ديالكتيك عباس بيضون
هاني فحص
قدموه لي من بعيد.. أيام ازدهار منظمة العمل الشيوعي، على أنه كائن خاص، يلتبس فيه الثقافي بالخرافي، كل من هذين يذهب في عباس أو يذهب فيه عباس الى آخره فاذا بعباس في آخر اللقاء او الندوة أو المقالة أو القصيدة، وكأنه كتاب حاشد بالأسئلة. وكلما اكتمل لديه السؤال انفتح على سؤال آخر. في نهاية الحوار تجد ان عباس لم يعطك شيئاً، لأنه اعطاك كل شيء، أعطاك هذا الحماس الشديد والمرهق لكي تذهب الى مكتبتك وتدقق في ما ينقصها من الكتب، لأنك قررت بفعل الفايروس العباسي أن تقرأ ألف كتاب. في حين يؤكد لك عباس انه لم يقرأ إلا قليلاً من الكتب، لأن شروطه المعرفية، شروط إنتاج المعرفة في داخلة مبرمجة على النوع لا على الكم. ومن هنا يصبح عباس مكتبة أو بديلاً من مكتبة، ذلك الذي يقرأ كثيراً ولا يبدع إلا قليلاً بالنسبة لما يقرأ أو يختزن وكثيراً بالنسبة لمن يقرأون قليلاً ويفكرون قليلاً ويكتبون كثيراً فلا يبدعون إلا قليلاً او لا يبدعون. وهنا يفضي الثقافي الى الخرافي، ويجتذبك عباس الذي تختلف معه كثيراً جداًً، وتحتاج اليه ثقافياً ومعرفياً ووجدانياً كثيراً جداً.
عباس يرقى في عيون عارفيه الى مستوى “المختلف الذي يضارع الضرورة أو الوجوب.. من دون عباس، ولو مرة في الشهر او في السنة، تشعر أن مصدراً من مصادر حيويتك وأسئلتك قد غاب عنك او غبت عنه ولم تفلح.
هناك شعراء عظماء ابتلاهم الله بمستوى فكري متنوع الأعماق والتجليات الى حد ان فكرهم يعتدي على قصائدهم لتغيب أو تتراجع لحظة الشعر مرات في القصيدة لصالح فكرة جميلة، ولكنها آتية من وعي مفارق هو غير الوعي الفني الذي يتخلق داخل العملية الفنية لا خارجها.. وهناك شعراء كان بامكانهم ان يكونوا عظماء لولا أن قلة بضاعتهم الفكرية قد أفقرت رؤيتهم أو ملكتهم الإبداعية.. كانهم كانوا يحتاجون الى المدينة فآثروا ان لا يغادروا أريافهم فتريفوا في المدينة.. والشعر الشعر عندما يولد في الريف يشتعل ويحقق فرادته وتركيبه في المدينة. أصله ريفي وفصله مدني.
عباس.. عندما يكتب قصيدته يحضر فيه الفنان ويغيب المثقف أو المفكر أو السياسي يذهب في اجازة غير مدفوعة الأجر. ريثما ينجب الشاعر قصيدته ولكنه يفاجئك في آخر القصيدة مستمعاً بأدب وتواضع شديد للنقد. وعندما يشتغل المثقف في عباس، او يشتغل عباس في المثقف أو المفكر أو القارىء النوعي، يحضر الشاعر، الفنان يحضر الشعر، من حيث هو حساسية لغة وايقاع ولون.. ويتميز عباس الى حد يجبرك على التسامح معه في ما تختلفان فيه، لا تتسامح ولكنه عباس يأخذك بعيداً عن ذاتك، عن منظومتك الفكرية الخاصة.. كرجل دين مثلاً. يأخذك الى فضاء معرفي تتسع فيه المساحات التي تحتاج الى تحريرها من العصبيات القاتلة للمعرفة والمعطلة للشراكة في انتاجها.. يغريك بتوسيع المشترك مع الحفاظ على جمالية الاختلاف.
أول ما التقيته في حوار مع المرحوم الشيخ علي الزين حول مسائل شديدة الحساسية.. أدخلني في الحوار رغماً عني، فاضطررت الى مناكفته من دون قناعة كاملة بضرورة مخالفته.. وبعد عقود من الزمن كاشفته بالموافقة.. كان هو قد اصبح اشد هدوءاً وأنا أصبحت أشد قلقاً.
