرة الصورة على احتواء وجه: “لا أدري كيف يكون وجهٌ،/ في الصورة،/ متعباً/ لا أدري إذا كان،/ في الصورة،/ وجه”. فكيف يمكن الصورة ان تظهر وجه إنسان منسوج من الخيال، فهو ربما يكون خيال ذاك الشخص المغادر، كما يقول في القصيدة نفسها: “ويخيّل إليّ، إن شئت انتشال الوقت من بئره، أنني ربّما كنت خيال ذاك الشخص المغادر، تاركاً وراءه دخان سيكارة وكأساً نصفها فارغ من النبيذ”. وهو أيضاً “الرجل/ الذي ظلّه/ وليس يدري/ أحدٌ/ وليس أحدٌ/ وليس أنت”.
في قصيدته “كأن تقول”، من الديوان نفسه، يضيف الى فعل القول صيغة “كأنّ”، في إشارة واضحة الى استعصاء صيرورة العبارة إخبارية، فالعبارة في شعره تقع على حافة المعنى الذي يحضر في الذهن، تدنو منه من دون أن تستطيع الإحاطة به، لذلك يبقى جزء كبير منه غير معبّر عنه.: “كأن تقول/ ليس المرأة/ تلك/ بل الصمت بينهما/ رحباً/ والكلام بينهما/ شارة ظلّين/ أنيقين/ وحيدين/ يمتزجان بظلّ مقعد”، “كأن تقول/ ليس التعب/ بل اعتيادك المنظر/ …/ عابراً/ أو/ مقيماً/ بين الهنيهات المظنونة/ لسيرتك”، “كأن تقول/ ليس هذا/ بل ما قاله سواك/ في التعب والدروب والظلال/ وفي أشياء أخرى”.
… كأن تقول: كل ما في الأمر أن السروة انكسرت! ¶
ملحق النهار الثقافي
قلتُ له صباح الخير –
فيديل سبيتي
في يفاعتي لم أكن قد رأيت وجوه الشعراء الذين أقرأهم. لم ينتبني الفضول تجاه رؤية وجوههم إلا حين كنت أقرأ بسام حجار. كنت متيقنا أن شاعرا كحجار لا بد يملك وجها غارقا في الاسئلة الضاجة بالقلق. رسمتُ وجهاً لبسام حجار قبل أن أراه. صنعتُ صورته في مخيلتي من شعره ومن وصفه هو نفسه لنفسه ولوجهه ولحركته ولعينيه اللتين إذ تنظران فإنهما تقبضان على ما تنظران إليه. تفلّيان مواضيع النظر تفليةً، تفصفصانها قبل أن تنهشاها ببطء وحذر، كالأرملة السوداء تنهش ذكرها بعد أن يلقحها. استقرت صورة صاحب “مشاغل رجل هادئ جدا”، جملة شعرية بعد جملة، وفكرة بعد فكرة، وانصهاراً في القلق ما بعده إنصهار. “أكلما اهتديت الى شجرة سبقتني الخضرة إليها؟”. كنت قد تصورته مدخنا ومعاقرا للكحول وهادئا وبطيئا وفي وجهه حزن قاس ومتشبث بكل قسمة من قسماته على حدة. هكذا: “رجل هادىء يرتب أفكارا هادئة في غرفة للمشاغل العادية، للطعام، للنوم، للحب، للألفة العائلية والخصام العائلي، للتطريز، للمحادثة، للانتحار”. هكذا صرت أعرفه قبل أن ألتقيه، وصار صديقي من دون أن يعرفني، وأقول في نفسي هذا الرجل ميت، وإن لم يكن كذلك فهو في انتظار الموت. إنه جنون الشعر المنبثق من الموت. نبتة الموت الجنائزية الجميلة.
في النهاية، وكما يفعل الشعر الحق، دفعني الى الشعر والى المنطقة المظلمة منه، تلك التي من أول شروط الدخول إليها الانتقام من الذات ودفع النفس الى الحافة حيث الموت هو أقرب ثيمات الحياة من هذه النفس، وأكثرها ألفة معها.
