شيفرة المتنبي
وهيب أيوب
أكثر من عشرة قرون مرّت على رحيل شاعر العرب الأول أبي الطيب المتنبي، وما زال هذا الشاعر اللغز الذي كُتبِت عنه مئات الدراسات والكتب، وتضاربت الآراء حول سيرته وما اكتنفها من غموض، يربك الكثير من الباحثين والكتّاب، ومنهم عدد من المستشرقين، الذين احتاروا في أمره.
فالمتنبي لم يكن مُجرّد شاعر والسلام، فقد عُرِف بطموحه السياسي وبشعره الحكمي الذي لم يطاوله فيه شاعر آخر على مدى قرونٍ عديدة. وتُفيد مصادر عديدة منها الشاعر أدونيس في كتابه “الكتاب” وهو من ثلاثة أجزاء، أن المتنبي كان قارئاً ومطّلعاً على الفلسفة اليونانية التي هداه إليها أبو الفضل الكوفي، لهذا سنرى تشابهاً بين بعض أشعار المتنبي ومقولات فلسفية للفيلسوف الإغريقي الشهير أرسطو. وكانت بعض الحركات الباطنية في الإسلام قد اعتمدت الفلسفة اليونانية، بشكل أساسي، كقاعدة انطلاق لصياغة عقائدها المذهبية الجديدة، فكان من أهل السنّة، بالمقابل، أن ناصبوا أولئك العداء واعتبروهم خارجين عن الإسلام والسُنّة، وقد تمت ملاحقتهم وتقتيلهم وإفناء كتبهم؛ باختصار تم تكفيرهم جميعاً على مبدأ: “من تمنطق تزندق”. وكانت “المُعتزلة” التي ظهرت أواخر العصر الأموي وبداية العبّاسي والتي كانت تقدّم العقل على النقل، من أبرز الحركات الباطنية آنذاك، حيث ازدهرت حركات ترجمة الفلسفة اليونانية وبلغت أوجها في عصر الخليفة العباسي المأمون الذي كان شغوفاً بالفلسفة واعتنق مذهب المعتزلة، أثناء خلافته كما هو معروف، والتي تقول بخلق القرآن.
كما أن الجاحظ والرازي وابن الراوندي قد اعتنقوا مذهبهم.
ما يهمّنا في هذا الموضوع، أن غالبية الذين بحثوا في سيرة المتنبي ذكروا أنّه كان ينتمي لإحدى تلك الحركات الباطنية الفلسفية بل كان أحد دعاتها، ويُقال أنه كان يُطلق عليه، في إحدى مراحله، لقب الإمام وكان له مُريدين كُثُر. ويقول الأديب طه حسين في أحد كتبه عن المتنبي أنه كان داعيةً قُرمطيّاً، وقد انتمى للقرامطة الذين أنشأوا حركتهم ثم دولتهم في جنوب العراق والبحرين والإحساء، وكان لهم شأن كبير في تهديد مركز الخلافة العبّاسية في بغداد، إضافة لنشوء دولة شيعية أُخرى في المغرب وشمال أفريقيا- الدولة الفاطمية- التي امتدت إلى مصر بعد الإطاحة بالإخشيديين والاستيلاء عليها، على يد القائد الفاطمي جوهر الصقلّي، وبناء الأزهر كجامعة لمختلف العلوم، وباتت القاهرة، التي بنوها، عاصمتهم ومركز خلافتهم التي استمرت نحو ثلاثة قرون حتى سقوطها على يد صلاح الدين الأيوبي عام 1168م .