سمعته بعد اعتقاله اثناء الاحتلال عام 1982 من راديو العدو، قال كلاماً قليلاً، كأن عباس ليس عباس… تذكر ولده زكي الذي كان مفروضاً أن يكون ذلك اليوم ذكرى ميلاده الأولى ذكر ذلك وأوى الى صمت بليغ.. هذا عباس يذهب الى الصمت عندما يحتدم الكلام في داخله او داخلنا والى العادي عندما يصبح الحدث فوق العادة. عباس يواطئني على شيء من التزمت في سلوكي الديني الشرعي ويزيد احترامه لي على ذاك.
أما اذا تناقشنا فإنه يكشف فيه قاطعية غير عادية مع موجبات ذلك السلوك…
هكذا يوجد عباس بين أخلاقية المثقف المتعالي غير المستعلي وأمانة المفكر لفكره وعاطفة المواطن والصديق مع حب للمختلف لا مجرد تسامح تنازلي.. يساعدك عباس على أن تحب المختلفين معك لأنه يقنعك بأن المختلف شرطك (يقول عباس الآخر مزرعة الذات) وما عليك إلا أن تبحث عن شروطك وتغري شروطك بالبحث عنك.
في النهاية.. تكتشف أن أهم ما في تكوين عباس هو أنه سلبي عقائدي، أي ليس عقائدياً لا في الفكر ولا في السياسة، من هنا كان عباس في المنظمة من دون ان يكون فيها. ولذلك فهو الأقل فجيعة بمآلها، وعندما اقترب عباس من الحزب الشيوعي كان مطلبياً محضاً، ولم تفجعه النهاية الفاجعة.. كأن اليسار عموماً كان بالنسبة الى عباس فضاء فسيحاً لا بيتاً عائلياً. ولا زنزانة.. ولذلك فانه عندما تداعت العمارة خرج عباس سليماً يرفل عافية وفكراً ونقداً يستبق الحدث ولا يقتل احداً. شجاعة عباس أمام اجهزة الأمن ايام اليسار هي عين شجاعته امام السائد الطائفي الذي ينقده وكأنه ينقضه بقوة ولكن بمحبة أيضاً.
انا رجل دين قد تكون صحبتي لعباس شهادة لي أو علي ولا أتبرأ من رغبتي فيها.. ولكنها شهادة لعباس ايضاً او أولاً أو عليه.. شهادة تضاف الى مئات الشهادات الخالية من النفاق والمعلقة على حائط عباس الذي لا حائط له إلا في شارع الثقافة.. حائطه مكتبه وفراشه دفتر وقهوته حبر وإرثه أوراق..
نعم أشكو من عباس.. أشكو منه اموراً لو تخلص منها لفقد علامة من علامات فرادته.. النسيان.. (نيال عباس على النسيان).. ويا ويلي اذا ما ارسلت إليه مقالي من دون تصويره، لأن الاحتمال الأرجح هو أنه سوف يضيع.. كما ضاع ديوان عباس المخطوط وهاتفه وحمالة مفاتيحه وكنزته الصوف و.. و..
احياناً يوقع بي عباس ويفتح ذاكرتي وشوقي على ممارسات شعبية تجاه رجل الدين، لم أذق طعمها لأني جئت الى ثوبي من غير مكان ديني أو أسري، من دون موروث، فمانعت ان تقبل يدي مثلاً.. كنت لأخجل.. وعندما يعلو صوت عباس عليّ في النقاش، ألجأ الى جبتي وأعنفه لأنه يقسو على موقعي الديني.. فلا يعتم عباس أن يتقدم مني حاني الرأس ويهم بتقبيل يدي.. فأصدقه ولكنه لا يلبث ان يخيب ظني ليعزز حسن الظن به وبي.
أقبله في نهاية الأمر ويقبلني كما يقبل النقيض نقيضه أو تقبل الوردة شوكها. هكذا هكذا يمكن تحول الديالكتيك المادي أو الهيغلي الى جدل انساني.. أو جدل الحب.. أو جدل الحب والفن. هكذا تؤنسن المعرفة بتحريرها من القيود والعقد الشائعة لتصنع قيودها وعَقدها وأساورها وأقراطها وعطورها من كيسها وقماشتها وحبرها على حسابها ولحسابها.
المستقبل