ثم مرت سنوات قبل أن أتيح لنفسي فرصة اللقاء به. كانت البلاد في معجن النفوس المريضة والمحتقنة بعد اغتيال رفيق الحريري، وكان بسام حجار يزيّن صفحات “نوافذ” بسخطه المرير من كل ما يحدث. قلت إن الأوان قد آن لأتعرف اليه. كنت أريد أن أطابق صورته الحقيقية مع الصورة التي خبّأتُها له في مخيلتي.
ذات صباح مشمس من صباحات الربيع البيروتي، دخلتُ الى مكتبه. كان يقرأ في مجلة فرنسية. قلت: “صباح الخير”. فرفع نظره عن صفحات المجلة، وردّ التحية بمثلها. في تلك اللحظة رأيتُ الحجر الذي يوسد رأسه ويغطيه، الحجر الذي يروي سيرته من فم التراب. ثم في لحظة التقاء سهام العيون بعضها ببعض، كنت أسمع في الغرفة ترنيمة ترتطم بالجدران ثم تهرب من النافذة المفتوحة نحو البحر: “لا أدري ما شغف الحجر الذي ألمّ بي. يوسدني حجر، ويغطيني حجر. وحجر أبيض يروي سيرتي من فم التراب برقمين فقط، وفاصلة”. كانت تلك القصيدة تتردد في رأسي على رغم أننا كنا صامتين. كانت تلك المرة الاولى ألتقيه فيها والأخيرة، ومنذ ذلك الحين يحتل الشعر، شعره، المسافة بيننا. الى ان حان أجله ولم أفاجأ. لم يفاجئني موت بسام حجار. كنت كلما قرأتُ قصيدة له أقول إن هذا الرجل مقرّب من الموت الفعل، لا ملاكه. لم يأت الموت ليأخذه كما يفعل مع سائر البشر، بل هو من استدعى الموت. كان يحاور الموت بهدوء. “قال الرجل حارس التراب: تحلقوا حول الضريح متلاصقين، فلا سعة في الارض، ولا تتركوا أثرا، إن غادرتم”. تساءلتُ طويلاً عن القصيدة التي لا تقول الا الصمت والموت معاً، والصمت والموت صنوان. لا أعرف حتى الآن لماذا ظننت دائما أن الشعر المتآلف مع الموت هو الذي يبقي هذا الرجل على قيد الحياة.
لا اعرف ما اذا كنت أبالغ حين أقول إني رأيت بسام حجار كتلة من الشعر المنحوت والحساس والمفعم بالسؤال الحقيقي، سؤال الوجود نفسه الذي يؤرق البعض منذ طفولتهم فيعجزون قبل امتداد العمر بهم. بسام حجار كان نحات جبل اللغة المرتفع. من صخر اللغة كانت تخرج القصيدة ومن عرق النحات الذي يضم الازميل والمطرقة إلى أعضائه، امتدادا الى دماغه ويديه.
الجسد الآن يتوسد الحجر ويغطيه. لكنه ترك أثرا كما لم يطلب: “لا شأن لي بمحبة من يحبني او يمقتني، إذ جعلتني، لأعوام متفرجا على ميتات صغيرة، وذات يوم سوف يشفى الحجر مني. الحجر الذي هو موطني. الذي هو دارتي البعيدة، أو ربما قلبي، وقد طالما ظننت أنه المنفى الذي اشتهيته بعيدا”. ترك الأثر الذي يتركه شاعر، جَبَل الشعرُ حياته وعجنها.
لكن ما يتسبب بالألم في فقدان بسام حجار شخصا وجسدا، هو أنه تركنا مع كل هذه القصائد نقلّبها، من دون أن نتأمل أن للعبة الشعر هذه نهاية. الألم هو أننا لن نقرأ قصائد جديدة يكتبها بسام حجار. كم كان حريا بنا أن نجد وسيلة تواصل ما بين حياتنا هنا وحياتهم هناك، لربما كنا قرأنا قصائد جديدة لبسام عما يعيشه في عالم ما خلف الحجر وما خلف القبر. لربما دلّنا ما اذا كان علينا ان نترك هذه الحياة نرتجي الحياة هناك
النهار