ويذكر المؤرّخ السوري سهيل زكّار في كتابه “أخبار القرامطة” في جزأين، أن المتنبي قد ذهب إلى مصر في عهد الإخشيديين مرتين، وكانت الأولى قبل أن يُصبح شاعراً مشهوراً، عندما ذهب كداعية إسماعيلي دون أن تُعرف هويته. من هنا نقول أن المتنبي، لا شك، كان صاحب مشروعٍ سياسي كبير يهدف من ورائه لإقامة إمارة على المذهب الشيعي، ربما “القرمطي”، ويقول في أحد أبياته مُرمِزاً إلى سموّ هدفه ورسالته:
يقولونَ لي ما أنتَ في كلِ بَلدةٍ وما تبتغي؟ ما أبتغي جَلَّ أن يُسمى
لهذا كان شعره في المدح أو الهجاء ذا أهداف سياسية وعقائدية، فقد مدح كافوراً لينال مراده وعندما توجّس منه كافور ولم يعطه مبتغاه قام المتنبي بهجائه بأقذع الألفاظ والمعاني، ومنها:
عـيـدٌ بِـأيَّـةِ حـــالٍ عُـــدتَ يـــا عِـيــدُ *** بِـمـا مَـضَـى أَم لأَمْــرٍ فِـيـكَ تـجـدِيـدُ
إنّــــي نَــزَلــتُ بِـكَـذابِـيـنَ ضَـيـفُـهُـمُ *** ُعَـنِ القِـرَى وعَـنِ التَـرحـالِ مِـحـدُودُ
جُـودُ الرّجـالِ مـنَ الأَيْـدِي وَجُـودُهُـمُ *** مـنَ اللِـسـانِ فَــلا كَـانُـوا وَلا الـجـوُدُ
صــار الخَـصِـي إِمــام الآبِـقـيـن بِـهــا *** فـالـحُـر مستـعـبَـد والـعَـبـدُ مَـعـبُـودُ
نـامَـت نواطِـيـرُ مِـصـرٍ عَــن ثَعالِـبِـهـا *** فقـد بَشِـمْـنَ ومــا تَفْـنـى العناقـيـدُ
بعدها حاول كافور الإخشيدي اغتيال المتنبي على أرض الجولان من الناحية الجنوبية في منطقة تُدعى “كفر عاقب”، كما يروي الكاتب السوري تيسير خلف في كتابه “الجولان في مصادر التأريخ العربي” ويورد فيه أبيات من الشعر للمتنبي تَصف تلك المحاولة:
أتاني وعيدُ الأدعياء وأنهم أعدّوا ليَ السودان في كفرِ عاقبِ
ولو صدقوا في جدّهم لحذِرتَهم فهل في وحدي قولهم غير كاذبِ
وعلى أرض الجولان أيضاً أنشد المتنبي قصيدته الرائعة في مدح أمير طبريا بدر بن عمّار محاولاً استمالته إلى مذهبه القرمطي الذي كان عليه بدر، ويقول في مدحه لابن عمّار:
وردٌ إذا وَرَدَ البحيرةَ شارِباً وَرَدَ الفراتَ زئيره والنيلا
مُتخضِّبٌ بدمِ الفوارس لابس في غيلهِ من لُبدتيه غيلا
وقد حافظ المتنبي طيلة حياته على إخفاء نسبه الحقيقي ولم يُفصح عنه حتى في شعره، إلا أنه كان يعتز بنسبه هذا تلميحاً حيث يقول في إحدى قصائده:
سيعلمُ الجمع ممّن ضم مجلسنا بأنني خيرٌ من تسعى به قَدَمُ
ويذهب البعض إلى إعادة نسب المتنبي لإمام الشيعة الثاني عشر الإمام “محمد بن حسن العسكري” وذلك على حد زعم الكاتب عبد الغني الملاح، ويضيف أن اسمه: “أحمد بن محمد بن حسن العسكري”، لكن آخرين نفوا هذا النسب، لتبقى مسألة نسبه حتى اليوم لغزاً لا يُحل.
ولكن مما لا شك فيه أن المتنبي كان على أحد مذاهب الشيعة وداعياً لهم. فقد عاش المتنبي تسع سنوات في كنف سيف الدولة الحمداني الذي كان شيعياً، وأنشد هناك أروع قصائده، ويقال أنه أحب أخت سيف الدولة “خولة” التي رثاها المتنبي بعد موتها:
ولا ذكرت جميلا من صنائعها إلا بكيتُ، ولا ودّ بلا سببِ
ثم زار الدولة الشيعية الأخرى التي أقامها الفُرسُ، وهي الدولة البويهية، ومدح صاحبها “عضد الدولة بن بويه الديلمي”.
وكان أبو العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، الذي أنكر الرُسلَ والأديان جميعاً أسوة بالرازي وابن الرواندي، قد كتب كتاباً عن المتنبي بعنوان “مُعجَز أحمد”، شرح فيه ديوان المتنبي، ولم يتطرّق إلى نسب المتنبي واسمه الكامل ليزيد الأمر غموضاً على غموض، وينفي المعري، ادعاء المتنبي النبوّة، التي سُجنَ بسببها، ويقول أن لقبه المتنبي مُشتق من النَبْوَة التي تعني العلو والارتفاع والترفّع والرفعة. وهذا ما كان يقوله المتنبي أيضاً.
وكان المعري عند ذكر بيت المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ
يهز برأسه ويشير إلى أنه المقصود بهذا البيت. والمعري كان من أشدّ المعجبين بالمتنبي.
والغريب في الأمر أن أحداً من فرق الشيعة لم تدّعِ نسب المتنبي إليها، لكنني بمحض الصدفة قرأت كتاباً من الحِكمِ والمواعظ للموحدين الدروز الذين نشأوا إبان الدعوة الفاطمية في مصر أيام الخليفة الفاطمي السادس الحاكم بأمر الله والذين اتخذوا من الفلسفة اليونانية قاعدة أساسية في بناء مذهبهم، خاصة فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو الذي يعتبر في المذهب التوحيدي “الدرزي” مولى الكَلِمة، وأفلاطون النَفسْ، وفيثاغورس العَقلْ، وجدت فيه مُقارنة لأبيات من شعر المتنبي بمقولات فلسفية للفيلسوف أرسطو، محاولين تبيان تأثّر المتنبي بفلسفته ومحاولته استقاء شعره الحكمي عنه. ولا أدري ما المقصود هنا، هل اعتبارهم أن المتنبي كان ينتسب إليهم؟ وهذا يتفق مع ما ذهب إليه طه حسين من أن المتنبي كان قرمطياً، والمعروف أن القرامطة والفاطميون هم على ذات المذهب، أم تدليلاً على عظمة فلاسفتهم اليونانيين بحيث أن شاعراً عظيماً كالمتنبي قد أخذهم قدوة له ومعيناً فلسفياً آمن به الشاعر من خلال انتمائه لأحد الفرق الشيعية حينها كما أسلفنا؟ أم الاثنان معاً؟ وربما يكون ما أورده طه حسين من انتماء أبي الطيب المتنبي لحركة القرامطة قريباً للتصديق، وقد يكون هذا سبب ذِكرْ المتنبي في أحد كتب الحِكمُ والمواعظ للموحدين “الدروز” ومقارنة شعره بمقولات للفيلسوف أرسطو!.
إن دمار المكتبة الفاطمية “دار الحكمة” التي كانت تضم أكثر من مليوني كتاب، منها عشرات ألوف الكتب الفلسفية والأدبية والعلمية وغيرها، بعد دخول صلاح الدين الأيوبي إلى مصر وإنهاء العصر الفاطمي، ومكتبات أُخرى تم تدميرها في بغداد وقلعة “ألَموت” التابعة لفرقة إسماعيلية سُميّت “الحشاشين” وزعيمهم الشهير حسن الصبّاح، على يد هولاكو المغولي عام 1258م، قد أضاع علينا الكثير من المعلومات التي بات تأويلها لغزاً مُحيراً في كثيرٍ من الأحداث التي دوّنت في حينه وضاعت إلى غير رجعة.
وكما كان نسب المتنبي ومسيرته مثاراً للجدل والاختلاف، كان مقتله أيضاً عام 965م، مثار اجتهادات عدّة، فالقصة الرائجة أنه قُتل على يد فاتك الأسدي خال ضبّة بن يزيد الأسدي التي هجاها المتنبي بقوله:
ما أنصف القوم ضبّة وأمهُ الطرطبة رموا برأس أبيه وباكوا الأم غلبة
فلا بمن ماتَ فخرٌ ولا بمن رغبة وإنما قلتُ ما قلتُ رحمة لا محبة
لكن آخرين يعتقدون أن موته كان اغتيالاً سياسياً بامتياز، لِما كان يُشكّل المتنبي من خطرٍ على الملوك والخلفاء، ويرجّح بعضهم أن االبويهيين وراء اغتياله، وربما غيرهم، ليبقى سر قتله كلغز حياته ونسبه وحقيقة معتقده.
وأكاد هنا أسمعُ المتنبي يختتم المقال بقولهِ:
أنامُ ملء جفوني عن شواردِها ويسهرُ الخلق جرّاها ويختصِمُ
waheeb_ayoub@hotmail.com